تؤسس زيارة رئيس الوزراء التايلاندي برايوت تشان أوتشا إلى السعودية مرحلة جديدة من العلاقات بين الجانبين.
فبعد توتر وفتور في العلاقات بينهما داما لما يزيد على ثلاثة عقود، يمكن أن تمثل هذه الزيارة انفراجة مرتقبة في العلاقات بين الرياض وبانكوك التي وصلت إلى أدنى مستوى لها دبلوماسياً والاكتفاء بمنصب القائم بالأعمال منذ أوائل التسعينيات، فيما أكد متخصصون أن تايلاند كانت الخاسر الأكبر في خفض العلاقات مع السعودية، بخاصة في الجانب الاقتصادي.
والتقى رئيس الوزراء بولي العهد الأمير محمد بن سلمان في العاصمة السعودية، في زيارة تمتد لـ48 ساعة. وقال البيان المشترك الذي أعقب يوم الزيارة الأول، أن البلدان اتفقا على تبادل السفراء في المستقبل القريب، تكثيف الاتصالات والتعاون بين المسؤولين في القطاعين العام والخاص.
واتفقا على "أهمية التزام جميع الدول بميثاق الأمم المتحدة ومبادئ الشرعية الدولية، والالتزام بمبادئ حسن الجوار، واحترام وحدة وسيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية".
وأشادت بانكوك بمبادرتي "السعودية الخضراء" و "الشرق الأوسط الأخضر" اللتين أطلقهما ولي العهد السعودي، فيما رحّبت الرياض بسياسة تايلاند البيئية المتمثلة في "الاقتصاد الحيوي الدائري الأخضر" التي تهدف إلى تعزيز كفاءة توظيف الموارد وتحويل المخلفات إلى ثروة، وتجديد التنوع البيولوجي والتخفيف من الآثار السلبية على البيئة.
وتناقلت وسائل إعلام دول "آسيان" زيارة أوتشا إلى الرياض باهتمام بالغ، ومدى جدواها في حلحلة الأزمة العالقة التي استمرت لعقود.
علاقات قوية
ترجع العلاقات بين السعودية ومملكة تايلاند إلى وقت طويل، إذ تأسست العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بشكل رسمي في أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1957، تلاها تبادل السفراء عام 1966.
ومع الطفرة النفطية في السعودية، سارع كثر من العمالة التايلاندية للانتقال إليها بحثاً عن مصدر رزق خارج الأرخبيل الآسيوي، فيما شهدت العلاقات بين الجانبين تطوراً ملحوظاً في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، تُوّج بزيارة نائب رئيس الوزراء التايلاندي ووفد رفيع من بلاده ضم ثلاثة من الوزراء إلى الرياض عام 1984، أعقبتها زيارة رسمية لوزير الخارجية التايلاندي إلى الدولة الخليجية.
وتجمع المملكتين عضويات تمثلت في حوار التعاون الآسيوي الذي أُسس عام 2002 لتعزيز التنسيق على مستوى القارة.
كما ترتبط تايلاند بالسعودية دينياً مع وجود أقلية مسلمة عند حدودها الجغرافية مع ماليزيا، إذ يتراوح عدد المسلمين التايلانديين حوالى 7.5 مليون مسلم. وتشير إحصاءات البعثة الدبلوماسية التايلاندية في السعودية إلى أن أعداداً كبيرة من الحجاج والمعتمرين يفدون إلى مكة سنوياً.
أزمة العقود الثلاثة
على الرغم من تطور العلاقات بين المملكتين، إلا أن هناك حادثة تعود إلى عام 1989 عُرفت بقضية "الماسة الزرقاء"، التي هُرّبت مع مجوهرات إلى تايلاند، فيما طالبت السلطات السعودية بانكوك بالتحقيق في الحادثة بعدما حامت الشكوك حول العامل التايلاندي الذي كان يعمل في أحد القصور في الرياض. وبالفعل، ألقت الشرطة التايلاندية القبض على العامل وحُكم عليه بالسجن.
وبحسب وسائل الإعلام، تواطأت مجموعة من رجال الشرطة الذين تولّوا القضية في إخفاء المجوهرات، التي تسلّمتها الرياض واتضح في ما بعد أنها مزيفة وأن الماسة الزرقاء النادرة مفقودة.
وبحسب الروايات المتواترة، فأثناء إعادة المسروقات، اكتشفت السعودية أن كثيراً منها كان مزيفاً مع اختفاء مجوهرات ثمينة، أهمها ماسة زرقاء نادرة. وفي الفترة ذاتها، تم التصعيد من جانب بانكوك باغتيال أربعة من الدبلوماسيين السعوديين على الأراضي التايلاندية كانوا يحققون سراً في قضية المجوهرات ومدى تورط قيادات في الشرطة، ثم اختفى رجل أعمال سعودي في البلاد للسبب ذاته على ما يبدو.
الأحداث المتلاحقة أدت إلى قطع العلاقات بين الدولتين، وسحب السفير السعودي من العاصمة بانكوك، والاكتفاء بوجود قائم بالأعمال في السفارة السعودية بتايلاند، وما زال تخفيض العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قائماً منذ ثلاثة عقود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع التخفيض الدبلوماسي، تقهقر التبادل التجاري والاستثمار والسياحة بين البلدين، التي تأثرت سلباً بالتزامن مع مغادرة حوالى 450 ألف عامل تايلاندي من الأراضي السعودية، فيما ألقت السلطات التايلاندية القبض على عدد من المتورطين في قضية اختفاء ومقتل رجل الأعمال السعودي. وعام 2014، قضت المحكمة الجنائية في تايلاند بحفظ القضية لعدم كفاية الأدلة.
النظام في تايلاند
لدى تايلاند نظام حكم ملكي دستوري، بحيث تُعدّ السلطات السياسية للملك محدودة، لكنه يُعتبر رمزاً للوحدة الوطنية في البلاد.
أما رئيس الوزراء، فيمثل أعلى سلطة تنفيذية، لكن المملكة التايلاندية ظلت تحت وطأة حكم العسكريين للبلاد لفترة طويلة، فتعرّضت لسلسلة من الانقلابات العسكرية كان آخرها انقلاب الجيش على الحكومة عام 2014، الذي حصل بموجبه العسكريون ورئيس الجيش برايوت تشان أوتشا على الحكم في البلد.
علاقات تجارية ووساطة عربية
وعلى الرغم من فتور العلاقات بين الجانبين، أكدت المصادر السعودية والتايلاندية باستمرار على وجود رغبة بعودة العلاقات إلى طبيعتها بعد حل الأزمات العالقة بينهما. كما أن التبادل التجاري بين البلدين يُعدّ في مستوى جيد، إذ تظهر التقديرات أن قيمة الصادرات التايلاندية إلى السعودية وصلت إلى 1.68 مليار دولار خلال عام 2020.
كما سعت دول عربية إلى التوسط في الأزمة الدبلوماسية بين الجانبين، على رأسها البحرين التي عقدت اجتماعاً ثلاثياً على هامش قمة حوار التعاون الآسيوي عام 2016 بين وزير الخارجية السعودي آنذاك عادل الجبير ورئيس الوزراء التايلاندي برايوت تشان أوتشا ورئيس الوزراء البحريني الراحل الأمير خليفة بن سلمان.
ثم كانت أولى الزيارات الرفيعة المستوى من الجانب التايلاندي. ففي يناير (كانون الثاني) 2020، زار نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية التايلاندي دون بارموديواني، الرياض في محاولة لإعادة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها.
انفراجة تحملها الزيارة
وعلى الرغم من اللقاء الرفيع في الرياض اليوم، الذي يُعدّ استعادة للعلاقة، إلا أن رئيس الوزراء يبحث عن علاقة استراتيجية مع الدولة الشرق أوسطية المهمة باعتبار هذه الزيارة الأولى من نوعها منذ ما يزيد على ثلاثة عقود ويريد أن تكون تاريخية.
وناقش أوتشا العلاقات الثنائية بين المملكتين والتنسيق في القضايا ذات الاهتمام المشترك، علماً أن زيارته أتت تلبية لدعوة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وفقاً لما ذكرته وزارة الخارجية السعودية.
الزيارة في الإعلام التايلاندي
ومهّد الإعلام التايلاندي لزيارة أوتشا، إذ نقل تفاؤل مراقبين تايلانديين بها باعتبار أنها ستسهم في رأب الصدع الذي أصاب العلاقات بين الجانبين خلال العقود الأخيرة، مع إمكانية السعي إلى عودة طبيعة العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى سفير، إذ تُعدّ الزيارة محاولة جادة لتوسيع آفاق التعاون بين الرياض وبانكوك وعودة العمالة التايلاندية إلى السعودية.
في السياق ذاته، يؤكد مدير مركز الدراسات الإسلامية في تايلاند ساروت آري أن عودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها من شأنه زيادة عدد العمال التايلانديين العاملين في السعودية، كما يبيّن أن زيارة رئيس الوزراء التايلاندي تمثل إشارة أو بروتوكولاً رسمياً يرسي قواعد تحسين العلاقات بين الجانبين.
وأشارت صحيفة "بانكوك بوست" إلى أن تحسن العلاقات بين السعودية وتايلاند سيمكّن البلدين من التعاون مجدداً ويرفع الآثار السلبية التي لحقت بالأخيرة، مثل منع سفر السعوديين إليها، والتجارة والاستثمار بين الجانبين.
فيما أظهرت بعض التكهنات أن المسؤول التايلاندي سيقدم تسهيلات للشركات السعودية للاستثمار في بلاده، إلى جانب إعفاء المواطنين السعوديين من تأشيرة الدخول إلى تايلاند.