مقابل عشرات الملايين من القراء في شتى لغات العالم من الذين يقرأون، ومنذ زمن مئات الروايات الأميركية- اللاتينية الكبرى، كم يبلغ يا ترى عدد الذين يعرفون أن هناك إلى جانب الأدب الروائي المنتمي إلى هذه القارة متناً شعرياً كبيراً له أعلامه وتاريخه وتحفه؟ حسناً قد نجدهم كثراً أولئك الذين يعرفون بابلو نيرودا وأشعاره، ولكن من المؤكد أن الذين قرأوا كتاب مذكراته كانوا أكثر عدداً من قراء شعره، كذلك لا شك أن الذين سمعوا أشعاره مغناة، لا سيما منها "النشيد الشامل" الذي موسقه اليوناني ثيودوراكس، كانوا دائماً أكثر عدداً وحماسة ممن قرأوها. بالتالي يمكن القول إن شعر أميركا اللاتينية قد يكون معروفاً، ولكن غالباً بطرق مواربة. ولعل في وسعنا القول في هذا السياق إن الأب الشرعي للشعر الأميركي اللاتيني ومؤسس حداثته، وهو بالتحديد النيكاراغوي روبن داريو، قد يكون معروفاً لقراء العالم بكتابيه النثريين الأساسيين، روايته الوحيدة "ذهب مايوركا"، وكتاب مذكراته وسيرة حياته بقلمه. ولكن، قد يكون معروفاً أيضاً بكونه الشاعر الذي رفض الديكتاتور المكسيكي بروفيميو دياز استقباله ذات يوم فيما كان الشاعر في عداد وفد لبلاده يزور حاكم المكسيك هذا، فحدث انقلاب في بلده نيكاراغوا أراح الحاكم من اضطراره الدبلوماسي لاستقبال شاعر يقف سياسياً على النقيض منه ومن سادته "اليانكي" في واشنطن، الذين سيتهمهم الشعب المكسيكي بتحريض ديكتاتورهم على ذلك التصرف فيردون بمظاهرات صاخبة ترحيباً بالشاعر.
رياح ذهبية
غير أن ذلك التصرف لم يقلل من شأن شاعر يعد اليوم بعد قرن وأكثر من رحيله أكبر شاعر أنجبته تلك القارة الجنوبية، لكنه إذ يذكر أكثر ما يذكر، ففي جزيرة مايوركا الإسبانية حيث تحمل الأزقة والشوارع والمطاعم والمقاهي اسمه وتنتشر تماثيل له في الساحات وربما صوره في البيوت، وتباع كتبه أكثر مما تباع في أي مكان آخر، حتى ليخيل للسواح أنه شاعر أو قائد إسباني ولد في تلك الجزيرة الساحرة. لكنه لم يولد فيها، بل لم يرها حتى سنوات متقدمة جداً من حياته، حيث فتن بها وهو مكتهل بالكاد يمكنه أن يتجول في أزقتها من دون عصاه. ولربما كانت جولته فيها واحدة من أروع الجولات التي قام بها في حياته هو الذي قال إنه قد خيل إليه أن الشعر نفسه قد ولد فيها "وسط رياح صيفية ذهبية". ونعرف أن عشرات الألوف قد اقتدوا به فزاروها، وغيرهم كثر اقتدوا به من ناحية أخرى فكتبوا أشعارهم على منواله. وليسوا قلة شعراء أميركا اللاتينية، من نيرودا إلى أوكتافيو باث الذين يعلنون ما هم مدينون له به.
ليس ثائراً ولا ديكتاتوراً
ومع ذلك، حين رحل روبن داريو عن عالمنا في فبراير (شباط) 1916، كان العالم من الانهماك بالحرب العالمية الأولى ومآسيها بحيث كان من الطبيعي ألا يتنبه أحد لموت شاعر من طينة داريو. ولكن حتى لو كان العالم هادئاً لا حرب فيه ولا مآسي في تلك الآونة، هل تراه كان سيشغل باله حقاً، بموت شاعر من نيكاراغوا، التي كانت بالكاد سمع بها أحد في ذلك الحين؟. ففي العشرية الثانية من القرن العشرين، لم يكن أدب أميركا اللاتينية على جدول الأعمال، كانت تلك القارة لا تعد أكثر من مزرعة موز يمتلكها الأميركيون الشماليون. في ذلك الحين لم تكن أسماء بورخس وكورتاثار وماركيز واستورياس قد عرفت بعد، فإن اشتهر اسم أميركي لاتيني في العالم كان لا بد لذلك الاسم أن يكون إما ثائراً أو ديكتاتوراً. ومع هذا غامر روبن داريو بأن يكون شاعراً، وغامرت الأوساط الأدبية العالمية بعد ذلك بأن تنظر إليه بعين الاهتمام، ما يجعله يعتبر كما أشرنا، في يومنا هذا، الوالد الشرعي لتلك الطفرة التي عرفها أدب أميركا اللاتينية في العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين. وروبن داريو يبجل اليوم على هذا الأساس، ويعاد اكتشافه، وتترجم أعماله بين الحين والآخر، ولا يفوت كبار أدباء وشعراء أميركا اللاتينية أن ينسبوا أنفسهم إليه باعتباره الأب الذي فتح لهم الطريق. والحقيقة أن الطريق الذي شقه روبن داريو كان متعرجاً، وهو نفسه، حين كان يستجيب لشياطين الشعر، ولرغبته في التنقل والتشرد، لم يكن ليخامره الاعتقاد ولو للحظة أنه يؤسس لأي شيء آخر عدا علاقته الشخصية بالشعر وبالفن وبأوروبا.
طعم الشهرة الحقيقية
ولد روبن داريو عام 1867 في مدينة ليون بنيكاراغوا، وتلقى دراسته الابتدائية والثانوية لدى اليسوعيين، غير أنه بسبب وعيه المبكر وذكائه المفرط، سرعان ما ترك الدراسة ليلتحق بالعمل الصحافي، وهو بالكاد بلغ الخامسة عشرة من عمره. ولقد أتاح له ذلك العمل أن يتجول في بلدان أميركا الوسطى ثم أميركا الجنوبية، حيث ارتبط بصحيفة "لاناثيون" الأرجنتينية بوصفه مراسلاً خارجياً لها. وهو كان في العشرين من عمره حين نشر مجموعته الشعرية الأولى، وألحقها بمجموعتين تاليتين وفرت له ثانيتهما "أزرق" (1888) شهرة غمرته بين ليلة وضحاها. لكن شهرته لم تقتصر على أميركا اللاتينية والوسطى، بل إنه بات معروفاً حتى في إسبانيا، وهو أمر اكتشفه مذهولاً، حيث قيض له أن يزورها عام 1892 ليمثل صحيفته في احتفالات ذكرى اكتشاف أميركا. وفي إسبانيا تعرف على عديد من الوجوه الشعرية، وبدأ يتذوق طعم الشهرة الحقيقية، ثم حين عاد (إلى الأرجنتين) عين قنصلاً لكولومبيا في بوينس آيرس، وهكذا صارت هذه المدينة مركزه، وبدأ الشعراء الشبان يتجمعون من حوله باعتباره رائد الحداثة الشعرية المرتبط أكثر من غيره بالحداثة الأوروبية. وهو أصدر في ذلك الحين دراسات نقدية عدة ومجموعة شعرية جديدة، قبل أن يعود من جديد إلى أوروبا فيستقر حيناً في إسبانيا، ثم يتوجه إلى فرنسا حيث أقام فترة في باريس تعرف خلالها على فيرلين وعلى عديد من الشعراء الرمزيين الذين رأى أسلوبه قريباً من أسلوبهم.
أدب رحلات وعودة مظفرة
ومنذ ذلك الحين لم يكف داريو عن التنقل، حيناً داخل أوروبا وأحياناً بين القارة العتيقة والعالم الأميركي الجديد، وتوالت كتبه، ولم تعد هذه المرة مقصورة على الشعر، بل راح يكتب نثراً، في القصة وفي أدب الرحلات، وكان من أشهر كتبه في هذه المجالات "باريزيانا" و"إسبانيا المعاصرة" و"أراض شمسية"، وهي كلها كتب أصدرها خلال السنوات الأولى من القرن العشرين ليحيي فيها بروز القرن الجديد الذي اعتبره قرن الإنسان وانتصار الإنسانية على الظلام. وفي 1908 بعد عودة مظفرة إلى أميركا الوسطى، عاد مرة أخرى إلى إسبانيا، ولكن بوصفه، هذه المرة، وزيراً مفوضاً لبلده (نيكاراغوا) لدى الحكومة الإسبانية، غير أنه سرعان ما أقيل من هذا المنصب فتوجه ليعيش في باريس، ثم ليعود منها من جديد إلى أميركا. وكانت تلك فترة عرفت فيها حياته تنقلاً وتشرداً كبيرين، لم يمنعاه على أي حال، من أن يواصل كتابة الشعر وأن يجدد فيه، حيث أصدر تباعاً مجموعات عدة، كانت الشبيبة الأميركية واللاتينية تتلقفها بلهفة وتكتب على منوالها، بحيث صار الرجل معلماً عبر مجموعات مثل "أغاني الحياة والأمل" (1907) و"قصيدة الخريف" (1910). وفي 1914 نراه يصدر روايته الوحيدة "ذهب مايوركا" التي كتبها بعد تلك الزيارة التي قام بها لتلك الجزيرة الإسبانية الخلابة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نهاية سريعة لحياة صاخبة
ولكن تلك الفترة كانت الفترة التي بدأت فيها صحته تتدهور بفعل ضروب الإفراط التي كان يعيشها: فهو الآن تحول إلى حياة بوهيمية لا تستقر، وصار يكثر السفر والشرب وحكايات الغرام، على الرغم من زواجه مرتين. وكان يبدو عليه خلال أعوامه الأخيرة كأنه يعيش نوعاً من الانتحار البطيء. وفي عام 1914 خلال زيارة قام بها إلى نيويورك أصيب بذات الرئة، وهو الداء الذي لم يداوه فقضى عليه بعد عامين، حين عاد إلى نيكاراغوا، مسقط رأسه، وقرر هذه المرة أن يستقر وأن يخفف من إفراطه في كل شيء، ليشتغل خلال العام الأخير من حياته، على إنجاز كتابه الذي سينال شهرة واسعة، "سيرة حياة روبن داريو بقلمه". وهو قضى بعد أسابيع قليلة من صدور كتابه، في أحضان رفيقة أيامه الأخيرة فرانشيسكا سانشيز، وكانت فلاحة شابة تعرف عليها في الريف الإسباني فأغرم بها، وقضى معها سنواته الأخيرة.