بدا الأمر في نهاية المطاف وكأن المخرج الروسي أندريه زفياغنتسيف كان راغباً في أن يتخذ من الفيلسوف البريطاني توماس هوبس، وتحديداً من كتابه العمدة في مجال الفلسفة السياسية "لفياتان" شاهداً على ما يحدث في زمننا هذا، ولكن في بلاده الروسية بعد سنوات طويلة من ذلك التغيير الجذري الذي طاول الحياة السياسية فيها، ناسفاً كل ما شهدته تلك البلاد من أحداث ضخمة انطلقت مع ثورة أكتوبر (تشرين الأول) 1917 لتصل إلى تبديل صورة العالم وسياساته لأكثر من ثلاثة أرباع قرن انتهت إلى لا شيء. بل بالأحرى إلى عودة شبح واحد من أشباح ذلك الماضي القصير: الدولة التي يكني عليها هوبس بالتنين (لفياتان) الذي استخدمه عنواناً لكتابه.
الصدفة النافعة
من ناحية مبدئية لا بد من الإشارة إلى ما يبدو لافتاً في ظاهر الأمر، وهو أن لا هوبس ولا كتابه موجودان في الفيلم ولو بشكل عابر، لكنهما حاضران في ثنايا الفيلم، في معناه، في دلالاته. وأكثر من هذا في جوهر خطاب الفيلم من دون أن ننسى ذلك الهيكل العظمي الضخم لما يبدو على شكل تنين ميت مرمي على طرف مياه بحر بيرنتس الذي صور الفيلم إلى جواره. صحيح أن هذا الوجود قد يكون بفعل الصدفة ولكن من الواضح أنها صدفة عرف الفيلم كيف يشتغل عليها، وقد عثر فيها على ما يتطابق مع موضوعه وما أراد قوله عن "تلك الدولة التي تبقى مهيمنة حتى ولو تحولت إلى مجرد هيكل عظمي". ولكن بعد هذه المقدمة التي قد تبدو أشبه بالكلمات المتقاطعة، لا بد من سؤال يفرض نفسه: ما هذا الفيلم وما علاقته بالكتاب المذكور؟
من هوبس إلى توكفيل
يتحدث الفيلم عن امرأة ورجل. هو أكبر سناً منها بشكل واضح، وللرجل ابن مراهق من زواج سابق. واختار الفيلم لعيش هؤلاء الثلاثة بيتاً عائلياً قديماً يقع في منطقة نائية جداً. مثلاً إلى الشمال الغربي من العاصمة قرب بحر يهجع في وحدة مدهشة. ولما كان لا بد من إعالة العائلة جعل الرجل ميكانيكي سيارات يعيش في ذلك المكان البعيد مع أسرته الصغيرة بما يخيل إليه وإلينا أنه أقصى درجات الدعة والهدوء... فما الذي يمكن فعله بهذه العناصر؟ أي موضوع يمكن أن تركب؟ وأية علاقات يمكن أن تبني وسط هذا العالم المنعزل؟ في الحقيقة يمكن أن تكون هناك مئات الاحتمالات وأنماط لا تعد من العلاقات وكمٌّ من المواضيع جربه كثر من السينمائيين حين أرادوا لفيلمهم أن يكون سياسياً بالمعنى المباشر الذي اعتدنا عليه. ومن هنا ليس غريباً أن يبدو "لفياتان" فيلماً عن "الدولة" حين تكون وفق تحليل الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبس تنيناً حاضراً لا مهرب منه، حتى وإن كان سيبدو للحظة أن له شكل هيكل عظمي ماثل منذ زمن بعيد، قد لا يتحرك لكنه هناك في انتظار أن يتحول إلى ذلك الجسد الضخم المفترس، الذي بعدما تكون وظيفته خدمة المواطن (هوبس)، يصبح السؤال: ولكن أي مواطن وما تعريف المواطن؟ (توكفيل).
بعيداً من النظريات البحتة
مهما يكن من أمر لا يعتقدنَّ أحد هنا أن فيلم "لفياتان" الروسي، فيلم نظري عن أفكار هوبس وتوكفيل حول الدولة والمواطن. على الإطلاق، بل نحن هنا أمام فيلم روائي يدنو -كما في أفلام زفياغنتسيف القليلة الأخرى- من مشكلة العائلة والعلاقة بين الأجيال. ولكن ما العمل وعمدة القرية التي يعيش فيها بطل الفيلم، كوليا، وزوجته الشابة الجميلة، ليليا وابنه المراهق روما، يريد الآن أن يستملك بأبخس سعر، بيت كوليا العائلي القديم الذي كان جد هذا الأخير قد بناه على ساحل بحر بيرينتس في أقصى الشمال الغربي الروسي غير بعيد من حدود فنلندا؟ إن رغبة العمدة في استملاك البيت وتحويل المنطقة إلى مشروع سياحي يتماشى مع العولمة الجديدة على النمط المافيوزي الروسي المتلائم تماماً مع زمن القيصر بوتين، هي هنا ما يحول عمل المخرج إلى فيلم سياسي. بل فيلم تصل فيه "السياسة" إلى الذروة مع مشهد طريف يعمل فيه كوليا مع رفاقه وابنه على تصويب الرصاص نحو صور تمثل رؤساء البلد السابقين... حتى غورباتشوف. وسيقول واحد منهم "صور الباقين من الزعماء الأكثر حداثة احتفظ بها لمباراة مقبلة!"، هل هو خوف من الرقابة؟ لعله استمهال ريثما نعرف ما الذي سيحل بحكاية البيت.
التنين يفرض منطقه
غير أننا سنعرف منذ البداية أن العمدة لا محالة سوف يحصل على البيت، ليس فقط لأن الدولة/ التنين في صفه وحتى في زمن بوتين -صور بوتين معلقة في الدوائر الرسمية تأكيداً لتاريخية الفيلم- بل كذلك لأن "التقدم" في صفه، فالزمن لم يعد زمن رومانسية البيوت العتيقة، وكذلك لأن رأس الكنيسة في صفه، وهو أمر يتجلى في اثنين من أجمل مشاهد الفيلم. من جديد نحن أمام ثالوث السلطة والمال والكنيسة، فكيف سيمكن لكوليا المسكين أن يقاوم؟ كوليا الذي منذ أول الفيلم إلى آخره نعرف تماماً أنه في سبيله إلى أن يكون خاسراً... فأمام الواقع لا يكون ثمة أي مجال للأحلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وريث تاركوفسكي
وهذه حقيقة لا يبدل منها شيئاً أن يكون زفياغنتسيف اختار تصوير فيلمه، بالشاشة العريضة جداً، على غرار ما يفعل مايك لي في بعض أجمل مشاهد "مستر ترنر" أو نوري بلجي جيلان في معظم مشاهد "سبات شتوي"، تماماً كما أن خسارة كوليا لزوجته مرتين في الأقل: مرة أولى حين استعادت علاقتها مع ديمتري المحامي، على حساب علاقتها الزوجية، ومرة ثانية حين قتلت، لم يمنعها جمال المرأة والحياة الهنيئة التي كان كوليا يوفرها لها. فهناك دائماً تنين (لفياتان) ينتظر الدعة والسعادة لِيَلْتَهِمَهما، في لحظة ما. وما فيلم "لفياتان" سوى حديث عن ذلك التنين في تلك اللحظة. عن استحالة السعادة... وهو يكون في هذا المعنى واحداً من أكثر الأفلام سوداوية وجمالاً وواقعية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة. وهو، كذلك في هذا المعنى، فيلم يمكن اعتباره وريثاً شرعياً لسينما أندريه تاركوفسكي.