من المؤكد أننا لن نبدو مغالين إن نحن بادرنا هنا إلى القول بأن الفيلم الأشهر - ولكن لأسباب غير سينمائية كما سنرى - في قائمة أفلام المخرج الأميركي من أصل إيطالي مارتن سكورسيزي هو بالتأكيد الفيلم الذي استنكف كثر عن مشاهدته، في الزمن الذي عرض فيه أواخر ثمانينيات القرن العشرين ونعني به فيلم "الإغواء الأخير للسيد المسيح" وذلك على رغم أن ملايين المتفرجين كانوا قبل ذلك ينتظرونه في شغف لأسباب عديدة كما سنرى بعد سطور. ولكن قبل ذلك لا بد من الحديث عن الأسباب التي جعلت كثر يستنكفون عن ذلك ويفضلون عدم ارتياد الصالات التي تعرضه ولا سيما في فرنسا. ففي تلك الأزمنة بالتحديد كانت تشغل الناس قضية الفتوى التي أعلنها زعيم الثورة الإيرانية الإمام الخميني في حق الكاتب البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي، بسبب روايته "آيات شيطانية" وأسفرت عن تظاهرات عنيفة واغتيالات وقلاقل إنما دون أن تصيب الكاتب بشرارة منها.
رب ضارة نافعة!
في الحقيقة كان التطرف الديني قد بلغ ذروته، ولئن كنا سنقول لاحقا إن ذلك التطرف كان خير مروج لأعمال أدبية وغير أدبية إستفزازية، فإن الوجه الآخر للميدالية كان الرعب الذي أصاب الشارع ولا سيما في مواجهة أعمال إبداعية لم تتوافر لها "الحماية" التي توافرت لسلمان رشدي وروايته التي وصلت مبيعات ترجماتها المختلفة إلى عشرات ملايين النسخ وكان للخميني الفضل في ذلك طبعا. وفي المقابل لن يكون لأعمال أخرى نفس المصير "الإيجابي" الذي كان لرواية رشدي فمات الخميني واندثرت فتواه فيما ظل رشدي يكتب وينشر ويكرّم. والمهم في موضوعنا هنا هو أن سكورسيزي كان أقل حظا منه. ففيلمه الذي حققه في تلك الأيام عن رواية معروفة للكاتب اليوناني كازانتزاكيس لم يكن على السوء الذي كان لـ"الآيات الشيطانية"، ولا الجمهور الذي جابهه وأدى إلى إثارة الرعب لدى المخرج كان على عنف الجمهور الذي استجاب للخميني وفتواه... ومع ذلك كانت المجابهة على مثل عنف تلك ولا سيما منذ أصدر رجلا دين فرنسيان كبيران هما لوستيجيه وديكورتراي بيانا مشتركا قالا فيه انهما لم يشاهدا الفيلم لكنهما يحتجان على عرضه. ولم يكن سكورسيزي في حاجة إلى أكثر من ذلك حتى يرتعب. والجمهور لم يكن بحاجة إلى تفجير أكثر من صالتي سينما في باريس وبعض التظاهرات في نيويورك وغيرها ضد الفيلم حتى يستنكف عن حضوره وينظر بغضب ناحية سكورسيزي نفسه!
فيلم عن الإيمان
ومع ذلك لن يكون من المبالغة التأكيد هنا على أن مارتن سكورسيزي، كان ولا يزال يعتبر من أكثر مخرجي السينما الأميركية الحديثة تعلقاً بروح الدين المسيحي، لا سيما بالمفاهيم الكاثوليكية الصارمة حول مسائل مثل الخير والشر والخطيئة والغفران وطلب التوبة. وقراءة معمقة، تحليلية وواعية، لبعض أهم أفلامه، من "سائق التاكسي" إلى "الثور الهائج" و"بعد ساعات العمل" كافية للتأكيد على هذا. من هنا كان سكورسيزي، في مقدمة الذين أدهشتهم الحملة العنيفة التي واجهت عرض فيلمه المأخوذ عن رواية كازانتزاكيس (صاحب "زوربا" و"تقرير إلى الغريكو"). فالمخرج الأميركي حين حقق فيلمه أواخر سنوات الثمانين، كان يعتقد أنه إنما يحقق فيلماً كاثوليكياً مفعماً بالإيمان، لن تشوبه في عيون الرأي العام المسيحي شائبة. وكان ما يعزز هذه القناعة لديه أن أفلامه السابقة كانت استقبلت بشكل جيد لدى الرأي العام الكاثوليكي والهيئات الكاثوليكية، وإن النقاد عرفوا بشكل عام كيف يقرأونها ويقرأون كاثوليكيتها. طبعاً كان سكورسيزي يعرف أن الرواية حين كانت قبل ذلك بعقود طويلة قد نشرت كعمل أدبي، كانت استقبلت بشيء من التحفظ والقلق، لكنه كان يعزو ذلك إلى يسارية كاتبها التي جعلته مشكوكاً فيه وفي أفكاره، حتى وهو يعلن نوعاً من العودة إلى الإيمان (الشخصي طبعاً) في تلك الرواية. إذاً كانت مفاجأة سكورسيزي كبيرة بما جابه عرض فيلمه في أوروبا، على رغم أن الولايات المتحدة كانت خصت الفيلم أيضاً بكثير من الامتعاض، وبفورة غاضبة أبدتها الهيئات الكاثوليكية.
أسئلة حائرة
ولقد وصلت الأمور إلى ذروتها آخر شهر تشرين الأول (اكتوبر) من العام 1988، في باريس خصوصاً، حيث كان الفيلم يعرض منذ أيام وسط صخب وضجيج كبيرين. ففي ذلك الحين تحول الاحتجاج السلمي والصامت، على رغم شدة غضبه، إلى احتجاج عنيف، وألقيت قنابل حارقة على صالة السينما في حي "سان ميشال" حيث كان الفيلم يعرض، ما أدى إلى تسمم 13 شخصاً بالغازات التي نجمت عن الانفجار. عند ذلك تبين أن الأمور صارت أكثر جدية مما كان يُعتقد وأن مناوئي الفيلم مستعدون للذهاب بعيداً. والحقيقة أن كبار رجال الدين المسيحيين لم يقلّوا في رد فعلهم ازاء فيلم سكورسيزي الذين اعتبروا موضوعه مهيناً لشخصية السيد المسيح، إذ صوّره إنساناً تمتلئ روحه ذات لحظة بالشكوك، ويغويه الجسد، لم يقلّوا في ذلك عن الإمام الخميني، وإن لم يصل أي منهم إلى ما وصل إليه هذا الأخير.
إعدام معنوي لمخرج
ولقد تعددت التظاهرات وتحركات الاحتجاج، من دون أن يؤدي ذلك إلى منع رسمي. لكن الذي حدث هو أن الجمهور استنكف عن ارتياد الصالات التي تعرض الفيلم، خوفاً من القنابل الحارقة وأحداث الشغب الممكنة داخل الصالات وعند مداخلها. وكان هذا نوعاً من الحكم بالإعدام على فيلم كان يخيل لمخرجه أنه الأكثر تعبيراً عن كاثوليكيته وعن حبه للسيد المسيح! ولنذكر في هذه المناسبة أن عنف الاحتجاج في فرنسا في ذلك الحين لم يطاول فيلم سكورسيزي وحده، بل طاول أيضاً أعمالاً عدة منها على سبيل المثال فيلم "قضية نساء" لكلود شابرول الذي احتج الكاثوليك على كونه يعالج، بكل حرية، قضية قابلة تجهض النساء جرى قطع رقبتها أيام حكومة فيشي النازية في فرنسا. وهنا كان الاحتجاج أعنف إذ أدى في إحدى الصالات إلى مقتل متفرج بعد أن القيت قنبلة مسيلة للدموع في صالة تعرض الفيلم.
ترويج من طريق الفتوى
طبعا لا يهمنا هنا أن نعود إلى تلك الأحداث إلا من ناحية تضافرها التاريخي لتعلن نوعا من "نضالية" سياسية/ دينية في زمن كانت تختلط فيه المفاهيم حتى وإن كان لا بد من التأكيد على غرابة ألا يستفيد سكورسيزي من مفارقة لا بد من التوقف عندها هنا. ولكن ما يبدو أكثر أهمية هو أن ذينك الحدثين الكبيرين سرعان ما سوف يكشفان عن عدم جدوى تلك اللعبة الرقابية، سواء كانت رسمية أو شعبية. ففي زمن الفضاءات الإعلامية المفتوحة راح يبدو أكثر وأكثر وضوحا أن الرقابات باتت تشكل الطرف الأكثر قدرة على الترويج لكل عمل تحاول الرقابة الدنو منه ومنعه. ولعلنا ذكرنا أعلاه حال "الفتوى الخمينية" التي أدت إلى مضاعفة توزيع ومبيعات "الآيات الشيطانية" عشرات بل مئات الأضعاف، ما غطى على ما يمكننا أن نعتبره، مقارنة بالتحديد مع روايتين لرشدي سابقتين عليها وهما "العار" و"أبناء منتصف الليل" كم أن الكاتب تراجع إبداعيا وإنسانيا في الرواية "الممنوعة" بحيث بدت استفزازية ذات غايات تجارية لا أكثر، وعلى الأقل بحسب كثر من مراجعيها وناقديها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
طلب غريب ورواج غير متوقع
وقد يكون مفيدا هنا أن نذكر حالتين قريبتين كمثال على ما نرمي إليه: حالة رواها لنا الراحل علي أبو شادي الذي حين كان رقيبا على المصنفات الأدبية والفنية في مصر يومها، راح يتصل به عدد لا بأس به من كتّاب مغمورين راجينه أن يمنع كتبهم! أما الحالة الثانية فتتعلق بفيلم رسوم متحركة إيراني معارض هو "برسبوليس" للمبدعة الإيرانية المقيمة منفية في فرنسا ممارجان ساترابي. فهذا الفيلم حين عرض في مهرجان "كان" احتجت السفارة الإيرانية في فرنسا على عرضه وطلبت منعه، لكن الفرنسيين لم يستجيبوا لذلك، فمر الفيلم مرور الكرام. لكنه حين عرض في بيروت منعته السلطات الرقابية بطلب من السفارة الإيرانية في لبنان وبضغط من حزب الله، فكانت النتيجة أن راحت نسخه تنتشر منذ اليوم التالي وتباع بعشرات ألوف النسخ ويقبل عليها شراة ما كان في نيتهم أن يروه لولا ذلك المنع. ولعل الطريف في الحكاية ما قيل من أن طباعة نسخ الفيلم المقرصنة إنما كانت تجري في الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل حزب الله نفسه، ومنطقة نفوذ... السفارة الإيرانية!