بينما كان الركاب يجلسون في المقاعد الخلفية بعدما حزموا حقائبهم ذلك الصباح في جاكرتا في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2018، أكمل طيارو شركة "ليون إير" (Lion Air) عمليات التفقد قبل الإقلاع وسط وسائل الراحة الحديثة التي توفرها طائرة "بوينغ 737 ماكس 8" مقارنة بطائرتي "737" السابقتين، وقد قامت كلتاهما برحلات عديدة، كانت المقصورة هادئة للغاية، حتى خلال الدقائق الخمس التي استغرقتها المحركات الكبيرة الجديدة لبدء التشغيل. كانت مقاعد الطيارين واسعة أكثر وتتوزع أربع شاشات ملونة كبيرة أمامهم، ما يجعل رؤية قراءات الارتفاع والسرعة أسهل- إنها لا تشبه أبداً لوحات الاتصال التناظرية القديمة التي أطلق عليها مصممو "بوينغ" ذات يوم اسم "مقاييس ضغط البخار".
أخبر القبطان بهافي سونيا مساعده هارفينو أنه كان يشعر بالمرض، ولكنه في الأحوال العادية، كان رجلاً متفائلاً ومحباً للحياة. كان سونيا شغوفاً بالطائرات. بعد إتمام هذه الرحلة، كان يخطط للسفر إلى موطنه نيودلهي، ثم الذهاب في رحلة طريق عبر المرتفعات القريبة من نيبال، في الأسبوع التالي، مع زوجته غاريما سيثي التي اقترن بها قبل سنتين. هناك رابط عائلي بين أسرة سونيا وخطوط الطيران، إذ عملت والدته مديرة في شركة طيران الهند المحدودة، وكانت أخته الصغرى تطمح لأن تصبح طياراً. بعد التحاقه بمدرسة طيران في كاليفورنيا، انضم سونيا إلى شركة "ليون إير" في عام 2011، وهو نفس العام الذي قدمت فيه شركة الطيران على طلبية واحدة كانت حينها هي الأكبر في تاريخ شركة "بوينغ"، حيث بلغت قيمتها 22 مليار دولار لشراء طائرات من طراز "ماكس" ضمن صفقة توصل إليها الشريك المؤسس لخطوط الطيران بشكل مباشر مع الرئيس الأميركي باراك أوباما.
تقول الحكاية، بحسب موقع "بلومبيرغ"، إن رجلاً يبلغ من العمر 43 عاماً يدعى بول أيوربابا، كان في مطار جاكرتا، ذلك الصباح، وأرسل إلى عائلته مقطعاً مصوراً متقطعاً عبر تطبيق "واتس آب"، يظهر فيه وهو يسير باتجاه الطائرة وهو يصعد إلى الطائرة "ماكس" التابعة لخطوط "ليون إير"، المصبوغة باللونين البرتقالي والأبيض المشرقين. وخلال الدقائق التي سبقت إغلاق باب الطائرة، أرسل ديريل فيدا فيبريانتو وهو عريس جديد يبلغ من العمر 22 سنة، صورة "سيلفي" لعروسه التي تزوجها قبل أسبوعين فقط، وهو ينطلق في رحلته للعمل على متن سفينة سياحية. أما واهيو ألديلا فكان يجلس مع ابنه خيردان فهريزي، الذي ذهب معه إلى جاكرتا لحضور مباراة كرة قدم.
"رحلة قصيرة"
كانت الساعة 6:20 صباحاً عندما غادرت الرحلة رقم 610 التابعة لشركة "ليون إير" المدرج متجهة في رحلة قصيرة إلى جزيرة قبالة سومطرة. لم يعرف سونيا ولا هارفينو أن هناك خللاً بمقدار 21 درجة في الأجزاء الداخلية الحساسة لمستشعر صغير يوجد على الجانب الأيسر من الطائرة يسمى مروحة زاوية الهجوم- وهذا خطأ ارتكبه الميكانيكيون الذين قاموا بفحص المستشعر. بالكاد ارتفعت عجلات الهبوط عن الأرض عندما بدأت دفة التحكم أمام سونيا بالاهتزاز، وهي إشارة إلى توقف محتمل. بدأت التنبيهات التي تشير إلى الارتفاع الخطأ وقراءات خطأ للسرعة الجوية تومض. للأسف لا تستطيع مسجلات بيانات الرحلة التقاط تعابير وجوه الطيارين، أو الشعور بالشلل الذي ينتابهم عندما يدركون أن طائراتهم قد تقتلهم.
شهد التاريخ القصير لشركة "ليون إير" قسطاً لا بأس به من الاضطرابات، لكنها بشكل عام كانت إحدى الشركات الصاعدة بشكل رائع. بدأ كيرانا، الشريك المؤسس لخطوط الطيران، كموزع في شركة "براذر" للآلات الكاتبة قبل أن يفتح وكالة سفر في جاكرتا بالتعاون مع شقيقه في التسعينيات. في البدايات، كان يقف في مطار سوكارنو هاتا الدولي حاملاً لوحة عليها أسماء الركاب القادمين الذين سيقوم بنقلهم. جمع كيرانا وشقيقه في النهاية 900 ألف دولار واستأجرا طائرة قديمة من طراز 737-200 إضافة إلى طائرة منافسة بائسة من صنع سوفياتي من طراز ياكوفليف ياك 42. بدأت شركة "ليون إير" بتسيير الرحلات في عام 2000.
بحلول عام 2015، مع قيام الاقتصادات القوية في آسيا بإفراز مسافرين جدد من الطبقة المتوسطة، أصبح كيرانا مليارديراً. سيطرت شركة الطيران الخاصة به على نصف السوق المحلية في إندونيسيا، وهي دولة يبلغ عدد سكانها 250 مليون نسمة يعيشون على أكثر من 17 ألف جزيرة تمتد على مسافة تبلغ 3 آلاف ميل من الشرق إلى الغرب. أما في شركة "بوينغ"، فقد رأى دينيس مويلينبرغ، المولود في ولاية أيوا، والذي أصبح الرئيس التنفيذي للشركة في ذلك العام، أسواقاً غير مستغلة مثل إندونيسيا وتحدث عن كيف وصلت صناعة الطيران إلى وضع طبيعي جديد متمثل في دورات من الصعود والانحسار.
كانت "بوينغ" حينها اسماً عملاقاً في عالم الطيران الأميركي لمدة قرن من الزمن، لكن التجديد المالي تحت إدارة مويلينبرغ حولها إلى شيء آخر- شركة محبوبة في وول ستريت. في عام 2017، أعلنت عن قفزة في الأرباح بنسبة 67 في المئة لتصل إلى 8.2 مليار دولار. تضاعف سعر سهم "بوينغ" ثلاث مرات تقريباً خلال فترة إدارة مويلينبرغ القصيرة، حيث تجاوز 386 دولاراً، وقال كبير المسؤولين الماليين، غريغ سميث، لزملائه في أحد الاجتماعات، إن سعر السهم قد يتخطى 800 أو 900 دولار إذا استمرت الشركة في فعل الأمور التي تسعد المساهمين: رفع توزيعات الأرباح، وإعادة شراء الأسهم، وإبقاء النفقات منخفضة.
"الطيران الأعمى"
هذا بالضبط ما كان يخشاه بعض الأشخاص في "بوينغ"، وفقاً لمئات من الساعات المسجلة خلال مقابلات مع موظفين حاليين وسابقين لصالح الكتاب الذي اقتبست هذه المقالة منه: "الطيران الأعمى: مأساة 737 ماكس وسقوط بوينغ" Flying Blind: The 737 Max Tragedy and the Fall of Boeing للكاتب بيتر روبسون. وسيصدر الكتاب في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) عن دار دابلداي.
كان الموظفون يشتكون فيما بينهم كيف أن الشركة التي كان يحكمها في السابق مهندسون أبدوا كرههم لـ"وول ستريت" بكل وضوح، راحت الآن تحتفي بالمديرين لخفض التكاليف، واختيار الجهات المنظمة، والضغط على الموردين بأساليب غير رحيمة على غرار ما تقوم به سلسلة متاجر "وول مارت" لخفض الأسعار.
كانت طائرات "ماكس" التي تم تسليمها لأول مرة في عام 2017، تتناسب تماماً مع هذه العقلية. في رسائل البريد الإلكتروني التي سلمت لاحقاً إلى محققي الكونغرس، تفاخر أحد طياري "بوينغ" باستخدام "حيل ذهنية جيدة" لإقناع شركات الطيران والهيئات التنظيمية بعدم وجود حاجة الطيارين الذين حلقوا بالنسخة السابقة من طائرة "737" (مثل سونيا وهارفينو) إلى الخضوع لتدريب افتراضي مُكلف كي يتمكنوا من قيادة طائرات "ماكس". بالنسبة لشركات الطيران، يشكل التدريب جزءاً كبيراً من الأموال التي تنفقها على العاملين. وأدى تقليل النفقات إلى منح عملاء "بوينغ" سبباً آخر للاستغناء عن خدمات منافستها الأوروبية "إيرباص".
وأظهرت أدلة أخرى أن شركة "بوينغ" ضغطت باتجاه خفض تكاليف الاختبارات وتجاهلت مطالبات المهندسين بأجهزة تحكم بالطيران أكثر تعقيداً. كتب أحد الموظفين وقد وصل إلى مرحلة اليأس من الأخطاء: "هذه الطائرة من تصميم مهرجين، الذين يخضعون بدورهم لإشراف قرود". حتى أن الشركة رفضت طلباً من شركة "ليون إير" نفسها للحصول على تدريب إضافي. قال أحد طياري "بوينغ" لزميله متذمراً مما حدث مع "ليون إير"، "أغبياء".
الرحلة التي لا تُنسى
بالعودة إلى تلك الرحلة التي لا تُنسى، عندما اهتزت دفة التحكم بعنف، سأل مساعد الطيار هارفينو القبطان عما إذا كان يعتزم العودة بالطائرة إلى المدرج. رغم مرضه، طلب سونيا بصوت قوي من هارفينو الحصول على تصريح بنقطة توقف لكسب بعض الوقت. قال هارفينو عبر جهاز الاتصال: "هناك مشكلة في التحكم بالطيران". وبينما كان سونيا يتجه نحو الموقع الجديد، نزلت عجلات الهبوط بشكل غامض. قام بالضغط على مفتاح في دفة التحكم ليرجع العجلات إلى مكانها. عادت العجلات إلى الخلف، لكنها تدلت مرة أخرى. استمر الوضع على هذا النحو لمدة 8 دقائق. وكان كل ما تمكن رؤيته من النوافذ هو خليج جاكرتا الأزرق الممتد.
قام هارفينو بتقليب كتيب المعلومات السريع الخاص بطائرات "737"، باحثاً عن إجابة في الصفحات التي تعرض قوائم التحقق في حالات الطوارئ. من بين العناوين: سرعة جوية غير ثابتة، تسرب مزدوج، تغير وجهة الرحلة، ارتفاع درجة حرارة الجناح. لكن يبدو أنه لا يوجد تفسير لهذا الشبح الذي يصارع الطيارين لأخذ السيطرة على الطائرة. قام سونيا بالضغط على المفتاح 21 مرة للإبقاء على عجلات الهبوط مرفوعة. أعطي الإذن للطائرة للارتفاع مسافة 27 ألف قدم لكنها لم تبلغ 6 آلاف حتى. كان الركاب يشعرون بالغثيان من كل اهتزازة مخيفة. وأخيراً، استدعى هارفينو المضيفة للحضور إلى قمرة القيادة. أجابت "نعم يا سيدي"، وأعادت سماعة الهاتف بعنف إلى مكانها ما أصدر طرقة قوية (يمكن سماعها في مسجل صوت قمرة القيادة) وفتحت الباب. طلب منها القبطان إرسال مهندس من شركة "ليون إير"، والذي صادف وجوده على متن الطائرة، للمساعدة في اكتشاف المشكلة. بدأت أجراس الاتصال الداخلي بالرنين وهي تستدعيه للحضور إلى القمرة.
انتصر "الشبح"
سونيا الذي كان يهيئ نفسه لإعلام زميله بما يحدث وربما يريد إلقاء نظرة على الكتيب بنفسه، طلب من مساعده أن يتولى مهام التحكم. تدلت عجلات الهبوط مرة أخرى. تمتم هارفينو "إنه شديد الـ...". ثم ضغط على المفتاح لكن ليس بقوة كما فعل القبطان. بعد بضع ثوان سقطت العجلات مجدداً، وضغط هو على المفتاح مرة أخرى. بدأت الطائرة تميل نحو الماء. صاح هارفينو، أن الطائرة كانت تتجه إلى أسفل. أجاب سونيا مشتت الانتباه "لا بأس". وبعد عشر ثوانٍ، كانا يهبطان بسرعة 10 آلاف قدم في الدقيقة. سحب هارفينو اليائس دفة التحكم بشدة، وانطلقت الإنذارات. (جاء تحذير من صوت آلي يقول "معدل الغرق!"). أصبحت المياه الآن هائلة ومرعبة. بدأ هارفينو بترديد عبارة "الله أكبر، الله أكبر"، بينما راح الصوت الآلي يردد "تضاريس، تضاريس". بقي سونيا صامتاً.
في الساعة 6:32 صباحاً، انتصر الشبح. شاهد الصيادون المذعورون الذين كانوا على متن قارب قريب الطائرة التي تحمل 189 شخصاً، وهي ترتطم بالبحر بزاوية عمودية تقريباً بسرعة 500 ميل في الساعة. سرعان ما بدأت محطات التلفزيون في بث صور الحطام العائم وإجراء مقابلات مع أقارب الضحايا المذهولين. ناندا أيوربابا، 13 عاماً، ابنة الرجل الذي أرسل الفيديو المتقطع قبل ساعات فقط، قالت: "أنا متأكدة من أن أبي سيتمكن من السباحة حتى النجاة".
سرعان ما كان فريق إنقاذ الغواصين الإندونيسيين في الماء، يستخرج الهواتف المحمولة وبطاقات الهوية والحقائب والصور. بدأت الرافعات في سحب قطع الحطام الكبيرة، وبدأ الغواصون في البحث عن مسجل البيانات في الرحلة ومسجل صوت قمرة القيادة. ذهب والد سونيا إلى مستشفى كرامات جاتي للشرطة في شرق جاكرتا، حيث جلس بصمت بينما كان أحد أعضاء الفريق يأخذ مسحة من داخل خده لجمع عينة من الحمض النووي للتعرف على رفات ابنه. أثناء البحث، تمت إضافة اسم آخر إلى عدد القتلى: غرق غواص هو سيكرول أنتو وعمره 48 عاماً.
في غضون ساعات من تحطم الطائرة، دعا جون هاميلتون نائب رئيس قسم الهندسة في شركة "بوينغ" لطائرات الرحلات الجوية، الطيارين وخبراء التحكم في الطيران إلى سياتل لمناقشة ما حدث. لم يكن النقاش طويلاً، كما وصفه هاميلتون لاحقاً للمحققين في الكونغرس. أدى البرنامج الآلي المعروف باسم نظام تعزيز خصائص المناورة، أو MCAS، إلى انحراف المثبت الأفقي، وهو الجناح الصغير الموجود في الجزء الخلفي من الطائرة، استجابةً لقراءة خطأ من المستشعر المنحرف. قال هاميلتون: "لقد حددنا بسرعة أن تنشيط هذا النظام قد يكون أحد السيناريوهات المحتملة... وبمجرد ظهور نتائج مسجل بيانات الرحلة في وقت لاحق من الأسبوع... بدأنا العمل على تغيير البرنامج على الفور".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حظر أوروبي
بسبب سجل الأمان الملطخ الذي تتمتع به "ليون إير"، تعرضت الشركة للهجوم الأشد بسبب حادث التحطم. لقرابة عقد من الزمن، حتى يونيو (حزيران) من عام 2016 ، تم حظر شركة الطيران من المجال الجوي للاتحاد الأوروبي، إلى جانب معظم شركات الطيران الإندونيسية الأخرى، بسبب مخاوف بشأن ممارسات الصيانة والتدريب في البلاد. خرجت طائرة تابعة لشركة "ليون إير" عن المدرج في مطار أديسومارمو الدولي وسط جاوة عام 2004، ما أسفر عن مقتل 25 شخصاً. بينما خرجت طائرة أخرى عن مدرج في بالي عام 2013 وهبطت في الماء، ما أدى إلى تفكك جسم الطائرة، إلا أن ركابها الـ108 نجوا بأعجوبة.
بعد مرور أسبوع على حادثة طائرة "ماكس" في جاكرتا، احتشد أهالي الضحايا في قاعة مزدحمة لحضور اجتماع بقيادة وزير النقل الإندونيسي. لقد رصدوا كيرانا الشريك المؤسس لـ"ليون إير" بين الحشد وطالبوه بالتعريف عن نفسه. وقف وطأطأ رأسه، وهي لفتة اعتبروها إما ندماً أو شعوراً بالخزي.
عمل غير مكتمل
في مكاتب إدارة الطيران الفيدرالية بالقرب من سياتل، بدأ المهندسون يبحثون في ملفاتهم للحصول على معلومات حول البرنامج المعني واكتشفوا ما بدا أنه عمل غير مكتمل وغير دقيق قام به موظفو "بوينغ" المكلفون بالإشراف على مسائل السلامة بصفتهم ممثلين مفوضين من إدارة الطيران الفيدرالية. تم تسليم تقييم السلامة الضخم لنظام تعزيز خصائص المناورة إلى الوكالة قبل أربعة أشهر فقط من اعتماد الطائرة رسمياً. بينما صنف نائب شركة "بوينغ" الذي فحص تصميم البرنامج مخاطر فشل النظام على أنها ثانوية نسبياً.
لكن المستندات الموجودة في الملف تعكس التصميم السابق للبرنامج (النسخة سي)، وأنه تمت لاحقاً إضافة نسخة ليست أقوى (هي النسخة إي) إلى اختبارات الطيران. أظهرت الوثائق أن لدى المثبت القدرة على ضبط ارتفاع أو نزول الطائرة بمقدار 0.6 درجة، لكن في شكله النهائي، يمكن للمثبت إجراء تعديلات تعادل أربعة أضعاف تلك الزاوية. يقول مهندس في إدارة الطيران الفيدرالية، طلب عدم الكشف عن هويته لأنه غير مخول بالتحدث علناً: "عندما قاموا بتغيير التصميم، فقد غيّر بشكل جذري الأهمية المحتملة لميزة نظام تعزيز خصائص المناورة... لم يتم إبلاغ مهندسي إدارة الطيران الفيدرالية بهذا، الذين يقيمون الامتثال [للوائح]. في الواقع، لم يعرفوا حتى عن ذلك".
وصف أحد الطيارين دليل الطيران في طائرات "ماكس" بأنه "غير ملائم وناقص بدرجة تكاد تكون إجرامية".
ناقشت هيئة مراجعة السلامة في "بوينغ"، وهي تجمع رسمي للمهندسين والطيارين، تحطم طائرة "ليون إير" في أوائل نوفمبر. أقر أعضاء الهيئة في ما بينهم في وقت سابق ببعض عيوب البرنامج. لكنهم توقعوا أن يتمكن الطيارون بأمان من الاستجابة لأي خلل في البرنامج. والآن شككوا في افتراضاتهم الخاصة.
حماية ذاتية
هناك اتفاق غير معلن على التكتم متعارف عليه في أخوية المهندسين والطيارين، وقد تم تطبيقه هنا. يُفسَّر هذا جزئياً بالحماية الذاتية: إذا كتب شخص ما بصراحة عن أحد العيوب، فإنه يعرض الشركة المصنعة لمسؤولية إضافية بسبب معرفتها مسبقاً بالمشكلات. أثناء الجدل الدائر حول تصميم دفة طائرة "بوينغ" والذي ألقي اللوم عليه في حادثتي تحطم في التسعينيات، قدم محامو المدعين في النهاية مذكرة تنص على أنه "توجد لدينا مشكلة"، حيث أقر المهندسون- حتى قبل حادث التحطم الثاني- أن تعطل صمام الدفة كان محتملاً. رأى البعض في "بوينغ" المعاناة التي سببها ذلك لزملائهم الذين طُلب منهم شرح موقفهم بعد سنوات، فأصبحوا أكثر حرصاً بشأن ما يكتبونه.
كان هناك سبب آخر للإحجام عن الاعتراف بأن هناك قصوراً في التصميم- إنه سبب يتعلق بالعرق والجنسية، وليس التكلفة. يبدو أن التعاطف الذي قد يظهره طيارو "بوينغ" تجاه طيار يشبههم لم يصل إلى سونيا وهارفينو. استمرت المحادثات الدائرة في "بوينغ" تركز على كيف أن هارفينو، عندما استلم دفة التحكم، لم يكن قادراً على تطويع الطائرة باستخدام المفتاح. لطالما كان طيارو "بوينغ"، ومعظمهم رجال بيض كبار في السن، يتبادلون النكات الخاصة حول الطواقم غير الكفؤ التي التقوا بها في الدول الأخرى. وفقاً لأحد الأشخاص، كان أحد الطيارين يردد بشكل مستمر "إنه غبي جداً لدرجة أنه لا يستطيع تهجئة 737". بينما يتساءل مدرب آخر بنبرة خطابية عما إذا كان بإمكان شخص اسمه "تشونغ فو هو" التعامل مع إجراء معين.
وخلصت هيئة مراجعة السلامة إلى أنه ينبغي على "بوينغ" إصدار تنبيه يوجه الطيارين الذين يواجهون مشكلة في نظام تعزيز خصائص المناورة إلى قائمة تدقيق محددة في الدليل المرجعي السريع- في هذه الحالة، القائمة الخاصة بإيقاف مثبت المدرج. وافقت إدارة الطيران الفيدرالية على التوصية في 7 نوفمبر، مصدرة توجيهاً طارئاً لأهلية الطيران "بناءً على التحليل الذي أجرته الشركة المصنعة". أخبرت النشرة الطيارين وشركات الطيران أنه في حالة تلقي مدخَلات خطأ من مستشعر زاوية الهجوم، "فهناك احتمال إصدار المثبت الأفقي أوامر متكررة بإنزال عجلات الهبوط"، و"تأثير محتمل للتضاريس"، وذلك بحسب لغة الطيران المطمئنة. حتى ذلك الحين، لم تتطرق النشرة إلى برنامج تعزيز خصائص المناورة المسؤول عن العطل.
بكل وضوح، كان التوجيه يقول، إن طائرة "بوينغ" الجديدة تماماً، والتي يُفترض أنها أعجوبة في عالم التكنولوجيا الحديثة يمكن أن تصدم نفسها بالأرض بناءً على بيانات خطأ تصدر عن جهاز استشعار صغير. بدا الأمر وكأنه خطأ من جهة واحدة من المفترض أنه لا يوجد في الطائرات التجارية. وعندما بدأ موظفو شركة "بوينغ" في التحدث بالسر مع شركات الطيران حول نظام تعزيز خصائص المناورة، موضحين كيفية عمل البرنامج، بدأت الأقاويل تنتشر بين الطيارين.
أكثر ما أثار قلق الطيارين هو أن هذه الميزة الجديدة قد قلبت فلسفة التصميم التي تبنتها "بوينغ" لعقود، الأمر الذي طالما ادعت الشركة المصنعة أنه يميزها عن منافستها الرئيسة "إيرباص". كان الطيارون يقولون: "إذا لم تكن طائرة بوينغ، فلن نقودها"، فخورين بأن الكمبيوتر لن يسلب منهم السيطرة على الطائرة أبداً. الآن كانت عملاقة الطيران الأميركية تقول لهم بشكل عرضي، إن هذا ما فعله النظام بالضبط.
تم إدخال نظام تعزيز خصائص المناورة في عناصر التحكم لمعالجة مشكلة في التصميم المادي، وتطلب التفاعل مع البرنامج الجديد كثيراً من الطيارين. سيتعين عليهم أن يلاحظوا، في غضون ثوانٍ، أن المثبّت كان يخرج عن سيطرتهم، ثم يبدؤون، بكفاءة روبوتية، في البحث عن قائمة المراجعة الصحيحة. بدأ الطيارون في الإبلاغ عن مخاوفهم عن طريق نظام الإبلاغ عن سلامة الطيران من دون الكشف عن الهوية الذي تديره وكالة ناسا. وصف أحد الطيارين دليل طيران "ماكس" بأنه "غير ملائم وناقص بدرجة تكاد تكون إجرامية".
إلقاء اللوم على الطيارين
في 13 نوفمبر، ظهر مويلينبرغ، الذي كان يرتدي بدلة رمادية وقميصاً ناصع البياض وربطة عنق بنفسجية، عبر قناة "فوكس بزنس" للرد على المخاوف. قالت مقدمة اللقاء ماريا بارتيرومو: "أسئلة جديدة موجهة هذا الصباح إلى بوينغ". بدأ مويلينبرغ مباشرة بسرد الجزء الأول من السيناريو المعد مسبقاً في ذهنه. "حسناً، ماريا، أعتقد أنه من المهم أن نعرب جميعاً عن تعاطفنا مع الخسارة التي وقعت في الرحلة 610 التابعة لخطوط "ليون إير"، وبالتأكيد نحن نتعاطف مع العائلات المتضررة... لقد كنا نعمل بشكل وثيق مع سلطات التحقيق طوال الوقت". وقال في الختام: "الخلاصة هنا هي أن 737 ماكس آمنة. السلامة هي قيمة أساسية بالنسبة لنا في بوينغ".
سألت بارتيرومو ما الذي حدث، وألقى مويلينبرغ باللوم على الطيارين. وقال، إن الطائرة "لديها القدرة على التعامل مع" جهاز استشعار رديء مثل جهاز الاستشعار المشتبه به في تحطم الطائرة الإندونيسية، في الواقع، أصدرت شركة "بوينغ" بالفعل نشرة تلفت بها عناية الطيارين إلى "إجراءات الطيران الحالية".
على خلفية لقطات تظهر زوارق الإنقاذ وهي تلتقط الحطام من المياه، سألت بارتيرومو ما إذا كان يأسف لعدم إخبار الطيارين بالمزيد عن النظام. فأجاب: "لا، مرة أخرى، نحن نقدم جميع المعلومات اللازمة لتحليق طائراتنا بأمان".
ألحت بارتيرومو: لكن هل كانت تلك المعلومات متاحة للطيارين؟ قال مويلينبرغ: "نعم ، هذا جزء من دليل التدريب، إنه إجراء قائم". فقالت: "أوه، فهمت".
لكن في الواقع، لم يكن نظام تعزيز خصائص المناورة موجوداً في الدليل، إلا إذا حسبنا ذكره في الفهرس الذي حدد المصطلح، ولكنه لم يشرح وظيفة البرنامج. كان التعريف على الأرجح من بقايا مسودة سابقة، قبل أن تقنع "بوينغ" إدارة الطيران الفيدرالية بحذف شرح أشمل.
في مذكرة موجهة للموظفين بتاريخ 19 نوفمبر، طمأنهم مويلينبرغ قائلاً: "سنتعلم من هذا الحادث، وسنواصل تحسين سجل السلامة لدينا". لكن لم يكن بعض الطيارين مستعدين لجعل الحادثة تمر بسلام. في شنغهاي ذلك الخريف، التقى اثنان من مدربي "بوينغ" طياراً من شركة "أميركان إيرلاينز غروب إنك"، الذي هاجمهما بسبب "الأرواح التي خسرناها" في إندونيسيا، في مواجهة وصفها أحد المدربين في وقت لاحق بغير المريحة. وأجاب أحد موظفي "بوينغ" قائلاً "توقف"، منبهاً الطيار إلى انتظار المزيد من الأدلة.
وفي سياتل، انضم المدرب إلى ستة من زملائه ليستمع إلى ملخص من باتريك غوستافسون، رئيس الطيارين الفنيين لطراز "737"، حول كيفية عمل نظام تعزير خصائص المناورة. عندما أخبرهم غوستافسون أن النظام ينطلق بناء على ريشة مروحة واحدة في زاوية الهجوم، وأنه سيستمر في إصدار الأوامر حتى بعد قراءة سيئة، قال المدرب، الذي طلب عدم الكشف عن هويته أثناء مناقشة محادثة خاصة، "لقد صدمنا على مستوى العالم". لقد أدركوا الخلل في التصميم على الفور. يقول المدرب: "يخوض الطيار صراعاً مع الطائرة طوال الوقت".
أرسلت "بوينغ" نائب رئيس فيها يُدعى مايك سينيت وطيار الاختبار المخضرم كريغ بومبين لإزالة التوتر مع الطيارين العاملين لدى كبار الشركات الأميركية المتعاملة معها. في 27 نوفمبر، زار الرجلان نقابة طياري شركة "أميركان إيرلاينز" في فورت وورث. وكان رئيس النقابة، دان كاري قد اتفق مع الموظفين مسبقاً على أنه إذا بدا الكلام الذي يستمعون إليه غير صادق، فسيقوم بتسجيل المحادثة. كان مسؤولو "بوينغ" التنفيذيون قد بدؤوا الحديث قبل دقائق فقط عندما بدأ كاري بالتسجيل خفية بواسطة هاتفه.
يمتلك سينيت صوتاً خافتاً شبه مخنوق، وكان يقول عند بدء التسجيل: "أحد الأمور التي نقرأها في الصحافة هي أن بوينغ وضعت نظاماً على متن الطائرة ولم تخبر أي شخص عنه". قال: "إن هذا الكلام غير صحيح... إنه مجرد برنامج صغير". وأوضح سينيت أن تصميم النظام وترخيصه أخذا في الحسبان بالكامل الإخفاقات مثل تلك التي حدثت في إندونيسيا. وليس صحيحاً أن تطلق عليه الصحافة اسم "خطأ من طرف واحد"، لأن "وظيفة البرنامج والطيار المدرَّب يعملان جنباً إلى جنب ويشكلان جزءاً من النظام". أدى هذا التأكيد إلى طرح طيار لديه لكنة المناطق الغربية مجموعة من التحديات بدأها بالقول: "أنا آسف، هل قلت طياراً مدرباً؟" قاطع الكابتن مايكل ميكايليس، المعروف باسم الاتصال الخاص به "تاز" كطيار لطائرات "F-16" في سلاح الجو الأميركي.
قال سينيت:"نعم ، نعم". حاول مواصلة كلامه، لكن ميكايليس والطيارين الآخرين قاطعوه مرة أخرى. كانت هناك حقيقة واضحة مفادها أن "بوينغ" لم تدرب الطيارين على النظام. قال ميكايليس: "لم يعرف هؤلاء الرجال حتى أن النظام اللعين كان موجوداً في الطائرة". وقال الطيارون، إنه في حالة تعطل النظام، فسيكون من الصعب على طيار في خضم تلك اللحظة تشخيص المشكلة وسط كل الإنذارات المتضاربة.
اعترف سينيت: "نحن نواجه صعوبة مع هذا". ثم أثار قضية اعتبرها بعض الطيارين بمثابة انتقاص لـ"قدرتهم على التحليق"، وهو مصطلح يستخدم بين الطيارين لوصف قدرتهم الطبيعية على القيادة- وبالتالي، رجولتهم. سألهم سينيت، لماذا يعد السبب مهماً م دام أن هناك مُثبتاً مدرجاً؟ ألا يستطيع الطيار في مثل هذه الحالة تشغيل قائمة التدقيق فقط؟ عرف طيارو الخطوط الجوية الأميركية بشكل بديهي أن تشخيص عطل مثل الذي تعرضت له طائرة "ليون إير" سيستغرق وقتاً. أجاب المتحدث باسم النقابة دينيس تاير: "هذا العطل بالتحديد تطغى عليه عوامل تشتيت أخرى كثيرة". فقال ميكايليس مؤيداً: "بالضبط".
كارثة حقيقية
كانت الطائرة لا تزال جديدة على الطيارين، وقلة منهم قد حلقوا بها فعلاً أو تلقوا تدريباً سريعاً عبر جهاز آي باد. استشاط ميكايليس غضباً لأن البرنامج، وفقاً للروايات التي قرأها، استمر في توجيه أوامر لعجلات الهبوط بالنزول، قائلاً: "أنت تتطاول على دفتي، هل تعلم ذلك؟"، وتابع قائلاً: "كانت بوينغ ستواجه كارثة حقيقية" لو حدث الفشل ذاته أثناء رحلة لطائرة "ماكس" منطلقة من ميامي وأسقط طيارون أميركيون طائرة في خليج بيسكين. وقال: "قرر شخص ما على مستوى الشركة بأنه ليس من المهم إطلاع الطيارين على ذلك".
استمر الطيارون في طرح السيناريوهات على سينيت، وراحوا يتحدثون بين بعضهم البعض تقريباً في نهاية المطاف. تساءل أحد الطيارين عن سبب تلقيه تدريباً مدته 40 دقيقة فقط على طائرات "ماكس"، بينما كانت شاشة العرض مختلفة تماماً عن سابقتها. وأشار آخر إلى أن الأميركيين ما زالوا لا يمتلكون جهاز محاكاة لطائرات "ماكس".
أخيراً تمكن سينيت من العثور على الكلمات التي تناسب حدة نبرة الطيارين. قال: "عليكم أن تفهموا أن التزامنا بالسلامة عظيم مثل التزامكم... إنه كذلك حقاً. وأسوأ شيء يمكن أن يحدث هو مأساة كهذه. والأسوأ من ذلك هو وقوع مأساة أخرى. لذلك علينا أن نفعل كل ما في وسعنا للتأكد من أن هذا لن يحدث مرة أخرى". وقال إن "بوينغ" كانت تعمل جاهدة على تحديث نظام تعزيز خصائص المناورة لتطويعه. وقال: "لن يستغرق الأمر سنة، لكن أسبوعين أو قرابة ستة أسابيع".
في اليوم التالي، نشرت السلطات الإندونيسية نتائج تحقيقها الأولي. وأشار تقريرها إلى أن البرنامج الآلي قد أربك الطيارين، وحدد الأخطاء التي ارتكبها طاقم الصيانة. أصدرت بوينغ بيانها الخاص في اليوم نفسه، وسلطت الضوء على أخطاء الصيانة كبداية لسلسلة الأخطاء".
بعد فترة وجيزة، اتصل كيرانا، الشريك المؤسس لشركة "ليون إير" بـمويلينبرغ. ألقى الشتائم مراراً واتهم شركة "بوينغ" بخذلان أحد أفضل عملائها، وفقاً لشخص سمع المحادثة. كما تحدث في العلن أيضاً، قائلاً للصحافيين، إن تحويل اللوم إلى "ليون إير" كان "تصرفاً عديم الأخلاق"، وإنه يعتزم إلغاء طلبات شركة الطيران الأخرى. رد مويلنبيرغ بهدوء عبر شبكة "سي أن بي سي"، قائلاً، إن عقود "بوينغ" "هي ترتيبات طويلة الأجل" و"إنها ليست أشياء يمكن لأي من الجانبين إلغاؤها وحده".
في بداية ديسمبر (كانون الأول) ذلك العام، خلص الموظفون في خدمة اعتماد الطائرات في إدارة الطيران الفيدرالية إلى أن طائرات "ماكس" قد تتعرض لـ15 حادثاً إضافياً ما لم يخضع البرنامج للإصلاح، بناءً على تقدير تقريبي بأن طياراً من بين كل مئة طيار قد يواجه مشكلة في التعامل مع فشل نادر الحدوث في المستشعر.
ورغم ذلك، استمرت "ماكس" في الطيران. امتدت فترة "حوالى ستة أسابيع" التي يحتاجها إصلاح النظام إلى أشهر- حتى صباح يوم ربيعي في إثيوبيا، عندما ظهر الشبح في أجهزة تحكم طائرة أخرى من طراز "ماكس"، كانت تلك الطائرة تحمل 157 راكباً.