تشهد العاصمة الخرطوم، اليوم الأحد، 30 يناير (كانون الثاني)، تظاهرات جديدة باتجاه القصر الرئاسي، دعت إليها تنسيقيات لجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين الذين يقودون هذا الحراك، تحت شعار "مليونية 30 يناير"، بالتزامن مع مسيرات أخرى تنطلق في بقية المدن السودانية، وذلك للمطالبة بتسليم السلطة للمدنيين وإبعاد العسكريين من المشهد السياسي في ضوء القرارات التي اتخذها قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول)، بإعلان حالة الطوارئ وتعطيل الشراكة مع المكون المدني، ما اعتبرته قوى سياسية ومجتمعية عريضة انقلاباً عسكرياً.
وأعلنت السلطات السودانية، السبت، حظر التظاهرات في منطقة وسط الخرطوم التي يقع فيها القصر الرئاسي والقيادة العامة، مؤكدة أن حرية التعبير حق مكفول بموجب الوثيقة الدستورية الانتقالية.
تأمين المواكب والتجمعات
وبحسب بيان للجنة أمن ولاية الخرطوم، "فإنها ستقوم بواجباتها نحو تأمين المواكب والتجمعات وتمكينها من إيصال رسالتها، وعلى المواطنين الالتزام بتجمع مواكبهم في الميادين العامة داخل المحليات بالتنسيق مع لجان أمنها والابتعاد عن المستشفيات والمؤسسات التعليمية".
في السياق، قالت بعثة الأمم المتحدة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان "يونيتامس" في بيان، "غداً سنشهد يوماً آخر من التظاهرات، ونتوجه للسلطات السودانية بالسماح لهذه التظاهرات أن تمر من دون عنف، ونؤكد أن التجمع السلمي وحرية التعبير هما من حقوق الإنسان التي يتوجب حمايتها، ومن شأن تقييد هذه الحقوق أن يفاقم التوتر".
هذه التظاهرات المتواصلة، والتي بلغت 18 "مليونية"، وراح ضحيتها 78 قتيلاً، وضعت الشارع السوداني وقواه السياسية والعسكرية، أمام اختبار صعب في كيفية الخروج من هذه الأزمة التي باتت تتعقد يوماً بعد يوم في ظل تزايد دائرة العنف من قبل الأجهزة الأمنية لحسم وقمع هذه التظاهرات باستخدام الرصاص الحي والمطاطي، وقنابل الغاز المسيل للدموع، والقنابل الصوتية من ناحية، واتساع الخلاف بين المكونين المدني والعسكري في التعاطي مع هذه الأزمة من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من طرح المجتمع الدولي ممثلاً في بعثة الأمم المتحدة في الخرطوم مبادرة أطلقها رئيسها فولكر بيرتس في الثامن من يناير الجاري، فضلاً عن المبادرات الوطنية التي يقودها عدد من الشخصيات السودانية المؤثرة في المجتمع، إلا أن هذه المبادرات مجتمعة لم تحرز التقدم الملحوظ باتجاه بوادر حلول ناجعة، فما زال الانسداد السياسي مسيطراً على المشهد العام.
ففي ظل هذا الواقع الماثل بكل مخاطره، كيف ينظر السياسيون والمراقبون لمستقبل السودان، وهل هناك إمكان لالتقاء أطراف الصراع عند نقطة وسط تؤدي لانفراج هذه الأزمة؟
رؤية مشتركة
يقول مساعد رئيس حزب الأمة القومي السوداني للشؤون الولائية عبد الجليل الباشا، "الأمل موجود لحل هذه الأزمة، صحيح هناك مبادرات عديدة محلية ودولية تسعى لإيجاد اتفاق، وكلها متشابهة في الطرح والرؤية، إذ ترى هذه المبادرات أنه لا خيار غير اتفاق جميع الأطراف على الحل السياسي ولو بالحد الأدنى، وذلك من خلال تهيئة المناخ بين السودانيين، وهذا أمر ممكن إذا توافرت الإرادة السياسية التي تقود إلى الجلوس في طاولة المفاوضات للوصول إلى رؤية مشتركة حول كيفية الحل تفادياً من الانزلاق إلى المجهول".
أضاف الباشا، "لا بد من مناقشة القضايا الأساسية كافة على أن يكون التركيز بشكل أساسي على كيفية استعادة الشرعية الدستورية، والعلاقة بين المكونين المدني والعسكري، وفي هذا الجانب، هناك جهات ترفض مبدأ الشراكة مجدداً، وبعضها يرى أن يكون المكون العسكري ممثلاً في السلطة بصلاحيات ومهام محددة، وأخرى تشير إلى أن يكون المكون العسكري مسؤولاً عن مجلس الدفاع والأمن من دون أي مهام سياسية، وبالتالي، المطلوب وصول هذه المبادرات إلى مبادرة واحدة تحقق الحد الأدنى من الإجماع على أن تساهم بصورة أساسية في إكمال المرحلة الانتقالية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونوه مساعد رئيس حزب الأمة القومي للشؤون الولائية، إلى أن الاتجاه العام يرى أن يتم اصطحاب العسكريين في إطار المؤسسة العسكرية بأن يقوموا بممارسة مهامهم المنوط بها من دون أن يكون لهم علاقة بالسلطة من قريب أو بعيد، موضحاً أن كل المعطيات تشير إلى أن العسكريين سينصاعون في النهاية إلى قرار الشارع، لأنهم الآن في أمس الحاجة لمخرج من هذه الأزمة بعد سقوط هذا العدد الكبير من القتلى من دون مبرر أو جه حق، فليس أمامهم سوى خيارين، إما الاستجابة للأصوات التي تنادي برحيلهم، أو أن يرتضوا وجودهم في المؤسسة العسكرية من دون أن يتدخلوا في شؤون الحكم.
الدائرة الجهنمية
في المقابل، أشار الأمين العام لحزب المؤتمر السوداني محمد يوسف أحمد، إلى أن حل الأزمة السودانية يتوقف على الرؤية التي تقمها الأطراف المختلفة، فلجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير وغالبية المجموعات التي تقاوم انقلاب 25 أكتوبر تتمثل رؤيتها في المدنية الكاملة للدولة، فأي رؤية تعبر عن اتجاه خروج العسكر من العملية السياسية يمكن أن تكون مقبولة، لكن أقل من ذلك لن تقبل أي حلول مهما كلف الأمر من ثمن.
وتابع أحمد، "الشارع السوداني حالياً أكثر تنظيماً ما قبل 25 أكتوبر حيث شهدت تلك الفترة تباينات كبيرة وسط الشباب الذين يمثلون روح الثورة، وكذلك بين مكونات قوى الحرية والتغيير، وأيضاً تجمع المهنيين المعني بتنفيذ العصيان المدني، لكن سرعان ما عادت اللحمة وسط هذه الكيانات وأصبحت على قدر عال من التماسك والوضوح والتنظيم، وهو ما يجعل الثورة تستمر لأطول فترة، وفي نهاية المطاف ستنتصر إرادة الشعب بالوصول إلى حلول ترضي تطلعات الأطراف مجتمعة".
ولفت الأمين العام لحزب المؤتمر السوداني إلى أن خروج العسكر من المشهد السياسي ظل مرتبطاً بالمؤسسة العسكرية منذ استقلال السودان في 1956، حيث جعل هذا الأمر البلاد تعيش في دائرة جهنمية ردحاً من الزمن ما بين الديمقراطية والانقلابات العسكرية، لذلك، فإن لم يحسم هذا الجدل فسوف ندور في حلقة مفرغة، ولن يشهد السودان الاستقرار المأمول.
غياب الإرادة الوطنية
من جانبه، أوضح الكاتب السوداني خالد التيجاني، أن "المشكلة الأساسية للأزمة السودانية تتمثل في غياب الإرادة الوطنية على الرغم أن الجميع معترف بهذه الأزمة، لكن بقيت القوى المعنية، مدنية كانت أم عسكرية، عاجزة تماماً عن مناقشتها، بل قابلها هروب جماعي عن أي خطوة يمكن أن تقود لحلول. وهذا ليس بمستغرب، فقد ظلت العقود والمواثيق في البلاد منذ الاستقلال غير معترف بها ودائماً ما يتم نقضها، وتقف اتفاقية أديس أبابا 1972 بين حكومة جعفر النميري وحركة "الأنانيا"، و"نيفاشا" 2005 بين حكومة عمر البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، والوثيقة الدستورية 2019 بين المكونين العسكري والمدني، شاهداً على ذلك".
ورأى التيجاني أن أي اتفاق لحل هذه الأزمة لن تكون له قيمة لعدم احترام الأطراف السودانية، أيا كانت مستوياتها ومكانتها، العهود الموقعة، باعتباره أصبح نمطاً سائداً في المجتمع منذ الاستقلال يصعب تغييره، وبالتالي، سيحدث تكرار للنتائج السابق في ظل عدم استشعار القوى السياسية والعسكرية بالذنب في حق الوطن وشعبه، وأشار إلى أن مبادرة فولكر لن يعصمها ما حظيت به من دعم دولي واضح من الانهيار لأنها ستعيد إنتاج مأزق الوثيقة الدستورية بشكل أو بآخر، وكذلك الحال بالنسبة للمبادرات الوطنية، فكل المبادرات المطروحة لا تمس جوهر الحقيقة، بل تكرس واقع الأزمة.
وتابع الكاتب السوداني، "في اعتقادي أن الثورة الشبابية الحالية عندها عمق أبعد باعتبار أن ما يدور الآن في الشارع السوداني هو حراك اجتماعي حقيقي يعبر عن الأغلبية العظمى من سكان البلاد، وواضح أن هذه الفئة الشبابية لديها رأي في الأنظمة السياسية السابقة عسكرية كانت أم مدنية، وبالتالي، فإن القضية تتعلق بالمشهد السياسي بكامله، فلن يجدي تغيير الأشخاص فقط من الجانبين العسكري والسياسي، فلا بد من تغيير حقيقي في مفهوم الممارسة السياسية من كل جوانبها، كما أن مساعي المجتمع الدولي لن تكون الحل المناسب والناجع، فهو يسعى لرعاية مصالحه، كما أنه أسهم بشكل واضح في تثبيت انقلاب البرهان".
لجنة تحقيق
في غضون ذلك، أوضحت لجنة التحقيق في أحداث موكب 17 يناير الذي سقط فيه تسعة قتلى وعشرات الجرحى نتيجة العنف المفرط، أنها قامت بأخذ إفادات الشهود من قوات الشرطة وذوي الضحايا وآخرين بشأن حالات القتل خلال تلك الأحداث، وأشارت اللجنة في بيان صحافي، السبت، إلى أنها قامت بعرض فيديو يظهر فيه أحد النظاميين، وهو يطلق النار من بندقية كلاشينكوف، ونتيجة لذلك، تم حجز وتحريز أسلحة الأفراد الذين استلموا عهدة أسلحة وذخائر في ذلك اليوم، كما تم إرسال الأسلحة والفيديو إلى الجهات الفنية المختصة لأغراض الفحص والتدقيق.
تصعيد ثوري
وشهدت مدن العاصمة المثلثة، الأسبوع الماضي، تصعيداً ثورياً وفاء للذين قتلوا خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والبالغ عددهم 78، بحسب لجنة أطباء السودان المركزية، ونفذت تنسيقيات لجان المقاومة في الخرطوم برنامجاً تصعيدياً تضمن تتريس الطرق ووقفات احتجاجية إلى جانب مخاطبات ومواكب للتنسيقيات، ويختتم البرنامج اليوم بـ’مليونية 30 يناير’".
وما زالت فرص الحوار بين الفرقاء السودانيين متباعدة لإنهاء أزمتهم السياسية، بينما تتواصل عمليات العنف ضد المتظاهرين الذين يخرجون إلى شوارع العاصمة الخرطوم بمعدل أسبوعي مستهدفين محاصرة القصر الرئاسي في كل مسيرة جديدة احتجاجاً على إعلان حال الطوارئ في البلاد في 25 أكتوبر الماضي.