بعد مرور أكثر من عام ونصف العام على وقوع كارثة مرفأ بيروت، لا تزال بقايا أهراءات القمح التي تعرضت لدمار جزئي شاهدة على واحدة من أقوى الانفجارات في التاريخ، في ظل جدل حول خطرها على السلامة العامة، والتحذيرات من إمكانية انهيارها، في وقت لا يزال التحقيق القضائي معلقاً بفعل المماحكات السياسية.
ومنذ أكثر من عام بدأت شركات أجنبية ومحلية تتنافس لحجز دور لها في مشاريع إعادة الإعمار ومنها شركات لبنانية، وألمانية، وروسية وصينية وتركية وفرنسية، ولكن يبدو أن هذه المشاريع لا تعدو كونها "إعلان نوايا" حيث لم تتلق وزارة الأشغال والنقل بصفتها سلطة الإشراف على المرفأ، أي طلب رسمي أو حتى تصور لمشروع جدي لإعادة الإعمار.
الهدم والتحقيق
وعلى الرغم من عدم وجود أي مشروع جدي حتى الساعة لإعادة إعمار مرفأ بيروت، أعلنت السلطات اللبنانية عن تشكيل لجنة وزارية لدراسة حالة صوامع القمح المعرضة للسقوط، وكشف وزير الاقتصاد أمين سلام في تصريحات لوسائل إعلام، عن نية الحكومة إجراء مناقصة لاختيار شركة تتولى هدم الصوامع "لأنها باتت خطيرة جداً وآيلة للسقوط، ويمكن أن تنهار إذا هبت عاصفة قوية".
وأضاف "ستُختار شركة تنفذ عمليات الهدم قبل إطلاق مناقصة إعادة الإعمار، وما يُجمع من عمليات الردم يمكن أن يُباع بملايين الدولارات، من حديد إلى مكونات أخرى، مما يسمح بتغطية كلفة الهدم"، رافضاً ربط هدم الصوامع بقضية التحقيق القضائي في الانفجار، وقال، "هذا عمل مستقل يجب أن ننجزه، ولا يجب أن نعتبر إنجازه قفزاً فوق دماء الشهداء كما يتم تصوير الأمر".
محو الذاكرة
في المقابل أثارت تصريحات وزير الاقتصاد حفيظة كثيرين، لا سيما أهالي ضحايا مرفأ بيروت الذين رفضوا ما سرب عن خطة لهدم الأهراءات، ونظموا تحركاً شعبياً تحت عنوان "لا لإعادة إعمار المرفأ قبل جلاء الحقيقة"، معتبرين أنه "بتلك الخطوة، تحاول الدولة إخفاء آثار الجريمة، ودفع الناس على نسيان جريمة العصر ومحوها من الذاكرة".
ولفت وليم نون شقيق أحد ضحايا الانفجار، إلى أن "كل ما نطالب به هو إبقاء هذه الأهراءات المتضررة من دون ترميم، أقله حتى صدور القرار الظني، لأن ذاكرة الناس ضعيفة، فكيف إن أزلنا كل مشاهد الدمار التي تذكرنا بالجريمة التي حصلت".
وأضاف، أن التحجج بميلان الأهراءات وخطر انهيارها ليس صحيحاً، وهي ذريعة تستخدمها السلطة، لإزالة وصمة العار هذه عن جبينها، مشيراً إلى أنه في وقت كانت وما زالت السلطة تُعرقل أعمال القضاء، لم نعارض عودة الأعمال في المرفأ وترميم المعابر المحيطة به، "من هنا فعرقلتنا لإعادة إعمار هذه الأهراءات لتبقى ذكرى لـ4 أغسطس (آب) ودعوتنا لتبني السلطة أهراءات جديدة في مكان آخر من المرفأ هي أقل واجب".
إخفاء الأدلة
بدورها، شددت أنطونيلا حتي شقيقة الضحية نجيب حتي، على أنه "ممنوع دق مسمار واحد في المرفأ قبل معرفة حقيقة ما حصل، إذ مر عام ونصف العام ونحن نطالب بذلك، لأن إخفاء الأدلة جريمة أخرى".
ولفتت إلى أن الفجوة في الأهراءات التي نتجت عن الانفجار ستبقى تذكر الناس بهذه المجزرة، وربما أشلاء ودماء إخوتنا الذين تم دفنهم مرتين، ما زالت موجودة تحت هذه الأهراءات، ومنهم عناصر فوج الإطفاء التي احترقت أجسادهم في هذه البقعة من المرفأ".
وأوضحت أن المحقق العدلي في الانفجار القاضي طارق البيطار، سبق أن أصدر مذكرة بمنع الاقتراب من مسرح الجريمة قبل صدور القرار الظني، "ولكنهم حتماً سيجدون مخرجاً لهذه المذكرة، كما فعلوا في مذكرات التوقيف، والمؤسف أنهم بدأوا يبحثون عن مناقصات وسرقات للاستفادة على ظهر إخوتنا"، مضيفة أن المجرم ارتكب الجريمة، وها هو يخبئ الأدلة بإعادة إعمار الخراب، "لكننا سنقف حيثُ وقف إخواننا ونذكر الناس بأنهم من هنا انطلقوا للدفاع عن الجميع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مَيَلان يومي
في المقلب الآخر، يشرح مدير عام الحبوب والشمندر السكري في وزارة الاقتصاد اللبنانية، جريس برباري، أن "كون الأهراءات مهدمة، لا تدخل مداخيل إلى الدولة، فأساسات الأهراءات تضعضعت وتحركت من مكانها وفق الخبراء، وأصبحت في مرحلة غير قابلة لتعبئة القمح فيها وتخزينها".
ويشير إلى أنه "بسبب الأمطار، تتعرض هذه الأهراءات التي تملكها الدولة، وبالتالي مداخيلها للدولة، إلى مَيَلان يومي، وقد تسلمت إدارتها واستثمارها شركة معينة، ولا يزال موظفو هذه الشركة يتقاضون رواتبهم لكن من دون مدخول".
ويضيف أنه منذ الانفجار لا يوجد عدة لتصليح آلات تفريغ القمح وسواها، فهي معطلة، ولا أماكن لتخزين القمح ونحن مضطرون لحل هذه المشكلة لإدخال مداخيل إلى الدولة، وحتى الآن، المستوردون يفرغون الحبوب في المطاحن، ما يعني أن مداخيلنا أيضاً توقفت، بينما كنا نترك مخزون القمح لثلاثة أشهر مقبلة في الأهراءات، وندفع مقابل بدل التخزين.
انهيار تدريجي
وفي تقرير رسمي غير منشور حصلت عليه "اندبندنت عربية"، يشير إلى أنه بعد الانفجار ومنذ سبتمبر (أيلول) 2020، أجريت عمليات مسح بالليزر ثلاثية الأبعاد على الصوامع المهدمة والمتبقية، وذلك بشكل مستمر (7 مرات حتى الآن)، كما وتم تركيب حساسات مقياس درجة الميلان على الصوامع من الكتلتين الشمالية والجنوبية للإشراف والكشف على أي تغيرات قد تطرأ على ميول هيكلية هذه الصوامع.
وتم استخلاص، بحسب التقرير، أن الكتلة الشمالية للصوامع غير مستقرة، وتعتبر بنية غير ثابتة، وقد يوصى بالمضي قدماً في تفكيك هذه الكتلة باستخدام وسائل ميكانيكية هيدروليكية يفوق وصول ارتفاعها الـ45 متراً ومقاول متمرس لديه الخبرة الكافية للعمل على مسافة تزيد على الـ45 متراً علواً بما أن الارتفاع الحالي يقارب 43 متراً.
وأشار التقرير إلى أن "الكتلة الجنوبية مستقرة هندسياً حتى الآن، وهذا ما تؤكده متابعتنا للحساسات وبشكل دائم، ويمكن أن يحتفظ بجزء من هذه الكتلة كذكرى، ولكن يحتاج هذا القرار إلى مزيد من الدراسات الهندسية ودراسة التكلفة المرتبطة بذلك. (ويجب التذكير أن الثبات الهندسي لا يعني أن الكتلة آمنة للمس بها– إذ لا يجوز إجراء أي تدخل مادي على صوامع الكتلة الجنوبية داخلياً أو خارجياً لسحب أي حبوب أو نفايات من داخل الصوامع مما قد يؤدي على الأثر إلى حوادث أو انهيار كبير".
وأضاف التقرير أن الكتلة الشمالية تميل نحو فوهة الانفجار، وأن اتجاه الميول الحالي (2 مم في اليوم على بعض صوامع الكتلة الشمالية) هو تأكيد أن عدداً غير محدد من الدعائم الخرسانية تحت الأرض قد تخلخلت بسبب القص الجانبي المكثف الناتج عن عصف الانفجار.
ويكشف التقرير أنه تم بناء صوامع بيروت على ما يقرب من 2200 دعامة، وسيتعين بناء صوامع جديدة في موقع مختلف بعيداً عن مكان الصوامع الحالية (يمكن أن يكون على بعد 50 إلى 100 متر).
مخطط توجيهي
وفي سياق آخر كشف وزير النقل والأشغال علي حمية أنه "أجريت دراسة تقيمية لواقع حال مرفأ بيروت من الناحية التشغيلية والأضرار البنيوية التي أصابته، ورسمت استراتيجية تتضمن تفعيل عمله واستعادة مركزه الجغرافي وإعادة استثماره لزيادة إيراداته، مع الأخذ في الاعتبار العوامل التي أصابته بالصميم وهي عدا الانفجار، انهيار العملة الوطنية منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وتفشي وباء كورونا".
وأكد أنه "من هنا لم يكن بالإمكان إعادة إعمار المرفأ من دون الاستناد إلى مخطط توجيهي كامل، جاذب للاستثمارات العالمية. فهناك مشاريع وخدمات إضافية عدة ستدرج في المرافئ اللبنانية غير موجودة في أي مرفأ في سائر الدول وتم النقاش فيها مع شركات عالمية وهي مستعدة للاستثمار في المرافئ اللبنانية".
ولفت إلى أنه يمكن إعادة إعمار المرفأ من إيراداته كي لا يكون رهينة لأي قرار إقليمي وأي دولة، بواسطة المقاولين اللبنانيين الذين لديهم شهرة في كل دول العالم. وشدد على أنه عند إنجاز المخطط التوجيهي، سيكون هناك تصور حول كيفية إعمار المرفأ وسيتم فتح المجال أمام الجميع من الشرق إلى الغرب فلبنان، لتقديم العروض.
وأضاف "لا بيع لأصول الدولة وستبقى كل أصول المرافئ ومنها مرفأ بيروت وبنيتها التحتية للدولة، إنما التشغيل سيكون من خلال الشراكة مع القطاع الخاص حتى ولو وصلت النسبة إلى 90 في المئة".