"لا الفجر يخلف ميعاده ولا الخريف. كلاهما يأتي في أوانه، كلاهما يذهب في أوانه، ولا شيء يبقى، سوى الحقائق التي صنعناها" (يوسف القويري).
السنوات أيضاً لا تبقى، هكذا فجأة مرت السنة الثالثة، على أول مقال نشر لي، في "اندبندنت عربية"، ما جعلني ألتفت إلى ما مضى، هذه الالتفاتة نبهتني، لانغماسي في قضايا العالم، في ما كتبت، بل حتى في ما أهتم: انبجس بغتة، الطفل المنبهر بأبيه، من يتقرفص كل يوم، بعيد تناول وجبة الغداء، ثم يسحب جهاز الراديو، ويفتحه، فَتُسمع دقات ساعة، تم اعتيادها، كما صوت المذيع: هنا لندن، ثم موجز لفقرات النشرة، التي تتالى أخبارها حول العالم. يومها في عقد ستينيات القرن العشرين، الأخبار بمجملها تقريباً، عن فيتنام وحربها لمواجهة عدوان الولايات المتحدة، وعن فلسطين واللاجئين والفدائيين والاحتلال الإسرائيلي، والتمييز العنصري في جنوب أفريقيا، ثم تأتي أخبار أخرى من العالم، ما جعله الراديو كل يوم، عند الثالثة ظهراً، يجوس بيتنا، ويشد الطفل الذي كنت.
إذا كان العالم، في طفولتي، قد غدا قرية، فإن العالم، في شيخوختي، بات في حجم كف اليد (موبايل ذكي). وليست التقنية فحسب، ما جعل قضايا العالم، قضايا كل البشر، بل ثمة مسائل متعددة، أسهمت في ذلك، أهمها توسع مدارك البشرية بالمعرفة، حيث التعليم انتشر في المعمورة كافة، ولذا حين أكتب، عن تلك القضايا العالمية، كنت أكتب عما يخصني، وعن فعله ما يطال بيتنا، الذي تلقيت فيه أخبار العالم لأول مرة، عبر راديو أبي.
لقد كانت الأخبار، من حيث التفاصيل مستحدثة، لكن في مضمونها قديمة. فالقضية الفلسطينية مثلاً، ما زالت من أخبار العالم، وإن لم نعد نسمع كثيراً، من أخبار فيتنام مثلاً، فإن الأخبار تكرر منذ سنوات ثلاث، ما يحدث في ليبيا، سوريا، اليمن، تونس، أوكرانيا، وها هي تعيد كر أخبار الانقلابات العسكرية في أفريقيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم أنشغل بالعالم، عبر السياسة والأخبار وحسب، ففي مقتبل العمر، كانت مسألة فيتنام، ما أطالع في المسرح، مثل المسرحية الشهيرة لبيتر بروك: "نحن والولايات المتحدة"، وطبعاً شاهدتها في السينما مثل فيلم "القيامة الآن"، كما تابعتها عبر التظاهرات، التي قادها الفيلسوف بيرتراند راسل، كما قضية التمييز العنصري، ما كان رمزها نيلسون مانديلا، قد تحول إلى أيقونة فنية وثقافية كتشي جيفارا. أما فلسطين، فكانت الشغل الشاغل، في الثقافة العربية بفنونها وآدابها، من هذا كتبت مقالي الأول في "اندبندنت عربية": بعنوان "تشرشل والمتنبي"، وقد تحدثت فيه، عن علاقة السياسة بالخيال، فالسياسة بالأدب، وبالتالي علاقة المقالة السياسية بالإبداع، فكان الدرس منذ الطفولة، ما تلقيت عبر راديو أبي، أن العالم واحد، وأن معرفته من أهم وسائلها المخيال.
لكن إذا كانت الأخبار، من حيث التفاصيل مستحدثة، لكن في مضمونها قديمة، فما الجديد في ما تلقيت وما كتبت، خلال السنوات الثلاث الفائتة؟
أشهد أنني ما شاهدت، ولا عشت، ولا كتبت بطبيعة الحال، كما حصل مع حادثة السيدة الأولى كورونا! فالجائحة جعلت من سنة 2020 كما نهاية حقبة، نعم كأنها نهاية الفيلم، حيث تكون أضواء ساطعة تربك العيون، ثم يعم ظلام دامس، ولم يحدث أن تخيل بشر: شوارع خالية من البشر، في المدن الكبرى والصغرى، تجوس فيها حيوانات برية، وصمت لا تقطعه، إلا منبهات سيارات الإسعاف، والسيدة كورونا تراقص عزرائيل، في أركان الكرة الأرضية، هذا المشهد لم يحدث البتة، أن شاهده أحد، ولا تخيل أحد أن يحدث حقاً، حتى في أفلام الفانتازيا، لم يكن ما كان.
من هذا ما كتبت، وما قرأت، لم يخطر بالبال، وأجزم أن في ما يأتي من أيام، سيقرأ كما لم يقرأ، فالحدث ما زال يحدث، ولم تكتب بعد خواتمه. لهذا فسنتان مما كتبت في "اندبندنت عربية"، غير ما كتبت في العمر، ولا بد أن ذلك لم يتعين، في المضمون فحسب، بل وفي الشكل أيضاً، لا بد أن الأدب كان يكتب ما نكتب، فالفن ما يسعف البشرية عند الجوائح، كما المشهد الشهير، عند خلو شوارع روما من البشر، فأخذ كثيرون منهم يعزفون الموسيقى، من خلال النوافذ، وقد حاكاهم بشر كثر، في اللجوء إلى الموسيقى. وحتى العلماء، والأطباء على رأسهم، كان الخيال سندهم الوحيد، وحافزهم لمقاومة الاستسلام، لعزف موسيقى الجنازات، بل وحتى شاهدنا منهم، من رقص وهو يودع زملاءه.
لقد كان فيروس كورونا، مقاتلاً مراوغاً، باغت البشرية، عند حالة ظنت فيها، كما ابن نوح، أنها عند قمة الجبل، ما سيؤويها من الفيضان. ومن ذا "لا شيء يبقى، سوى الحقائق التي صنعناها".