كان هابي سينغ، 23 سنة، "مزارعاً بالفطرة"، كما تتذكر والدته، وكان يمثل مستقبلاً واعداً بالنسبة لعائلته التي تعيش في ولاية البنجاب بشمال الهند.
بيد أن هابي كان واحداً من ملايين المزارعين في الهند ممن شعروا أنهم مضطرون للقيام بمسيرة إلى عاصمة البلاد دلهي للاحتجاج على مجموعة من الإصلاحات، التي تم إقرارها منذ أكثر من عام، والتي تمثل أكبر تغيير في الاقتصاد الزراعي منذ عقود.
وسُلط الضوء مرة أخرى على الاحتجاجات المستمرة منذ فترة طويلة في أعقاب حادث في أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم، أوقع عدداً من القتلى في ولاية أوتار براديتش، حيث اقتحمت مجموعة من السائقين، بينهم نجل أحد الوزراء كما هو مزعوم، بسياراتهم تظاهرة شارك فيها جمع من المزارعين. وأدى ذلك إلى مقتل أربعة من المزارعين، كما لقي أربعة آخرون بينهم صحافي مصرعهم في سياق الاشتباكات العنيفة التي اندلعت ]بسبب هذا الاعتداء[ في وقت لاحق.
وذكرت نقابات المزارعين أن الاحتجاجات أوقعت منذ انطلاقتها قبل أشهر 600 قتيل من المزارعين، على الأقل، ممن كانوا ليكونوا في بيوتهم منهمكين بالاعتناء بمحاصيلهم في هذا الوقت لو أنهم كانوا أحياء يرزقون.
وكثير من هؤلاء الضحايا هم، مثل هابي، من أهل ولاية البنجاب الزراعية، التي بدأت الاحتجاجات فيها أول الأمر. كان الشاب، 23 سنة، قد أُصيب بما يعتقد أنه كان نوبة قلبية وتوفي في يناير (كانون الثاني) 2021 بعيداً من بيته عند حدود تيكري وهو على أطراف مدينة دلهي.
تقول والدته بالجيندر كاور، 45 سنة، لصحيفة الـ "اندبندنت"، التي التقتها في منزلها في منطقة باثيندا، إنها لا تزال تصارع لتحمل فقدان ابنها الوحيد. وتضيف "هابي تحمل كل شيء عني".
وتتابع "يعاني زوجي من الاكتئاب، ولم يعمل منذ سنوات. لكن هابي لم يكن مهتماً بالدراسة، كان يخبرني أنه يريد فقط العمل في الحقول".
وتقول حكومة مودي إن القوانين الجديدة ستعالج المشاكل المنهجية المتعلقة بالطريقة التي تدار بها الزراعة في الهند، حيث يتم شراء معظم المنتجات بسعر ثابت من قبل أسواق الجملة المملوكة للحكومة.
وكان النظام قد صمم في ستينيات القرن الماضي في إطار "الثورة الخضراء" في الهند من أجل تعزيز الإنتاج والتصدي للمجاعة المزمنة. والآن وبعدما أصبحت تلك المجاعة شيئاً من الماضي، تريد الحكومة أن تفتح أبواب صناعة الزراعة أمام القطاع الخاص، معتبرة أن ذلك يمثل خطوة من شأنها أن تشجع على الاستثمار في كل أنحاء البلاد، وليس فقط في "ماندي"، أي السوق المملوكة لحكومة الولاية المحلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن المزارعين يعارضون هذه التغييرات بشدة، قائلين إن القوانين ستعرضهم لاستغلال عمالقة الأعمال التجارية الموالين للحكومة، وتحرمهم من "الحد الأدنى لسعر الدعم"، الذي يعتمدون عليه لتدبر احتياجاتهم المعيشية، كما ستسمح لتجار القطاع الخاص أن ينتزعوا أراضيهم منهم.
من جانبها، تعهدت حكومة البنجاب بقيادة المعارضة، وهي تدعم الاحتجاجات، بتقديم تعويضات تصل إلى 500 ألف روبية (حوالى 5000 جنيه استرليني) إلى أسر المزارعين الذين لقوا حتفهم خلال التظاهرات، إضافة إلى توفير وظيفة حكومية لأحد أقرب المقربين للضحية.
لكن تلفت كاور إلى أنه في حين أنها تلقت المال، لم يكن هناك تقدم في العثور على وظيفة لها أو لزوجها حتى الآن.
وتقول "في مثل عمري، عندما اعتقدت أنني سأرتاح وأدع ابني يعتني بكل شيء، فقدت كل شيء، ولا بد لي من الكدّ من جديد كي أكسب لقمة العيش".
وتحدثت "اندبندنت" إلى عدد من العائلات التي فقدت أحباءها في الاحتجاجات المستمرة، وقد ألقى أفرادها جميعاً اللوم على ما يسمى بـ "القوانين السوداء" الثلاثة، وحملوها مسؤولية تمزيق عائلاتهم.
في هذ السياق، اضطر غورفيندر سينغ، 25 سنة، أن يقوم مقام أبيه، 55 سنة، الذي توفي جرّاء حادث في أغسطس (آب) المنصرم وهو في طريق العودة من منطقة تيكرى المتاخمة للعاصمة دلهي حيث يعتصم آلاف المزارعين منذ 11 شهراً.
وسينغ الأب، وكان عاملاً زراعياً لا يملك أرضاً من قرية بهاتال في منطقة مانسا في إقليم البنجاب، ترك ديوناً بقيمة 60 ألف روبية (578 جنيهاً استرلينياً) ترتبت عليه لاستئجاره أرضاً مساحتها 8093.71 متر مربع.
وكشفت دراسة الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية لأكثر من 400 من المزارعين الذين لقوا حتفهم في الاحتجاجات، أصدرتها جامعة البنجاب في أغسطس الماضي، عن أن معظم الضحايا من المزارعين كانوا عمالاً زراعيين لا يملكون أرضاً، أو مزارعين هامشيين يملك الواحد أرضاً لا تتجاوز مساحتها نحو ألف متر مربع، وذلك كما أوردت صحيفة "تريبيون".
ووجدت الدراسة أيضاً أن غالبية المتوفين كانوا من مناطق تضررت جرّاء المحنة التي أصابت القطاع الزراعي.
فقد أدت هجمات الحشرات إلى تدمير محصول القطن لهذا العام في أنحاء البنجاب، الأمر الذي جعل عائلة سينغ تشعر بالقلق لكونها لا تعرف كيف ستتدبر أمر إيجار الأرض الذي سيحين موعد سداده في نوفمبر (تشرين الثاني).
ويقول غورفيندر سينغ إن "إيجار أرضنا يبلغ 120 ألف روبية (1170 جنيهاً استرلينياً)، دفعنا نصفها في أبريل (نيسان). ويحين موعد تسديد الدفعة الثانية في أقل من شهر. لقد تم تدمير محصول القطن، لذا فقد تكبدنا خسارة فادحة".
أما والدته شيندر كاور، 50 سنة، وشقيقته هارمنبريت، 20 سنة، فقد أوضحتا أنهما بدأتا بالشغل كعاملتين مياومتين، أجر الواحدة بين 250-300 روبية (2.43- 2.92 جنيه استرليني) في اليوم، في حقول مختلفة لجمع المال اللازم. وتشير عائلة سينغ إلى أنها لم تتلق أي دعم مالي أو عرض عمل من الحكومة.
ويقول سينغ "دعونا ننسى التعويض؛ حتى قاضي تحقيق المحكمة المحلية لم يأت لمقابلتنا".
وقد وقّع في أغسطس أماريندر سينغ، وهو رئيس وزراء البنجاب حينذاك، على سياسة لتوظيف 104 من ورثة المزارعين الذين لقوا حتفهم في سياق الاحتجاجات. ومع ذلك، فإن عملية توزيع الوظائف بموجب قواعد التعيين الرحيم [برنامج حكومي يؤمن وظيفة لقريب المتوفي] تستغرق وقتاً طويلاً، اعتماداً على المؤهلات التعليمية والعمر والوظائف الشاغرة، إلى جانب معايير أخرى.
وتتساءل كاور "لن يلغوا القوانين. يموت أطفالنا أثناء احتجاجهم، ولن يقدموا لنا حتى الوظائف الموعودة. فمن أين لنا أن نعيش [نتدبر أمرنا]؟".
وتحاول عائلة ضانا سينغ، مثل كاور، في قرية خيالي شاهلان والي، في منطقة مانسا، أن تتدبر أمورها. وتوضح أرملته مانجيت كاور "لم يأت أحد لمساعدتي".
وتكبدت مانجيت كاور خسارة تصل إلى 50 ألف روبية (حوالى 480 جنيهاً استرلينياً) لأن محصول القطن في هذا العام لم يثمر. وهي استعانت بعمال مياومين لمساعدتها على عمل الأرض. وتذكر "ليس أمامي خيار سوى استئجار الأرض مرة ثانية في الموسم المقبل. لقد تمكنت هذا العام بطريقة ما. لكنني لا أستطيع أكثر من ذلك".
وكان زوجها واحداً من آلاف المزارعين الذين توجهوا إلى دلهي في بداية الاحتجاجات في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2020. غير أن ]ضانا سينغ[، وعلى خلاف الآخرين، لم يصل إلى العاصمة.
ويقول بالكار سينغ، وهو قروي كان مسافراً معه في تلك الليلة، "حين وصلنا إلى قرية أهما في هاريانا، كانت شرطة هاريانا تستخدم الشاحنات لتشكل حواجز على الطرق حتى لا تتمكن جراراتنا من الوصول إلى دلهي. كانت إحدى الشاحنات مسرعة وقد صدمت جراراً كان ضانا سينغ في داخله. فتم سحقه حتى الموت".
وعلى الرغم من اتخاذ قرار بتأجير أرضها بعد وفاة زوجها، ترى مانجيت أن الاحتجاجات يجب أن تستمر. وقد ذهبت هي وأطفالها إلى دلهي مرات عدة في 2020 للاحتجاج.
وتضيف "يجب إلغاء القوانين. ربما يكون الله قد أخذ ضانا لأن أجله قد حان. لكن هذا لن يثنينا عن القتال".
وتلفت عائلات أخرى إلى أنها قد أُجبرت على بيع أراضيها بعدما فقدت أحباء في الاحتجاجات.
مثلاً، فجع ناثا سينغ، 42 سنة، وهو من سكان قرية تشاوك في منطقة باثيندا بأخيه لاخا في مارس (آذار) الماضي، الذي لقي حتفه بسبب التهاب في المعدة وحمى أصابته عند حدود منطقة تيكري.
ويذكر ناثا "فقدت أنا وشقيقي والدينا ونحن صغاراً. وكنا دائماً نحن الاثنين معاً. لقد رحل الآن، وأنا بقيت وحيداً".
وعلى الرغم من أن ناثا قد حصل على وظيفة حكومية في أكتوبر، إلا أنه يشير إلى أنها قد جاءت بعد فوات الأوان. ويضيف "لقد بعت نحو ألفي متر مربع من الأرض التي أملكها. لم أعد أملك أرضاً حالياً. لا أرض لدي، ولا منزل ولا بيت ولا عائلة".
وأشارت العديد من العائلات إلى أن عرض العمل والتعويض، مفيدان، لكنهما لا يمثلان الحل للمشكلة الأكبر للقوانين الزراعية تحديداً.
ويعتبر جارميل سينغ، وهو أحد سكان قرية تشاوك أن ذلك "مثل المرهم المسّكن الذي تضعه على الجرح... ولن يحل شيئاً". وقد توفي نجله جاشانبريت، 18 سنة، بسبب سكتة قلبية على حدود تيكري في يناير (كانون الثاني) الماضي.
ويقول جارميل سينغ "وظيفة هذه الحكومة لن تعيد لي ابني. كان ابني يقول على الدوام إننا يجب أن نناضل من أجل إلغاء هذه القوانين. وبعد رحيله، قمت بتأجير أرضي. لقد فقدت أنا وزوجتي ابننا الصغير... نحن الآن ننتظر الموت ليس إلا".
وكانت المباحثات بين الحكومة ونقابات المزارعين من أجل إنهاء الاحتجاجات قد وصلت إلى طريق مسدود منذ 9 أشهر. وعرضت الحكومة التوقف عن تنفيذ القوانين لمدة 18 شهراً وإجراء مشاورات. ولكن المزارعين غير مستعدين تماماً لقبول ما لا يرقى إلى الإلغاء التام لهذه القوانين.
وقد تواصلت الـ "اندبندنت" مع ممثل الوزارة المركزية للزراعة ورعاية المزارعين، ومع سناجاي أغارول السكرتير العام للبنجاب، غير أن الاثنين رفضا إجراء مقابلة مع "اندبندنت".
تقول العائلات إن معركتها ستتواصل بسبب ما تصفه بعدم وجود تعاطف كاف من جانب الحكومة.
يوضح ناخا سينغ أن "أقل ما يمكن أن تفعله الحكومة هو إلغاء القوانين ... عائلاتنا لن تعود. ولكننا سنعلم في الأقل أن حياتهم [من سقطوا] لم تضع سُدى".
*المقالة نشرت في اندبندنت في أوكتوبر 2021 ونقض مودي القانون في نوفمبر 2021، ولكن من المزمع استئناف الاحتجاجات الزراعية في الايام القادمة
© The Independent