جدل قديم جديد، لا يفتأ يغيب عن الواجهة حتى يعود في صورة صراع بين الفصحى والعامية المصرية، صراع يتخذ كل "حزب" فيه ما يملك من أسلحة لينتقص من "الحزب" الآخر. في الآونة الأخيرة اشتعل الوسط الثقافي في مصر، خصوصاً عبر السوشال ميديا، بخبر الإعلان عن ترجمة رواية "الغريب" لألبير كامو إلى "العامية المصرية". وهكذا اندلعت "الحرب" مجدداً من جديد من دون الاطلاع على تاريخها الكامن في دراسات وكتب عديدة، فندت هذه الظاهرة وناقشتها بشكل علمي رصين بعيداً من الأهواء التي تدفع كل طرف إلى التمترس خلف رأيه، كما هو حادث الآن.
ويمكن تقسيم هذه الدعوات التي تنادي باستخدام العامية إلى ثلاث موجات في التاريخ المصري المعاصر، وسنعمل على تفصيلها في هذا المقال، علماً أنه كان لكل موجة منها أهدافها. ولكن قبل الشروع في هذا الحديث نشير إلى أن الازدواج اللغوي أو اللهجي هو ظاهرة طبيعة موجودة في كل اللغات، وقد رافقت ما يعرف بالعامية اللغة العربية منذ بدايتها وهي ليست بظاهرة جديدة. وقد جاء اهتمام العرب بها قديماً بعد الإسلام واختلاط الألسن العربية بأهالي البلاد الجديدة المفتوحة حديثاً وانتشار اللحْن، ما دفع إلى رصد هذا الأمر من أجل تقويم الألسن ومجابهة "لحن العوام". واستمر هذا الازدواج اللهجي، وأصبحت الفصحى هي لغة الإبداع الرسمي، فيما شكلت العامية لغة الإبداع الشعبي من حكايات وسير وفنون شعرية مثل "الدوبيت" والمربعات والموال، وصولاً إلى الزجل وشعر العامية.
الحالة المصرية
هذا الخلاف بين الفصحى والعامية في مصر منذ العصور المختلفة حتى بداية عصر النهضة، لم يكن صراعاً ذا بعد قومي، واتخذ النمط القديم حول كون استخدام العامية في الإبداع هو نوع من ضعف القدرة على استخدام الفصحى في التعبير. ويشار هنا إلى أن رفاعة رافع الطهطاوي، نادى بالكتابة بالعامية المصرية لكن في موضوعات محددة، تتعلق بمصالح العامة، وبيَّنها في حرص شديد في كتابه "أنوار توفيق الجليل". أو كما تقول الدكتورة نفوسة زكريا: "إن الذين دعوا إلى العامية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، لم يكونوا معنيين باللغة العامية لذاتها؛ وإنما لجأوا إليها؛ رغبة في أن تكون عنصراً من عناصر التفاكه والإضحاك، الذي يخفي وراءه نقداً لاذعاً لحياتنا الاجتماعية، والسياسية، ووسيلة لتثقيف العامة، وإطلاعهم على أحوال البلاد السياسية والاجتماعية".
واستخدم العامية في الصحافة رائدان من روادها وهما يعقوب صنوع وعبدالله النديم بوصفها أداةً للتعبير عن قضايا المجتمع. استخدام العامية في الصحافة "الثائرة" آنذاك كان بهدف سياسي، واجتماعي، قبل أن يكون لهدف قومي.
وقد لاقى يعقوب صنوع (1839 – 1912) هجوماً لاذعاً ممن وصفوا بالمعممين والمشايخ بسبب استخدامه اللغة الدارجة في مسرحه، لكنه رد عليهم الهجوم بهجوم وتحيز إلى العامية المصرية بوصفها "لغة الشعب". وهو ما يوضحه في مقدمة مسرحيته "موليير مصر وما يقاسيه" حيث يقول إنه لن يكتب باللغة العربية الفصحى، وإنه لن يسير على نهج القدماء، بل سيكتب بعربيته المصرية". ويرجع صنوع اختياره هذه "اللغة"؛ لكونها "أصدق تعبيراً عن الواقع"، فضلاً عن أنها "اللغة التي يستخدمها الناس في أحاديثهم اليومية. فحتى أصحاب المعارف والفنون، والمشايخ أنفسهم يستخدمون العامية في حياتهم". كما سخر صنوع من الذين يتعصبون للغة الفصحى، واصفاً إياهم بأنهم يتحدثون بـ "النحوي"، وبلسان الفقهاء، ويميلون في أحاديثهم إلى لغة لا يفهمها الشعب، وقد ساعدته هذه "اللغة" في استنطاق شخصيات مسرحياته بما يتناسب مع عملها. كما اعتمد يعقوب صنوع على استخدام اللهجات كمادة للإضحاك في مسرحه.
الموجة الأولى والمستشرقون
ويمكن القول إن هجوم يعقوب صنوع على الفصحى وتفضيله العامية في إبداعه المسرحي، كان بداية الموجة الأولى للدعوة الى الكتابة والترجمة بالعامية المصرية وترك الفصحى. فبعد توقف مشروع مسرح يعقوب صنوع في مصر عام 1878 لخلافه مع الخديوي إسماعيل، ظهر المستشرقون على الخط وساروا على المنهاج الذي سار عليه. وكان أول هؤلاء المستشرقين ولهلم سبيتا، الذي ألف كتاباً عن "قواعد العربية العامية في مصر"، عام 1880 وهو أول كتاب أجنبي يتحدث عن العامية المصرية. وشكا سبيتا في هذا الكتاب من صعوبة العربية الفصحى، كما أنه اقترح اتخاذ الحروف اللاتينية لكتابة العامية، داعياً إلى استخدام العامية لغةً أدبية، مشيراً إلى أن التزام الكتاب بالعربية الكلاسيكية، لا يمكن أن يُنمي أدباً حقيقياً؛ لأن الطبقة الضيقة المتعلمة قليلة العدد، وهي الوحيدة التي يمكن أن يكون الكتاب في متناول يديها.
والكتاب الثاني في هذا المجال، كان للألماني كارل فولرس عام 1890، بعنوان "اللهجة العربية الحديثة"، وأشار فيه إلى أن أعظم خلاف بين اللهجة المصرية الحديثة، والإيطالية الحديثة، يتمثل وجود الأدب الإيطالي، أما اللهجة المصرية فلم يكن لها شاعر مثل دانتي وأنها لم تُستخدَم في أغراض أدبية مهمة. وتوالت بعد ذلك كتب المستشرقين التي هاجمت الفصحى ودعت إلى التصنيف والترجمة بالعامية المصرية.
وجاء أشد الهجمات على الفصحى من جانب وليم ولكوكس، مهندس الري الإنجليزي في مصر عام 1883، بحيث دعا في محاضرة له بعنوان "لماذا لا توجد قوة اختراع لدى المصريين الآن؟"، إلى استخدام العامية المصرية في الكتابة. وقام ولكوكس، بمحاولات عملية لإدخال نماذج أدبية رفيعة المستوى، وترجمتها بالعامية، كي يشجع المصريين على مجاراته، وحتى تتمكن العامية من اقتحام الميدان الأدبي. فترجم إلى العامية "هنري الرابع" و"هاملت" لشكسبير ونشرهما في مجلة "الأزهر" عام 1892. وقام بترجمة الإنجيل إلى العامية، وألَّف كتاب "الأكل والإيمان" بالعامية عام 1929. وكانت محاولات كوكس وغيره من الأوروبيين في هذا الصدد هي اللبنة الأولى للصراع الذي نشأ بين العامية والفصحى في مصر.
قوبلت هذه الدعوات بهجمة مضادة قوية انتصاراً للفصحى باعتبارها لغة دينية، وقومية، وكان الأساس النفسي لمعارضة الدعوة إلى العامية هو الشك في نية المنادين بها، في وقت أصبح الاستعمار هو المسيطر على مقدرات الحياة في مصر.
الموجة الثانية والقومية المصرية
نبعت الموجة الثانية والنداء باستخدام العامية من المصريين أنفسهم، لأسباب وطنية بحتة تزامناً مع أفول الخلافة العثمانية واشتعال ثورة 1919، ورواج شعار "مصر للمصريين" الذي رفعته ثورة عرابي 1881. فكان المصريون في هذه الفترة يبحثون عن هوية تجمعهم بعد سقوط الخلافة العثمانية، فوقع الاختيار على "الوطنية المصرية" بعيداً من الهوية العثمانية التركية لحكام مصر والهوية الإنجليزية للمحتل. وفي هذه الآونة ظهرت حركة التمصير بظهور القومية المصرية، وبلغت ذروتها إبان ثورة 1919، وانتقلت حركة التمصير إلى اللغة مع دعوة أحمد لطفي السيد إليها في سلسلة مقالات نشرها في صحيفة "الجريدة" عام 1913. واستجاب إلى هذه الدعوة عدد من الكتاب الشباب وقتها، وعلى رأسهم محمد تيمور الذي كتب أربع مسرحيات لدوافع عدة، أهمها الانتصار لفكرة تمصير الأدب، واتباعه المذهب الواقعي، وفي رأيه تكتب المسرحية بالعامية إذا كانت عصرية وبالفصحى في ما عدا ذلك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأنتجت هذه الحركة العديد من الإبداعات التي كتبت بالعامية المصرية لبيرم التونسي وفؤاد حداد. وتتابعت الأجيال التي رسخت مكانة العامية في الإبداع المصري مع نجيب سرور وصلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب. والقائمة تطول في سرد مبدعي الشعر في العامية المصرية الذين أثبتوا جدارة العامية في الكتابة الإبداعية.
الموجة الثالثة والهوية الفرعونية
بدأت الموجة الثالثة الراهنة في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 مع ازدياد حدة الاستقطاب بين التيارات الدينية والمدنية. فهناك فريق ينادي بالرجوع إلى الهوية المصرية القديمة (الفرعونية)، وبلغ الشطط ببعضهم إلى الدعوة لإقرار مناهج لتعليم اللغة الهيروغليفية في المدارس؛ منطلقين من أن "مصر مصرية وليست لها علاقة بالهوية العربية". أما الفريق الثاني فيرفض تلك الدعوات تشكيكاً في نيات الذين ينادون بها باعتبارهم "أذناباً للغرب وينفذون مخططاته التي تهدف بالأساس إلى ضرب الهوية الدينية في مصر".
ويلاحظ أن الموجة الأخيرة أخذت بعداً أيديولوجيا بالنسبة إلى فريقيها على حد سواء. وأحياناً النكاية السياسية في الخصوم. فالمعارضون للجماعات الإسلامية يرون أن التراث هو "أحد مصادر التطرف"، وأن التوسع في استخدام العامية هو وسيلة من وسائل تهميش هذا التراث. ويرون أن استخدام العامية في الكتابة يعطي نوعاً من التفرد لمصر عن بقية الشعوب بما تملكه من تاريخ زاخر بالحضارات التي تمتد لسبعة آلاف سنة. أما غالبية معارضي هذا الاتجاه فترى أن هدف المنادين بالعامية هو فصل مصر عن محيطها القومي والديني، والبعض يرى أن العامية غير قادرة على تحمل الأفكار الفلسفية العميقة، فهي لغة تداول بين الناس لا لغة فلسفة وعلم.
وبين هذين الصوتين الزاعقين، يظهر صوت خافت يبارك الإبداع أياً كانت لغته ما دام ينأى بنفسه عن "الأيديولوجيات المضللة". ويرى هذا الصوت كذلك أن هناك مجالات يصلح فيها الإبداع بالعامية، مثل المسلسلات والأفلام الاجتماعية، وأخرى تصلح لها الفصحى مثل الأفلام التاريخية وما يشابهها، بما في ذلك مجال الترجمة. ومن بين هؤلاء رئيس مجمع اللغة العربية في القاهرة صلاح فضل الذي أشار إلى هذا في كتابه "شعراء العامية من السوق إلى المتحف".