كنت كتبت من قبل عن النموذج الإغريقي في آنا كارينينا، ووجدت نفسي أستحضر ميديا وهيلين وغيرهما من النماذج الإغريقية. لكن مسألة ظلت تلح عليّ من دون توقف، وأعني ذلك التشابه الكبير بين آنا كارينينا وإيما بوفاري في الرواية الشهيرة "مدام بوفاري" لغوستاف فلوبير. وقد ظل هذا الهاجس يلاحقني إلى أن قرأت قبل بضع سنوات رواية ماريو بارغاس يوسا "شيطنات الطفلة الخبيثة". منذ ذلك الوقت اجتمعت ثلاث نساء في ذاكرتي بكل ما أوتين من مقدرة على مخالفة السائد والعرف والتقاليد، وكل ما رسمته المجتمعات من حدود وخطوط للسلوك البشري.
وخلال هذه السنوات عثرت على من يشير إلى التشابه بين طفلة بارغاس يوسا وإيما بوفاري، وقد نقل الكاتب محمد سمير مصباح في موقع "دار مصر" فقرة قصيرة لكاتبة أميركية تؤكد فيها ذلك. كأن تقول الناقدة كاترين هاريسون "إن الطفلة الخبيثة عند بارغاس يوسا، ما هي إلا إعادة خلق لبطلة فلوبير، يعيد معها تحطيم الواقع ليخلق منه واقعية جديدة". وهنا أود أن أشير إلى أن أي محاكمة أخلاقية قائمة على بنود ومسلمات حددها الإنسان، لا تصلح معياراً نقدياً لأي عمل فني. فنحن لا نحاكم شخوص الأثر الأدبي انطلاقاً من قوانين صاغها الإنسان نفسه في مراحل تاريخية مختلفة. والأثر الأدبي من جهة أخرى ليس واقعة حقيقية، حتى لو أوغل في واقعيته. قلت من قبل في مقالة أخرى، إن شخصية "سي السيد" عند نجيب محفوظ ليست موجودة في مصر أو سواها من العالم العربي، ولكننا نستطيع تلمس ملامح "سي السيد" في المجتمع المصري والعربي عموماً. ومن هنا أطلق النقاد مصطلح البوفارية بعد رواية مدام بوفاري، لأنه لا يوجد في التاريخ البشري سوى مدام بوفاري واحدة، وكذلك الحال مع آنا كارينينا وزوربا وراسكولينكوف وغيرهم.
شخصيات متفردة
ما أود توضيحه قبل الدخول في عالم النساء الثلاث، هو أن العمل الأدبي ينجز شخصياته المتفردة، التي قد تتشابه مع شخوص في الحياة التي نعيشها، لكنها لن تكونها مطلقاً. أي أن الشخوص الأدبية هي شخوص استثنائية لم توجد من قبل، ولن توجد لاحقاً لا في الحياة ولا في الفنون كلها. حتى عندما يتم تحويل العمل الروائي إلى نوع فني آخر كالمسرح والسينما، فإننا نتلمس اختلافات بين هذه الشخصيات التي تعود في أصولها إلى نموذج واحد.
وحينما ارتبطت آنا كارينينا عندي بالنماذج الإغريقية التي أشرت إليها من قبل، فإن اسمها لا يحيلنا إلى اسم أسطوري أو ميثولوجي، وهو ما ينطبق على اسم "إيما" في مدام بوفاري. لكن الأمر مختلف في شيطنات الطفلة الخبيثة، حيث يحيلنا اسم المرأة "الطفلة التشيلية" في أول نسخة لها، وهو "لي لي" إلى اسم شهير في الميثولوجيا اليهودية، وهو "ليليت". وهذا الاسم توراتياً يمكننا وصفه بالنسخة الأنثوية لإبليس الذي أبى السجود لآدم.
تشترك النساء الثلاث في تجسيد صفة "الخيانة" لأسباب متشابهة بين إيما ولي لي، ولكنها ليست قريبة من أسباب آنا. فبينما تلاحق إيما بوفاري ولي لي طموحهما نحو حياة أزهى وأكثر صخباً وحيوية، نجد آنا تلاحق قلبها الذي انتفض عشقاً للضابط الشاب فرونسكي. لكن الثلاث ارتكبن "كما يوصف فعلهن اجتماعياً"، الخيانة. وهنا أيضاً نجد أن زوجي آنا وإيما لم يكونا معنيين بالعشق والوله والمحبة التي تبحث عنها المرأة عادة كملاذ يؤمن الحماية والدفء. بينما نجد عاشق لي لي "الشاب البيروفي ريكاردو" مولعاً بالمرأة التي تمارس خيانتها له بعلمه وبمعرفته، كما حدث مع أليكسي زوج آنا الذي اكتشف خيانة آنا ووافق على إبقائها زوجة له حفاظاً على وظيفته ومكانته الاجتماعية التي كانت تتصاعد كل يوم.
زوجان وعاشق
النساء الثلاث مرتبطات بثلاثة رجال: زوجين وعاشق، ويقمن بخيانة هؤلاء الرجال، ولكل منهن رؤيتها للحياة المتخيلة أو المرتجاة. خلال رحلة الخيانة الثلاثية تتعرض الشخصيات الثلاث إلى متاعب نفسية تظل تكبر يومياً وساعة بعد أخرى حتى الممات. فقد تخلت آنا عن ابنها الصغير لأجل هذا العشق، وتخلت إيما "سلوكياً" عن ابنتها، وفقدت لي لي ذلك الاستقرار الدافئ الذي كانت تركض وراءه اعتماداً على جمالها.
الملاحظ هنا هو أن إيما بوفاري ولي لي كانتا من أصول ريفية فقيرة، بينما كانت آنا تنتمي، إلى الطبقة المتوسطة وفي طريقها للصعود إلى طبقة أعلى. لكن هذه الأصول المتباينة تلاشت عند اختبار"الخيانة" وكأن الروائيين الثلاثة يريدون التأكيد أن الموضوع لا يتعلق بالصراع الطبقي، مقدار ارتباطه بسيكولوجيا الإنسان ورؤيته للحياة من زاوية ذاتية.
لقد كانت "ميديا" ابنة ملك حين أحبت جيسون وعارضت أباها. وكانت لي لي فتاة بيروفية معدمة. وإذا كانت الشخصيات الروائية قد أثرت في إيما بوفاري، فإن صخب الحفلات قد أثر في الطفلة الخبيثة لي لي.
تخط كل من النسوة الثلاث طريقاً مغايراً للحياة التي كانت عليها. آنا كارينينا تعشق شاباً وتهجر زوجها وابنها، وإيما بوفاري توغل في إقامة علاقات خارج الأسرة والزواج إلى أن تجد نفسها مثقلة بالديون، ولي لي تغير شخصيتها عند كل علاقة جديدة تقيمها، وتعود بين هذه العلاقات إلى العاشق ريكاردو الذي لم أصادف أدبياً عاشقاً مثله، متسامحاً راضياً، على الرغم من معرفته بكل ما تقوم به الطفلة الخبيثة.
شخصيات متشابكة
الغريب هو أن لي لي طفلة ماريو بارغاس، كانت تعرف مقدار هذا الحب الذي يكنه لها ريكاردو، لكنها وجدت نفسها موزعة بين ماض فقير كئيب ومستقبل متخيل تصبو إليه، وبينهما يقف ريكاردو العاشق الذي يفترق عنهما. فهو موظف محترم إلى حد ما، ولكنه لا يستطيع توفير حياة صاخبة وثرية تطمح إليها الفتاة.
هذا الأمر ينطبق على إيما بوفاري تماماً؛ لقد ظنت في البداية أن زواجها من الطبيب شارل بوفاري سيوفر لها حياة مغايرة لحياة الريف والروتين التي كانت تعيشها، لكنها تكتشف تدريجياً أن زوجها يحمل في أعماقه تلك الروح الريفية البسيطة، حيث نراه مسكوناً بالقناعة، وفاقداً لأي طموح آخر. وهكذا تعيش إيما حياة بسيطة ورتيبة تختلف عن حيوات الشخصيات الروائية التي قرأتها. ولذلك كان من السهل عليها الوقوع في براثن الصخب الذي يتمثل لاحقاً في علاقات عدة خارج العلاقة الزوجية.
لكن آنا كارينينا لم تكن تفكر في حياة مغايرة، وكل ما حدث لها هو أنها اكتشفت أن العلاقة الزوجية الرتيبة مع رجل لا يمثل لها سوى استقرار روتيني بارد، وخصوصاً حين التقت بالضابط الشاب فرونسكي في إحدى الحفلات في موسكو. حينها قررت أن هذا الحب أقوى من الرابط الزوجي، ثم تطور إلى أن غدا أكبر من الأسرة والابن. وبغض النظر عن الأحكام الأخلاقية عند النساء الثلاث، إلا أن هذا الطريق كان خياراً ذاتياً لا نستطيع الحكم عليه إلا فنياً.
تصل ميديا في علاقتها بجيسون إلى مرحلة من الشك به وبحبه لها، لا تعود قادرة معه على الاستمرار في هذه العلاقة، فتنمو لديها مشاعر الانتقام التي تصل بها إلى البحث عن أقسى ما يمكن أن تعاقب به جيسون، فتختار قتل ابنيها لكي تلقي بزوجها في الجحيم حياً. لكن آنا حين تصل إلى المرحلة ذاتها من الشك بحب فرونسكي، وقد فقدت ابنها الذي فضلت التخلي عنه لأجل هذا الحب، تختار نهاية أخرى تتمثل في الانتحار بإلقاء نفسها أمام القطار في المحطة.
وحين تكتشف إيما بوفاري أن كل ما فعلته لم يؤد بها إلى الحياة التي حلمت بها وتخيلتها، وقد وجدت نفسها مثقلة بالديون ومحاصرة بالخوف في متاهة أو دوامة قوية، تختار التخلص من حياتها بتناول السم. أما لي لي فقد اختار لها ماريو بارغاس يوسا نهاية مغايرة شكلياً، حين أصابها بالسرطان، وذهب بها في النهاية لكي تموت على فراش ريكاردو وأمامه، بعد أن سجلت كل ما تملكه باسمه.
ثلاثة نماذج
نحن أمام ثلاثة نماذج روائية بنهاية واحدة هي الموت. ولكن السؤال الذي تركناه حتى النهاية هو: من قتل إيما وآنا ولي لي؟ لا توجد جريمة مباشرة أو مألوفة في الروايات الثلاث؛ لا يوجد قتلة مباشرون؛ لا أسلحة ولا مسارح جريمة ولا ألغاز. ولكن المتأمل في مسارات الوقائع التي صاحبت رحلات النساء الثلاث، يجد وراء موت كل منهن شخوصاً آخرين.
حين جاء شارل الطبيب إلى منزل إيما كي يعالج والدها، وقعت في غرامه. لكننا ننتبه لاحقاً أن هذا لم يكن صحيحاً تماماً؛ إنه لم يكن ذاك الحب الذي عرفناه في الروايات الأخرى. لقد اعتقدت إيما أن ارتباطها بشارل يمثل العتبة الأولى التي كان عليها أن تتجاوزها للانعتاق والتحرر. لكن شارل لم ينتبه لأنه كان رجلاً نمطياً ممن لا يفكرون في معنى الحياة؛ لا يفهمونها إلا كما ورثوا هذا الفهم وخبروه عن آبائهم وأمهاتهم ورأوه في الآخرين ممن حولهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد أوحت إيما لشارل غير مرة أنها تريد لها وله أن يتحررا مما هما فيه. لقد أخبرته مراراً أن في استطاعته أن يغير هذا الواقع الساكن الذي لفّهما. لقد سئمت صور المجلات وأخبار المجتمع. لقد أوحت له أن هذه الصور ليست سوى الصدى لصوت حقيقي موجود في مكان ما، وأن كل ما عليه أن يفعله فقط، هو أن يمتلك الإرادة الكافية للخروج من القفص الذي ارتضاه له ولها. لكن رؤية شارل للحياة رفضت كل نداءات إيما.
كان على إيما أن تظل حبيسة تلك الرؤية النمطية، فهي لم تبحث بنفسها عن الصوت الذي كانت صور المجلات تمثل لها صداه. لقد وقع لها ذلك "مصادفة" كما يحدث في التراجيديا الإغريقية. ولكنها وصلت في ما بعد إلى منعطف غامض! لقد اكتشفت زيف هذا الصخب وأنانية أصحابه وتسلطهم على الآخرين من دون مراعاة للقيم الإنسانية النبيلة. لم يكن ذلك يعني أن طموحها كان غير مشروع، وإنما كان يشير إلى اختياراتنا العشوائية أو المخاتلة. كان أمامها ثلاث طرق: العودة إلى شارل والحياة النمطية التي سئمتها، أو الاستمرار في فقدان إنسانيتها في العالم الجديد، أو الموت، فاختارته.
أما آنا كارينينا فقد قتلها زوجها أليكسي بتطلعاته الارستقراطية، ولا مبالاته نحوها كإنسان وكامرأة بحاجة إلى الحب والعاطفة، لا إلى الحفلات وحكايات المجتمع المخملي فحسب. وتظل الطفلة الخبيثة لي لي التي تطرفت في الانتقام من ماضيها وحياة الفقر والجوع والتهميش التي عاشتها من قبل، وربما كانت إصابتها بداء السرطان هي الوسيلة الوحيدة التي ستوقف انحدارها وتطرفها اللامحدود. لقد ظل ماضيها يلاحقها ويدفع بها إلى تخوم المجازفة، إلى أن انزلقت إلى الهاوية.