كشفت دراسة بحثية حديثة عن أنه في الوقت الذي تكافح فيه شركات الطيران للتعافي من تداعيات جائحة كورونا، يحتدم الصراع بينها وبين شركات الاتصالات الأميركية، وهو صراع قد تبلغ خسائره مليارات الدولارات، بما يؤكد في جوهره على عظم تأثير شبكات الجيل الخامس في مختلف الصناعات والقطاعات الرائدة.
وذكرت أنه كلما انتشرت تلك الشبكات وتزايد الاعتماد عليها، برزت أزمات جديدة، سواء تلك المتعلقة بخصوصية المستخدمين، أو الانكشاف المعلوماتي، أو التجسس، أو سلامة التشغيل، أو غير ذلك. وفي نهاية المطاف، يمكن القول إنه لا يمكن لأحد الوقوف أمام التطورات التكنولوجية التي بات لزاماً التكيف معها والتغلب على أزماتها ومُجاراة تطوراتها.
وفق الدراسة التي أعدتها رغدة البهي، مدرسة العلوم السياسية المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، فإن الصدام بين شركات الطيران الدولية وشركتي الاتصالات الأميركيتين، يشير إلى جملة من الدلالات.
بيانات وأرقام متضاربة
تتمثل الدلالة الأولى في تباين الرؤى بين قطاعي الاتصالات والطيران، حيث يرى الاتحاد التجاري لقطاع الاتصالات اللا سلكية في الولايات المتحدة، أن شبكات الجيل الخامس آمنة تماماً، متهماً شركات الطيران بإثارة الذعر وتشويه الحقائق، كما يعتقد أن تأجيل إطلاق خدمات الشبكة لمدة عام واحد من شأنه أن يتسبب في خسائر قدرها 50 مليار دولار.
في المقابل، ترى شركات الطيران أن تشغيل شبكات الجيل الخامس سيؤدي بالضرورة إلى تخريب رحلاتها ودفع أساطيلها خارج الخدمة، تاركاً عشرات الآلاف من الأميركيين من دون رحلات تقلهم، ومتسبباً في "مصيبة اقتصادية يمكن تفاديها"، وعلى نحو يطاول المسافرين، وسلاسل الشحن، وإمدادات الأدوية، والمنتجات الطبية، وغيرها.
وبين هاتين الرؤيتين، تظل سلامة الركاب هي الهدف الأسمى الذي يستلزم تحديد مواقع الأبراج الخاصة بتلك الشبكة، لا سيما التي تقترب من المطارات ومدرجات الطيران من ناحية، والتواصل المستمر مع الشركات المُصنعة للطائرات للنظر في كيفية تجنب التأثير السلبي للشبكات عليها من ناحية ثانية.
الدلالة الثانية تتمثل في عدم استعداد الطيران الأميركي، حيث تجادل شركات الاتصالات الأميركية بأن صناعة الطيران كانت على علم بالنطاق (Band C) لعدة سنوات، لكنها لم تفعل شيئاً للاستعداد له، وهو ما نوهت إلى خطورته عدة تقارير حكومية على مدى الأعوام القليلة الماضية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما تجادل هذه الشركات أيضاً بأن شبكات الجيل الخامس لا تتعارض مع مختلف الخطوط الجوية، وما يدلل على هذا تفعيل تلك الشبكة بالفعل فيما يقرب من 40 دولة من دون أي حوادث تذكر، لا سيما أن الخطوط الجوية الأميركية تُسيّر رحلات جوية منتظمة إلى مختلف الدول الأوروبية، حيث تعمل تلك الشبكات بالفعل، ما يعني أن صناعة الطيران هي التي اختارت عدم ترقية أجهزة قياس الارتفاع المعرضة للتداخل، بل وفشلت إدارة الطيران الفيدرالية في إطلاق معدات المسح على الطائرات حتى الأسابيع القليلة الماضية. وهو ما يتفاقم أثره في ظل تضارب الآراء والإجراءات بين سلطة الطيران الأميركية، وسلطة الطيران الأوروبية.
فيما تتمثل الدلالة الثالثة في وجود تجارب ناجحة في دول أخرى، حيث تستخدم الكثير من دول العالم، وفي مقدمتها كندا وفرنسا، تقنية (Band C)، وهو ما يعني أن شبكات الجيل الخامس لها مردود إيجابي على صناعة الطيران عالمياً، بيد أن هذا لا يعني خلو الأمر من قيود مفروضة على إشارات تلك الشبكات في المناطق القريبة من المطارات. فعلى سبيل المثال، تفرض كندا قيوداً على شبكات الجيل الخامس بالقرب من 26 مطاراً، بجانب تدابير أخرى تضمن سلامة الطيران، وفي مقدمتها تجهيز الطائرات بالتكنولوجيا المتقدمة التي تمكنها من التصدي للتأثيرات السلبية للشبكة.
اندلاع أزمة طيران عالمية
في الوقت نفسه، تسببت مساعي شركتي الاتصالات "أي تي آند تي" و"فيريزون"، لبدء تشغيل شبكة الجيل الخامس، في عدد من المناطق الحضرية الكبرى بالولايات المتحدة الأميركية، في اندلاع أزمة طيران عالمية، تجسدت في إلغاء مئات الرحلات الجوية التي كان مقرراً لها الإقلاع أو الهبوط في مطارات أميركية.
وعلى الرغم من الاستثمارات الضخمة التي تكبدتها الشركتان الأميركيتان، وتُقدر بنحو 67 مليار دولار من ناحية، وتأجيل إطلاق شبكة الجيل الخامس مرتين سلفاً في 5 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ثم في 5 يناير (كانون الثاني) الحالي من ناحية ثانية، طُلب من هاتين الشركتين تأجيل إطلاق الشبكة للمرة الثالثة، وسط مطالبات دولية واسعة بدراسات شارحة، وتأجيل الإطلاق مؤقتاً، وتعديل الخدمة جزئياً، وإن ظل القرار النهائي بيد الشركتين طبقاً لاتفاقية موقعة مع إدارة الطيران الفيدرالية، الأمر الذي يحتم الوقوف على تداعيات شبكات الجيل الخامس على صناعة الطيران، والخيارات المتاحة أمام شركات الطيران والاتصال في هذا الشأن.
وبشكل عام، تعود شبكات الجيل الخامس بالنفع على صناعة الطيران، على نحو يعزز تطبيقات الطيران الحالية، وهو ما يعود بالنفع على الركاب، ويُحسن الاستجابة لطلباتهم وإدارة أمتعتهم، وغير ذلك. ولا شك أن توظيف الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وغير ذلك من تكنولوجيا حديثة عمادها شبكات الجيل الخامس، يحسن استخدام الوقود، ويحدد مواطن الخلل بدقة، ويقلل تكلفة الصيانة الدورية، ويضبط أوقات الهبوط والإقلاع، ويسهل اتخاذ القرارات الحاسمة على متن الطائرات، ويطور الخدمات المقدمة للركاب.
مخاوف من احتمالية وقوع حوادث وكوارث كبرى
في المقابل، تتخوف بعض شركات الطيران الأميركية والدولية من مخاطر تشغيل شبكة الجيل الخامس قرب المطارات الأميركية، ومنها احتمالية وقوع حوادث وكوارث كبرى على صعيد عمليات السفر والشحن الدولي. ووجدت تلك المخاوف طريقها إلى البيت الأبيض، ليحذر كبار المسؤولين التنفيذيين في شركات الطيران الأميركية الكبرى من "اضطراب كارثي"، مطالبين الإدارة الأميركية بتطبيق شبكة الجيل الخامس في كل أرجاء الولايات المتحدة باستثناء نطاق 2 ميل (أي 3.2 كيلومتر تقريباً) من مدرجات المطارات الرئيسة.
وهذا ما أرجعوه إلى التداخل المحتمل مع الأجهزة اللا سلكية المخصصة لقياس الارتفاع، والتي تستخدم الترددات نفسها، مع الأخذ في الاعتبار تزايد الاعتماد على الأجهزة الآلية للهبوط بشكل مكثف في حالات الطقس السيئ، وسط مخاوف من تداخل إرسال شبكات الجيل الخامس وما يتصل بها من أجهزة مع أخرى تستخدمها الطائرات في عمليات الهبوط وتقدير الارتفاع، ما يعني حدوث ما يشبه التشويش على الرادارات أثناء عمليات الهبوط، وهو ما يهدد سلامة الطائرات وركابها.
وبعبارة أخرى، تستخدم شبكات الجيل الخامس عالية السرعة بعض الترددات الراديوية التي تقترب من مثيلتها المستخدمة بواسطة أجهزة قياس الارتفاع الراديوي (في نطاق 4.2 - 4.4 غيغا هرتز) التي تُستخدم في قياس المسافة بين الطائرة والأرض من خلال إرسال إشارة نحو الأرض، ثم تحديد الوقت الذي تستغرقه تلك الإشارة للانعكاس عنها والعودة إلى الطائرة، بل وتخطط للاعتماد على ما يسمى (Band C) الذي سبق أن أكدت لجنة الاتصالات الفيدرالية إمكانية استخدامه بأمان في محيط المطارات (في نطاق 3.5 - 4 غيغا هرتز)، بيد أن ذلك التأكيد لم يحل دون المخاوف العالمية التي تدور حول الحيلولة دون استخدام أجهزة قياس الارتفاع الراديوية في عشرات المطارات الأميركية، وتعطيل نحو 4 في المئة من الرحلات اليومية، والاعتماد على الطرق البصرية لهبوط الطائرات حتى في حالات سوء الأحوال الجوية والضباب الدخاني الكثيف، وتقويض عمليات الهبوط الآلي، وعرقلة رصد تيارات الرياح الخطيرة.