يعرض كتاب "الأسراب الشامية في السماء المصرية" (دار ميريت) للكاتب والمؤرخ فارس يواكيم، لسيرة "الشوام" الذين قصدوا مصر واستوطنوها، وأحبوها بلداً وشعباً، واندمجوا في مجتمعها، وكانت مصر لهم واحة أمان. يتناول الكتاب وهو عمل موسوعي يتألف من 524 صفحة، دور "الشوام" في إطار النهضة الفكرية التي عرفتها مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين في الصحافة والمسرح والسينما والنشر والطباعة والترجمة. ويشتمل على قاموس يُعرِّف بهؤلاء "الشوام" الذين وفدوا من سوريا ولبنان وفلسطين، (والأردن!).
الكتاب يقتصر على تناول دور "الشوام" في إطار النهضة الفكرية التي عرفتها مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. وحصر فارس يواكيم هذا البحث في ما يخص مساهماتهم في مجالي الثقافة والإعلام فقط. وهذا البحث يغطي الجزء الأول من الكتاب، أما الجزء الثاني الذي جاء في نحو 200 صفحة، فيتضمن موسوعة التعريف بهؤلاء "الشوام"، بأسمائهم وأدوارهم تحت عنوان "قاموس الأعلام". ومن هؤلاء الأعلام الذي ذكرهم القاموس بحسب الترتيب الأبجدي: إيليا أبو ماضي، الشاعر المهجري، وجورج أبيض (رائد المسرح الجاد في مصر) والمطربة أسمهان وشقيقها المطرب والملحن فريد الأطرش، وفرح أنطون، الصحافي صاحب الأفكار التقدمية، والخطاط محمد حسني البابا، والد الفنانتين نجاة الصغيرة وسعاد حسني، وسليم وبشارة تقلا مؤسسا جريدة "الأهرام"، والصحافي أنطون الجميل و"أبو الشعر العامي المصري الحديث" الشاعر فؤاد حداد والمغنية لور دكاش والموسيقي حليم الرومي، والد المطربة ماجدة الرومي، والأديبة مي زيادة وجرجي زيدان، مؤسس "دار الهلال" وولداه إميل وشكري، والطبيب الأديب خليل سعادة وشبلي وأمين شميل و"أمير الكمان" سامي الشوا وكاتب السيناريو رفيق الصبان ويعقوب وفؤاد صروف والكاتب والسياسي رفيق العظم والمخرج والممثل المسرحي عزيز عيد والملحن فريد غصن والمؤلف المسرحي والشاعر بشر فارس وأبو خليل القباني وجورج شحاتة قنواتي وعبد الرحمن الكواكبي وأمين معلوف وخليل مطران وعزيز ميرزا وناصر الدين النشاشيبي وسليم نقاش وفارس نمر وروز اليوسف...
الجيل الأول
واكتفى فارس يواكيم في هذا الكتاب بالمنحدرين من بلاد "بر الشام" من دون التوسع الذي يشمل دول الهلال الخصيب، ومنهم نجيب الريحاني والأخوة أصحاب شركة "بهنا فيلم" والمونتير الشهير ألبير نجيب، وهم من أصول عراقية. كما أنه لم يتطرق بحديث مفصل إلى سير ثلاثة أعلام كان لهم شأنهم في الصحافة والأدب والتاريخ والقانون، ويقصد الأخوين أمين وعبد الرحمن الرافعي وابن عمهما مصطفى صادق الرافعي، ذلك لأنهم من أبناء الجيل الرابع وقد تمصّروا تماماً، فاقتصر ارتباطهم بلبنان على أصولهم في شجرة العائلة التي تذكر أن جدهم عبد القادر الرافعي كان قد هاجر من طرابلس (لبنان) إلى مصر في مطلع القرن التاسع عشر.
ولاحظ يواكيم أن أفراد الجيل الأول من المهاجرين الذين اشتغلوا في مجالي الثقافة والإعلام في مصر، جاؤوا إلى وادي النيل ليواصلوا ممارسة إنتاجهم، إذ لم يكُن بوسعهم تطوير أعمالهم في بلاد الشام. وفي مصر أكملوا ما بدأوه، إذ كانت "هي الواحة الوحيدة في العالم العربي التي تتاح فيها الفرصة لأصحاب الفكر للتعبير عن أنفسهم. حملوا معهم براعم تفتحت وروداً في مصر". وفي هذا المقام - يضيف يواكيم- ينبغي التأكيد على أن حضانة مصر لهذه الشخصيات، ولولاها لما تمكّنوا من أداء الأدوار التي قاموا بها، كل في مجاله.
مزيج من ثقافتين
أما أبناء الجيل الثاني، فكانوا مزيجاً من ثقافتين. وبالنتيجة كان إبداع "الشوام" من الجيلين، الآباء والأبناء، مصرياً يورَّخ في سجل الثقافة المصرية، حتى لو كان هذا الإبداع ذا نكهة شامية في بعض الأحيان.
بدأت هجرات "الشوام" إلى مصر في الحقبة التاريخية التي كانت فيها بلادهم تحت سلطة الدولة العثمانية. كانت هجرات فردية في القرن الثامن عشر، وأصبحت تتشكل من جماعات في مطلع القرن التاسع عشر، خصوصاً بعد جلوس محمد علي، على عرش مصر، وحصولها على الحكم الذاتي، بما يعني استقلالاً نسبياً عن سلطة العثمانيين. تضاعف عددهم في عهد الخديوي إسماعيل، واستمر تدفقهم في الربع الأول من القرن العشرين، فتكوَّنت منهم جاليات أقامت بصفة شبه نهائية في أرض الكنانة، وتدريجاً صارت من نسيج المجتمع المصري.
ولكن لماذا مصر؟ يجيب فارس يواكيم بقوله: كان المجتمع المصري منذ عهد محمد علي، خصوصاً في عهد الخديوي إسماعيل بمثابة الصورة المناقضة تماماً لما كانت عليه الحال في بلاد الشام. كل الإيجابيات المفقودة هنا، متوافرة هناك. أما بالنسبة إلى السلبيات، فكل ما هو سائد هنا، غائب هناك. عوامل الاقتصاد والأمن والسياسة هي ذاتها التي دفعت أهل الشام إلى تفضيل المهجر المصري. وجدوا في مصر بحبوحة العيش والسوق الأرحب وفرص العمل والرزق. ووجدوا فيها كذلك دراسة علوم الدين والطب. ورحابة صدر المصريين وحسن استقبالهم للضيوف "الشوام" كانت عاملاً حاسماً في استمرار تدفقهم على هذا البلد.
من الترجمة إلى العمل السياسي
وعلى الرغم من أن "الشوام" في بلادهم يعشقون السياسة والعمل السياسي وينخرطون في الأحزاب منتسبين أو مؤيدين، فقد كانوا في مصر قلة نادرة في ميدان السياسة المباشر، حتى في الفترات التي تعددت فيها الأحزاب. ومع ذلك، كان عدد منهم قناصل لدول أوروبية. وحضر بعضهم بشكل بارز في مختلف الوزارات والإدارات الحكومية. وكان الإلمام باللغات الأجنبية بطاقة الدخول إلى الوظائف، خصوصاً في مهمات الترجمة في المحاكم المختلطة حتى إلغائها، وفي المصارف والشركات الأجنبية وفي البورصة. من هؤلاء: يوسف سابا الذي قبلَ أن يتولى منصب وزير المالية، كان في عهد الخديوي توفيق مدير البريد الخديوي، وفي ظل إدارته صدر أول طابع بريد أميري. ومنهم يوسف قطا، السكرتير الأول لمجلس الوزراء أثناء تولّي سعد زغلول رئاسة الحكومة. ويوسف شكور، أول مدير عام لبلدية الإسكندرية وواضع نظام العمل فيها. وعبدالله صفير من أركان وزارة الداخلية وشغل منصب رئيس دائرة البوليس السري ثم مراقب المطبوعات. ويوسف مسرَّة، مدير عام إدارة السكة الحديد في بداياتها. وسعيد شقير، مدير عام الحسابات في حكومة السودان المصرية الإنجليزية المشتركة.
في المجال الاقتصادي، مارس "الشوام" المهن كافة. كان منهم أطباء ومهندسون ومحامون وتجار كبار وصغار وخبراء في البورصة، وتعهدوا الحقول الزراعية، واستصلاح الأراضي والمقاولات. وأنشأوا مصانع ومصارف. بعضهم ظل بسيطاً مغموراً، وبعضهم اشتهر ولمع اسمه، ومنهم على سبيل المثال: الأخوان سمعان وجور كرم (ملك الخشب) وفيليب كفوري (ملك النقليات)، صاحب أسطول الباصات العاملة على الخط الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية. ومنهم حبيب سكاكيني، صاحب القصر الشهير الذي أُطلق اسمه على ميدان وشارع في القاهرة، وهو من مواليد دمشق عام 1841. وحبيب لط الله الذي قدم إلى مصر من طرابلس (لبنان) وأصبح من كبار الأغنياء بفضل عمله في التجارة بين مصر والسودان. وهناك الأخوان سليم وسمعان صيدناوي، واشتهر عنهما بالخطأ أنهما يهوديان، مع أنهما مسيحيان سوريان من طائفة الروم الكاثوليك. ولهذا، اشتعلت النيران في محال "صيدناوي" خلال حريق القاهرة في يناير (كانون الثاني) 1951.
الصحافة والمسرح والسينما
وفي الخلاصة، فإنه كما في الصحافة كذلك في المسرح، الولادة في بلاد الشام والنهضة في مصر. ومما يذكره فارس يواكيم في هذا الصدد أنه لم يكُن مألوفاً في بدايات المسرح أن تظهر المرأة الممثلة، لكن الفرق الشامية أسهمت في إشراكها في المسرحيات. وينقل يواكيم عن الكاتب اللبناني بطرس البستاني قوله إنه بينما المسرح المصري يخطو إلى الأمام بقدم ثابتة تدفعه الحكومة، وتمشي به فرق عدة وعلى رأسها رجال درسوا أصول الفن في أوروبا، كان المسرح اللبناني والمسرح السوري يرجعان القهقرى لتضاؤل الفرق التمثيلية فيهما، وتقاعد الحكومات عن مناصرتها، ولولا الفرق المصرية التي تفِد إلى لبنان وسوريا، لما شهدت ملاعبهما تمثيلاً راقياً، مع أن لهما فضل المتقدم في إحياء هذا الفن" (المصدر: كتاب "أدباء العرب في الأندلس وعصر الانبعاث"- مكتبة صادر، بيروت 1937).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن "الشوام" الذين عاصروا بدايات السينما في مصر: إبراهيم وبدر لاما (مخرج وممثل) وآسيا داغر وماري كويني (في مجالي الإنتاج والتمثيل) والممثلتان دولت أبيض وعلوية جميل والممثل بشارة واكيم. وكان من البديهي أن تتم الاستعانة بنجوم الغناء في بلاد الشام ليقوموا ببطولة أفلام مصرية. وكانت المشاركة الأولى من نصيب ألكسندرا بدران التي اكتشفها يوسف وهبي وجعلها بطلة فيلم "جوهرة" عام 1943، وأطلق عليها الاسم الذي اشتهرت به: نور الهدى. أما الشحرورة صباح، فاكتشفتها آسيا داغر بعد وفودها إلى مصر عام 1944، وقدّمتها بطلة لفيلم "هذا جناه أبي". وفي القائمة، المغني محمد البكار ومحمد سلمان وزوجته آنذاك نجاح سلام، ثم فايزة أحمد التي اشتهرت بلقب "كروان الشرق".
ولم تقتصر مساهمة "الشوام" في السينما المصرية على نجوم الغناء، بل شملت قطاعات الإنتاج السينمائي. في قطاع الاستوديوهات، كان الأخوة نحاس والشريك الثاني أنطون خوري يملكون ثلثي "استديو نحاس" وكان يوسف وهبي الشريك الثالث، فيما كان إدمون نحاس مدير هذا الاستوديو. وفي قطاع الإنتاج، برزت آسيا داغر وابنة شقيقتها ماري كويني وروفائيل جبور وأديب جابر. وبرز في مجال توزيع الأفلام وإنتاجها السوري صبحي فرحات. وكان من "الشوام" في مجال الإخراج: إبراهيم لاما وأنور وجدي وهنري بركات ويوسف شاهين، وأنشأ كل منهم شركة للإنتاج السينمائي. وهناك أيضاً عيسى كرامة وشفيق شامية ويوسف معلوف وريمون نصر وسيمون صالح. وفي مجال السينما التسجيلية، برزت نبيهة لطفي وهي أول امرأة تخرجت في قسم الإخراج في المعهد العالي للسينما في القاهرة. أما في التمثيل، فيأتي عمر الشريف في المقدمة وماري منيب وبديعة مصابني وبشارة واكيم وعبد السلام النابلسي وعايدة هلال وأديب طرابلسي ونادية رفيق وفكتوريا حبيقة وإدمون تويما، وفتوح نشاطي، المخرج والممثل المسرحي الذي كتب للسينما أيضاً مقتبساً قصصاً من المسرحيات العالمية.
ولدوا في مصر
وفي الأخير، فإنه يصعب ذكر أسماء جميع البارزين من أصول شامية في مجالات الثقافة والإعلام في مصر. وكما يقول يواكيم، كانت الترجمة بطاقة دخول بعض "الشوام" إلى مصر مع حملة نابليون بونابرت، وفي مقدمتهم إلياس فتح الله ويوسف مسابكي. وعندما كبرت الحاجة إلى التعامل باللغة العربية، ظهر مترجمون يتكلمون الفرنسية والعربية كان معظمهم من أبناء الجالية الشامية في مصر. وهكذا انتشرت الصحف الفرنسية والكتب المؤلفة باللغة الفرنسية، حتى في ظل الاحتلال البريطاني لمصر الذي بدأ عام 1882. ومن الكتّاب "الشوام" الذين وُلدوا في مصر وكتبوا بالفرنسية: جورج شحادة وهكتور خلاط وسيلين طاسو وجان أرقش وهنري لوكاي ووألبير قصيري وأندريه شديد وروبير سوليه وجيلبير سينويه. وثمة مؤسسات أنشأها "شوام" في القاهرة، جمعت المطبعة ودار النشر والمكتبة معاً، منها مؤسسة آل البابي الحلبي ومنشورات الخانجي و"مكتبة العرب" لمؤسسها يوسف البستاني و"مطبعة التأليف" لجرجي زيدان ونجيب متري، والأخير هو مؤسس "دار المعارف" التي لا تزال واحدة من أقدم دور النشر في العالم العربي.
فارس يواكيم مؤلف الكتاب هو واحد من هؤلاء "الشوام"، لبناني ولد في الإسكندرية عام 1945 ويقيم حالياً في ألمانيا. درس الإخراج في معهد السينما في القاهرة، لكنه احترف الكتابة الدرامية. من مسرحياته: "آخ يا بلدنا" (مسرح شوشو، بيروت) وهو كاتب عدد من حلقات مسلسل الأطفال الشهير "افتح يا سمسم". عمل في الصحافة وكان مدير القسم العربي في إذاعة "دويتشه فيله" الألمانية. ومن كتبه: "ظلال الأرز في وادي النيل" و"حكايات الأغاني... رحلة القصيدة من الديوان إلى الأغنية" و"الإسلام في شعر المسيحيين". وله ترجمات إلى العربية من الفرنسية والألمانية، من أبرزها "عنف الديكتاتورية" لستيفان زفايغ.