طوال فترة الحرب وفي الحقبة التي تلتها، غطّت الشعارات السياسية والحزبية الجدران في شوارع بيروت، تاركة آثار ما يسعى اللبنانيون إلى نسيانه بشتى الطرق، إلى أن أتى فن الغرافيتي ليزين تلك الجدران بأجمل الصور واللوحات. ينظر البعض إلى "فن الشارع" كأنه ظاهرة تمرد شبابيّة، فيما يراه آخرون كمتنفس للشباب ووسيلة للتعبير عن أفكارهم وآرائهم بحرية وجرأة. في كل الحالات، لا شك أنه استطاع أن يحوّل شوارع بيروت إلى "متحف مفتوح للجميع"، تماماً كما هو طموح من اختاروا التعبير والتغيير من خلاله، عاكساً ثقافة شعب وحضارته.
انطلاقة خجولة
انطلق فن الغرافيتي في بيروت كما في مختلف البلدان التي شهدت صراعات وحروب، فانتشر فيها كوسيلة للتعبيرعن الرأي الحر في ظل الأنظمة السائدة. بدأ بخجل يمحو آثار الحرب ومخلفاتها على الجدران التي شوهتها القذائف ولم تتزين إلا بتلك الشعارات التي تحفر في الأذهان أكثر فأكثر، ذكريات الحرب الأليمة. لذلك، انطلقت مجموعات من الشباب بفكرة رسوم يمكن أن تلعب دوراً، على اختلاف طبيعتها، في إزالة هذه الآثار، إلى أن أصبحت بمثابة العلاج لمن يرسمها كما للناظر إليها. وعلى الرغم من الانطلاقة الخجولة لـ"فن الشارع"، استطاع خلال السنوات الأخيرة أن ينتشر بشكل ملحوظ في مختلف المناطق بمزيد من الجرأة، وتخلى عن قالبه "غير القانوني" واتسعت مساحة الحرية في التعبير، لا بل وضعت له أطر قانونية في بعض الأماكن مما سمح بالتوسع فيه أكثر فأكثر.
البداية
أسس عمر قباني مع أخيه التوأم فريق "أشكمان"، إحدى أولى الفرق التي انطلقت بظاهرة "فن الغرافيتي" في بيروت، مركّزةً على الخط العربي الذي يشكل أساساً للفريق ويتمسك به في الرسوم كافة. أوضح قباني أن الانطلاقة بالنسبة إليه ولأخيه، كانت تأثراً بما نتج من الحرب اللبنانية وما خلفته من آثار. فكانت البداية في تلك الحقبة، إلى أن تطور رسم الغرافيتي كفن قائم بذاته في التسعينيات بشكل أوسع وظهرت فرق عدة تبنته.
وأشار قباني إلى تمسّك "أشكمان" من البدايات بالخط العربي الذي تعلّم أصوله في الرسم من الخطاط علي عاصي، فأصبح وجود الخط العربي في رسم الغرافيتي يعكس أسلوب فريق "أشكمان" بامتياز. ولعلّ وجود "الشدّة" هو بمثابة توقيع للفريق على رسومه وأصبح الكل يتعرف إليها من خلالها، إضافة إلى الشخصيات الكرتونية المعتمدة بشكل واسع في رسوم "أشكمان". وبحسب قباني "لا بد لنا من التمسك بلغتنا الأم، إذ يبدو واضحاً ابتعاد الشباب عنها. وكان هذا تمهيداً للجيل الجديد من المجموعات التي تتبنى فن الغرافيتي لتتخذ هذا الاتجاه أيضاً وتعبر عن أفكارها مستخدمةً اللغة العربية بشكل أساسي لتعكس ثقافتنا من خلال فن الشارع الذي تحوّل إلى فن راق قائم بذاته.
فقد بدأت معظم الثورات في هذا الفن في العالم من خلال رسوم صغيرة إلى أن أصبح أكثر انتشاراً، خصوصاً في الدول العربية، حيث تظهر رسوم الغرافيتي بما تتطلبه من جرأة كوسيلة للتعبير ومشاركة مع الآخرين في أفكار قد تكون مماثلة في كثير من الأحيان".
من الموسيقى الى الرسم
وأضاف "بداية كنت وأخي نهتم بموسيقى الراب بشكل أساسي إلى جانب الرسم كفنانين مستقلين. مع الوقت، استطعنا خلق هذه المنصة لنعبر من خلالها عن أنفسنا وأفكارنا، ونتشارك بها مع شباب آخرين. ففي المنطقة، مررنا بحروب كثيرة ومن الطبيعي أن يولد ذلك لدينا كشباب، ميلاً إلى التعبير بوسيلة سلمية من دون ضوابط وبطريقة إيجابية. فن الغرافيتي أتى كنتيجة طبيعية للمحيط الذي نعيش فيه للتعبير بطريقة سلمية، فكان من الممكن أن نخلق فناً جميلاً يحل محل البشاعة المحيطة. وبالنسبة إلينا، موسيقى الراب تماماً كالغرافيتي وسيلتا تعبير قد تكونان مختلفتين في الظاهر وفي الطريقة، لكنهما تصبان في الخانة ذاتها".
مما لا شك فيه أن "فن الشارع" يحمل الكثير من القوة والجرأة في الرسالة التي يسعى إلى إيصالها. وما يميزه ويزيد من أهميته أنه يمكن التعبير من خلاله عن مساحة واسعة وعامة، هي في متناول الجميع فتصل الأفكار والرسائل إلى أكبر شريحة من الناس.
من الرسم بالخفاء إلى الإطار القانوني
خلال السنوات الأخيرة، شهد فن الغرافيتي تحولاً لافتاً من حيث الإطار القانوني، أو حتى أهدافه. انطلاقته كانت لمحو آثار الحرب بطريقة سلمية، لذلك كان الرسم بشكل أساسي في الشوارع الكبرى حتى يرى الرسوم أكبر عدد ممكن من الناس، لكنه اتخذ مع الوقت منحى مختلفاً مع انتشاره بطريقة مدروسة. بات معتمداً في المناطق المحرومة، يزينها ويخفي مخلفات الفقر والحرب واليأس فيُحدث تغييراً ولو بسيطاً في حياة الأشخاص الذين يعيشون في هذه المناطق. وفي كل الحالات، بقي رسم الغرافيتي هادفاً يسعى إلى إيصال فكرة أو رأي أو رسالة معينة.
من جهة أخرى، يوضح عمر قباني "في البدايات كنا نرسم بالخفاء في ساعات الفجر الأولى، بعيداً من الأنظار لاعتبار ما نفعله ممنوعاً من دون إذن رسمي، تطورت الأمور مع الوقت وأصبح من الممكن الرسم على المباني الكبرى بإذن من البلديات المعنية. واليوم وإن لم يكن رسم الغرافيتي مسموحاً بالمطلق، أصبح له إطاراً قانونياً في بيروت من خلال لجنة خاصة للغرافيتي لتنظيمه وتجميل المدينة وتطويرها، فدُعيتُ لأكون من أعضائها وندرس طلبات الرسم ونعطي الإذن للمعنيين".
هذا ما يشكل تغييراً جذرياً طرأ على فن الغرافيتي الذي أصبح فناً قائماً بذاته يغذي ثقافة البلد ويخاطب الناس ويتواصل معهم ومع أفكارهم. بدأ هذا الفن مجرداً من معانيه الحقيقية في نظرة الناس لكنهم سرعان ما أصبحوا يرونه بمزيد من الجدية والفهم والوعي، فينتج منه تبادل أفكار وآراء.
"سلام" في الفن
انطلاقاً من أهداف فن الغرافيتي في التعبير الحر عن الأفكار والتطلعات، وفي ظل الأوضاع الصعبة في المنطقة ونظرة العالم السلبية إليها، أراد فريق "أشكمان" التقدم بمشروع يحمل معه رسالة "سلام" إلى العالم بهدف تغيير النظرة إلى لبنان كبلد يتميز بإمكاناته الإبداعية وإيجابيته. "شعرنا بمسؤولية كفناني غرافيتي تجاه بلدنا. من هنا، أردنا كتابة كلمة كبيرة على سطوح المباني يمكن رؤيتها من الجو. رسمنا كلمة سلام على سطوح مجموعة من المباني في إحدى المناطق المحرومة والمهدمة في طرابلس وهي منطقة عانت الكثير في الحرب. خلال ثلاثة أسابيع تعاوننا مع أهالي المنطقة منهم من عاشوا الحرب، وقد أسهموا معنا في رسم هذه الكلمة، فكان المشهد رائعاً من الجو. امتدت الكلمة على مسافة 1.4 كيلومتر وقد أسهمت بالنسبة إلينا في تغيير ولو بسيط لأهالي المنطقة. يشكل هذا المشروع فخراً لنا لأننا استطعنا أن نوصل رسالة جميلة للمنطقة وعنها، بفريق صغير قام بجهد كبير. أطمح اليوم إلى رسم كلمات مماثلة في بلدان أخرى".
قد يكون فن الغرافيتي بدأ في العالم قبل سنوات من انطلاقه في المنطقة، لكن مما لا شك فيه أنه يشكل اليوم ظاهرة فنية سلمية انتشرت بشكل واسع، تعبيراً عن رقي في تبادل الأفكار والآراء.