كان الرئيس دونالد ترمب يحلم بأن يحكم في أميركا كسلطوي مثل الرئيس فلاديمير بوتين في روسيا، والرئيس شي جين بينغ في الصين، والرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا. أما الرئيس جو بايدن، فإنه بدا في الحملة الرئاسية ضد ترمب كما في البيت الأبيض مؤمناً بالديمقراطية ومدركاً لما يهددها في أميركا والعالم. وهو بنى إدارته على ركام إدارة ترمب بحجارة من إدارة الرئيس باراك أوباما التي كان فيها نائباً للرئيس، غير أنه مارس بعض سياسات ترمب التي جاء لنقضها، وخرج عن بعض سياسات أوباما بعدما تخوف كثيرون من أن تكون ولايته هي "الولاية الثالثة" لأوباما.
المهام الملحة
كانت إحدى المهام الملحة أمامه هي "تجديد الديمقراطية في الداخل وتجددها في الخارج"، كما كتب في "فورين أفيرز" بن رودس نائب مستشار الأمن القومي أيام أوباما، وكان شعار بايدن "أميركا عائدة إلى القيادة بقوة مثالها الديمقراطي" نهاية لشعار ترمب "أميركا أولاً"، وخروجاً عن سياسة "القيادة من المقعد الخلفي" التي مارسها أوباما بتأثير بن رودس المقرب جداً منه، لا فقط من أجل القيم الديمقراطية بل أيضاً كسلاح في الحرب الباردة الجديدة مع روسيا والصين: وهذا ما دافعت عنه وزيرة الخارجية سابقاً مادلين أولبرايت في مقال نشرته "فورين أفيرز" أخيراً.
"الديمقراطية ليست قضية ميتة"
فما رأته هو أن "الديمقراطية ليست قضية ميتة"، وإن "رافق انحسار الديمقراطية صعود الإرهاب والأزمات الاقتصادية وحرب سوريا وأزمة اللاجئين الكونية وكارثة الصحة العامة"، وما دعت إليه هو "وضع خط فاصل بين مغامرات أميركا العسكرية بعد 11 سبتمبر (أيلول)، وبين دعم أميركا للديمقراطية". لكن المثال الديمقراطي في أميركا فشل في مواجهة تحديات كثيرة ولم يعد قوياً وجذاباً كما كان، و"قمة الديمقراطية" التي دعا إليها بايدن 110 دول ومنظمات لم تكن على قدر الرهانات. فلا "بناء الأمم" نجح في أفغانستان والعراق وبلدان أخرى، ولا هذه البلدان جاهزة بعد لإقامة دول ديمقراطية حديثة، إذ الخيار في أفغانستان إما سلطوية حركة "طالبان" وإما "اللويا جيرغا" أي توافق رؤساء القبائل، والخيار في العراق إما الديكتاتورية، وإما "البارتي كراسي"، أي مشاركة كل الأحزاب في السلطة مع حق الفيتو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نموذج مختلف
ولكل من روسيا والصين نموذج مختلف هو أيضاً جزء من أسلحتهما في مواجهة أميركا والغرب، بوتين قال بوضوح لزائر أوروبي، "أنا عكس ميخائيل غورباتشوف. أهدافي وحدة روسيا وقوتها ومناطق النفوذ. أما الديمقراطية ففي المكان الثاني"، وأقل ما سجّله في "وثيقة روسيا على مقلب الألفية" هو، "روسيا لن تصبح نسخة من أميركا أو بريطانيا. والروس لديهم دولة قوية وثابتة وليست شيئاً يجب تغييره أو مقاومته". وفي رأي فلاديمير سيركوف الملقب "مهندس حكم بوتين"، فإن "روسيا يمكن الحفاظ عليها فقط كدولة عسكرية- بوليسية". وفي كتاب "الطريق الى اللاحرية: روسيا وأميركا وأوروبا"، يقول تيموتي سنايدر، "سقوط الحتمية التاريخية فتح باب سياسة الأبدية أمام بوتين، حيث تعيش الدول السلطوية على صنع الأعداء وتجميع المظالم والتلاعب بالحقائق"، والواقع أن تحديات الوضع الاقتصادي والاجتماعي والهموم المعيشية هي اليوم في طليعة اهتمامات الروس، قبل الديمقراطية.
سبعة أخطار
أما في الصين، فإن "الوثيقة الرقم 9 للعام 2013" تضع "الديمقراطية الدستورية الغربية والقيم الكونية لحقوق الإنسان" في مقدم سبعة أخطار على الحزب الشيوعي. والرئيس شي الذي يحكم قبضته على الحزب والبلد يتحدث عن الديمقراطية الشعبية على الطريقة الصينية كأفضل نموذج للحكم، فالقفزة الصينية الهائلة في النمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي والعسكري تمت بإدارة الحزب الشيوعي، وتجربة المواجهة مع كورونا أكدت أن الأنظمة السلطوية أكثر فاعلية وأسرع من الأنظمة الديمقراطية على الطريقة الغربية في مواجهة الوباء، ومن هنا التضييق المنهجي على الديمقراطية في هونغ كونغ على الرغم من التزام بكين صيغة "بلد واحد ونظامان" عند استرداد المستعمرة من بريطانيا. ومن هنا، أمر دينغ شياو بينغ الجيش بإرسال الدبابات لسحق الطلاب المطالبين بالديمقراطية في ساحة "تيان أنمين" قبل 30 سنة، لا بل إن كاي شيا الأستاذة في مدرسة الحزب الشيوعي المركزية في بكين والتي جرى طردها من التعليم والحزب، تصف الصين اليوم بأنها "توليتارية حديثة" لا مجرد سلطوية.
لكن من الوهم الرهان على نموذج واحد للحكم في العالم، هو النموذج الأوروبي والأميركي الذي ولد في أثينا أيام الإغريق، فالعالم متنوع ومتعدد، ومجتمعاته تحتاج إلى نماذج ملائمة لها في الحكم، و"ما يمكن فرضه هو السلطوية وليس الديمقراطية"، كما اعترفت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس أيام الرئيس جورج بوش الابن بعد فشل محاولات "المحافظين الجدد" في تغيير الشرق الأوسط الواسع. حتى ونستون تشرشل، فإنه وصف الديمقراطية بأنها "أقل الأنظمة سوءاً"، وأخطر ما يصيب الديمقراطية هو استخدامها كسلاح واستخدام السلطوية كسلاح مضاد.