في ظل تباعد فرص الحوار بين الفرقاء السودانيين لإنهاء أزمتهم السياسية، وتواصل عمليات العنف التي راح ضحيتها 74 قتيلاً وأكثر من 2000 إصابة منذ اندلاع التظاهرات ضد قرارات قائد الجيش عبد الفتاح البرهان بإعلان حالة الطوارئ في 25 أكتوبر (تشرين الأول)، قُتل ثلاثة متظاهرين خلال احتجاج الآلاف من السودانيين في العاصمة وأحيائها، الاثنين 24 يناير (كانون الثاني)، ضد الانقلاب العسكري الذي نفذه البرهان قبل ثلاثة أشهر، وفق ما أفادت لجنة أطباء السودان المركزية.
وتجمع آلاف المتظاهرين في مسيرة إلى قصر الرئاسة وسط الخرطوم، كما خرج محتجون إلى شوارع مدينة أم درمان غرب العاصمة للمطالبة بحكم مدني ومحاسبة المسؤولين عن مقتل المتظاهرين الذين سقطوا منذ بدء الاحتجاجات ضد الانقلاب.
وأطلقت قوات الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين في شارع القصر الجمهوري.
وللمرة الأولى، أعلنت السلطات السودانية عدم إغلاق الجسور والكباري الواصلة بين مدن العاصمة الخرطوم الثلاث، مع تأمين المواكب والمواقع السيادية والاستراتيجية في وسط الخرطوم، واستمرار خدمة الإنترنت، ووجهت في بيان صادر عن لجنة تنسيق شؤون أمن ولاية الخرطوم، نقاط الارتكاز بضبط النفس وعدم الاستجابة للاستفزازات التي تصدر عن البعض، مؤكدة حرية التعبير مع الالتزام بسلمية التظاهر، ولفتت السلطات إلى أن الاعتداء على الممتلكات العامة وإتلافها مخالفة قانونية يحاسب مرتكبها.
ضغوط لإيقاف الانتهاكات
وسبقت هذه التظاهرة، تحركات وضغوط من قبل عدد من القضاة ووكلاء النيابات بإدانة عمليات القتل خارج القانون ضد المتظاهرين والمطالبة بوقف أعمال العنف المفرط الذي تمارسه الأجهزة الأمنية في البلاد بحق المدنيين العزل، ودعا 55 قاضياً وقاضية، بينهم قضاة محكمة عليا واستئناف، وقضاة آخرون من درجات وظيفية مختلفة في السلطة القضائية، لإيقاف الانتهاكات فوراً، وتقديم مرتكبيها للتحري الجنائي، تمهيداً لتقديمهم للعدالة لضمان عدم الإفلات من العقاب.
وأوضح القضاة، في بيان أُلحق بمذكرة قدمت لرئيس مجلس السيادة، أن السلطات العسكرية في السودان، خالفت كل المواثيق والعهود، منذ انقلابها في 25 أكتوبر الماضي، مشيرين إلى أن هذه الخطوة تأتي، وفقاً لما يمليه عليهم ضميرهم المهني وقسم الولاء للدستور والقانون، الذي أوجب منع ارتكاب الجريمة، وطالب 48 من رؤساء ووكلاء النيابة في السودان، النائب العام بتكوين لجنة عليا للتحقيق حول الانتهاكات التي وقعت أثناء فض التجمعات السلمية منذ 25 أكتوبر، والتي أدت إلى قتل المتظاهرين السلميين برصاص القوات النظامية ما سبب استنكاراً من المجتمع السوداني والدولي رفضاً لهذا التعدي غير القانوني.
جدول تصعيدي
وقام محتجون، الأحد، بإغلاق عدد من الطرق الرئيسة في الخرطوم ومدن الولايات باستخدام المتاريس (الأحجار)، كما نظمت لجان المقاومة بعدد من أحياء الخرطوم مواكب دعائية للإعلان لـ"مليونية 24 يناير"، ونشرت جدولاً للتصعيد الثوري لمدة أسبوع تضمن تتريس الطرق والتصعيد ووقفات احتجاجية، ومواكب للتنسيقيات، ويختتم بـ"مليونية 30 يناير"، ودعا تجمع المهنيين السودانيين، العاملات والعاملين بأجر والقطاعات المهنية والنقابية كافة، إلى المشاركة الواسعة والفاعلة في "مليونية الإثنين"، وأشار التجمع في بيان إلى أن "مليونية" الوفاء للشهداء التي انطلقت، الخميس الماضي، كانت إحدى ملاحم الجسارة والبطولة التي ظل يسطرها الشعب السوداني، وأكدت عبرها جموع الثائرات والثوار أن الطريق إلى الدولة المدنية آتٍ لا محالة لبناء مستقبل أفضل يحترم فيه التنوع والتعدد ويحتكم فيه للديمقراطية المقبلة من خلال الفعل الثوري لبناء تاريخ جديد قائم على الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة.
وحددت تنسيقيات لجان المقاومة في الخرطوم سبع نقاط تجمع لـ"مليونية الإثنين" حيث ستكون وجهتها القصر الجمهوري (الرئاسي)، تشمل باشدار، ومحطة سبعة، وحديقة القرشي، وصينية القندول، والإستاد، وبنك بيبلوس، وجامع النيلين، حيث تلتحم المواكب في حديقة القرشي لتتجه نحو شروني، ثم ينقسم الموكب إلى ثلاثة مسارات رئيسة، الأول يتجه من إشارة شروني نحو كوبري المسلمية، والثاني يتجه شمالاً مباشرة نحو شارع القصر، والثالث يتجه شمال غرب من إشارة شروني نحو السكة الحديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ودعت التنسيقيات إلى بدء حملة التتريس، منذ صباح الإثنين، في كل الشوارع والمناطق الخطرة، مع رصد المندسين وتصويرهم وإبلاغ اللجنة الميدانية بذلك، وعدم الاشتباك مع القوات النظامية على أن يتم الانسحاب مباشرة في حال استخدام الرصاص الحي، مع الالتزام بالسلمية خلال السير في المواكب.
عجز وإنهاك
وحول الجهود المبذولة لحل الأزمة السودانية، وإمكان نجاحها، قال أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعات السودانية الحاج حمد، "في الحقيقة، كل الأطراف المعنية بالحراك السياسي محلياً ودولياً أنهكت، ووصلت إلى حال من الشعور بالعجز، فعلى الرغم من أن جميع المعنيين بهذه الأزمة مع مبدأ الحوار، لكن لا يملك أي طرف الجرأة في أن يتخطى هذا الحاجز للممارسة الفعلية والعملية، لأن الشارع الذي يقود الحراك الثوري ذهب في اتجاه تصعيدي متواصل وسقف عال، وما زال لديه الاستعداد للدفاع عن هذا الخط الذي رسمه في التعاطي مع هذه الأزمة، وبالتالي، لا خيار غير إيجاد صيغة تضمن الوجود الفاعل والغالب للشباب في المجلس التشريعي المرتقب".
أضاف حمد، "لا بد أن يقتنع العسكريون والمدنيون بأن رؤيتهم غير مجدية لأي حل لهذه الأزمة، وأنهما في حال انعدام وزن، لذلك استسلموا إلى الحلول المقبلة من الخارج، لكن في رأيي أن مفتاح الحل بيد لجان المقاومة التي يجب أن تترك لها الفرصة لقيادة الحوار، باعتبارها الأساس في المعادلة التفاوضية، بخاصة وأنها توصلت إلى إعلان سياسي مما يعد خطوة متقدمة للأمام"، وأكد أستاذ الاقتصاد السياسي أن المجتمع الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة بنى مبادرته التي أعلن عنها رئيس البعثة الأممية في الخرطوم فولكر بيرتس في الثامن من يناير حول إعادة الشركة بين المكونين العسكري والمدني بموجب الوثيقة الدستورية، بإجراء تعديلات وإصلاحات عليها، وهذا طرح لن يجد القبول، فلا بد أن تتلمس المبادرة الأممية الوضع بشكله الصحيح حتى يكون الحوار ناجزاً والعبور بسهولة من هذه البوابة.
مرحلة استكشاف
في السياق، أكد القيادي في حزب الأمة القومي السوداني صالح حسن، أن المشهد السياسي في البلاد أصبح معقداً للغاية في ظل انسداد الأفق بين الأطراف مدنية كانت أم عسكرية، فليس هناك أي خيوط أمل تجمعها عند نقطة التقاء، فضلاً عن انعدام عامل الثقة وغياب دور الحكماء والعقلاء داخل المنظومتين المدنية والعسكرية، وبالتالي، الكل جار خلف التهور ما سيؤدي إلى مزيد من الانقسام والانفلات غير المحمود، وأشار حسن إلى أن مبادرة الأمم المتحدة لن تكون الحل لأنها غير مكتملة الأركان، فهي ما زالت في مرحلة الاستكشاف لمعرفة رؤية القوى السياسية والعسكرية ومدى استجابتها للجلوس في مائدة للحوار، بينما خلت الساحة المحلية عن أي مبادرة أو عمل راشد لإيقاف نزيف الدم بين أبناء الوطن الواحد، مؤكداً أن التمادي في العنف واعتقال الثوار واختطاف المصابين من غرف العناية المركزة لن يؤدي إلى حلول بقدر ما يعمق الكراهية والاحتقان وسط المجتمع.
وأكد القيادي في حزب الأمة القوي أنه لا مفر من الاستمرار في معادلة الشراكة بين المكونين العسكري والمدني للوصول إلى نهاية الفترة الانتقالية من خلال انتخابات حرة يشارك فيها كل السودانيين ما عدا حزب المؤتمر الوطني المحلول، مشدداً على أن "التمسك والتشدد في المواقف بين كل الأطراف المعنية سيؤدي إلى تدويل القضية السودانية، وبالتالي يصيبنا الندم الذي لا ينفع ساعتها".
المساعي الأممية
وفي إطار المساعي الجارية لإنهاء الأزمة سلمياً، أعلنت بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان مواصلتها المشاورات التي أطلقها رئيسها فولكر بيرتس في الثامن من يناير الحالي، لافتة إلى أن المشاورات المرتقبة تشمل الجيش وقوات الأمن في إطار المشاورات الجارية لحل الأزمة السودانية، وأوضحت البعثة في بيان، أنها "شرعت في جدولة بعض المشاورات التي كان من المقرر أن تجري هذا الأسبوع بسبب إغلاق الطرق والجسور"، وأشارت إلى أن المشاورات حتى الآن شملت ممثلين عن الأجندة النسائية، وحزب الأمة القومي، وحركة جيش تحرير السودان (المجلس الانتقالي)، والحزب الاتحادي الديمقراطي، واللجنة المركزية لقوى الحرية والتغيير، مبينة أن المشاركين في هذه المشاورات قدموا اقتراحات عملية حول كيفية المضي قدماً نحو الانتقال، وطرحوا وجهات نظر بشأن نطاق عملية المشاورات ومعاييرها، بما في ذلك سبل تعزيز الدعم الدولي، كما تناول جزءاً كبيراً من مناقشات القضايا العاجلة ذات الأولوية، بما في ذلك إنهاء العنف ومعالجة الأسباب الجذرية للأزمة الحالية.
وبينت البعثة مواصلة اجتماعاتها خلال هذه الأيام مع الأحزاب السياسية ولجان المقاومة في دارفور ومجموعات المجتمع المدني، بمن في ذلك المجموعات النسائية وعائلات شهداء الاحتجاجات الأخيرة وممثلو تجمع المهنيين والمجموعات الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام، كما سيتم إدراج الجيش وقوات الأمن في إطار المشاورات، مؤكدة أنها ستواصل توسيع نطاق المشاورات وإشراك المجموعات من كل ولايات السودان من أجل ضمان أن تكون العملية ملكاً للسودانيين.
وكان فولكر بيرتس قد أعرب، في وقت سابق، عن قلقه الشديد من أن يؤدي الانسداد السياسي الراهن إلى الانزلاق بالبلاد نحو المزيد من عدم الاستقرار وإهدار المكاسب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحققت منذ قيام الثورة.
وكانت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان قد جددت الدعوة للسلطات السودانية لوقف الاستخدام غير الضروري وغير المتناسب للقوة، بما في ذلك استخدام الذخيرة الحية، ضد المتظاهرين السلميين، وقالت، إن وضع حقوق الإنسان في البلاد لا يزال يشكل مصدر قلق بالغ، إذ يتعرض المتظاهرون السلميون إلى القتل أو الإصابة، بشكل شبه يومي، على أيدي قوات الأمن، فضلاً عن القمع الذي يتعرض له من ينتقدون السلطات والصحافيون المستقلون.