خرج رئيس الوزراء الهولندي مارك روته أخيراً، باعتذار رسمي لإندونيسيا وشعبها مما أقدم عليه الاستعمار الهولندي في الأرخبيل الإندونيسي خلال القرن الماضي.
ويعد اعتذار الرئيس الأخير ضمن سلسلة اعتذارات قدمها مسؤولون عدة لدول جنوب شرقي آسيا، كما دأبت عدد من الدول الاستعمارية خلال العقود الماضية على تقديم اعتذارات عن الممارسات العنيفة التي تعرضت لها الدول المستعمرة، فيما تمثل الممارسات الاستعمارية الغابرة صفحة لم تطو علاقاتها مع تلك الدول.
ويلعب اعتذار الدول المستعمرة دوراً سياسياً فعالاً في تطوير الثقة والاحترام المتبادل بين الدول بعد الحروب التاريخية، ويرى بعضهم أن وراء تلك الاعتذارات الحكومية مصالح جيو-سياسية وصفقات سياسية من دون إرساء حقائق سياسية.
أخطاء الجيل الماضي
يعرف الاستعمار بسيطرة قوة واحدة على منطقة أو أشخاص مستقلين، وهو نوع من القيادة الجيوسياسية من دول ذات سيادة على الدول المسيطر عليها باستخدام القوة، وهو مصطلح أطلق على السياسة التوسعية التي اتبعتها الدول الأوروبية إبان الحرب العالمية.
وبحسب المصادر التاريخية، ففي العام 1914 كانت معظم دول العالم الحديث مستعمرة من قبل الأوروبيين، وتسبب الاستعمار في سقوط كثير من الضحايا، فيما حاربت القوى الاستعمارية الدول المستعمرة أثناء مطالبتها بالاستقلال.
ونتيجة للعنف الذي أقدم عليه المستعمرون، طالبت الدول المتضررة من الدول الاستعمارية بتقديم الاعتذار من تلك الأفعال، ويمثل اعتذار الدول الاستعمارية جدلاً متوارثاً نتج منه فريقان برأيين متباينين حول ماهية وأهمية اعتذار هذه الدول عن أفعال أسلافهم العنيفة أثناء فترات الاستعمار، إذ يرى بعضهم أن الجيل الحالي غير مسؤول عن أخطاء الأجيال السابقة التي ارتكبت الجرائم وأوقعت العنف على الشعوب المستعمرة.
فيما يرى الرأي الآخر أن مواطني الدول الاستعمارية لا زالوا حتى اليوم يتمتعون بمزايا عدة ناتجة من الاستعمار، وبالتالي تقع عليهم مسؤولية الاعتذار من أخطاء الماضي.
كما يترتب على اعتذار الدول الاستعمارية بداية لنقاش جدي وتقديم الدول الاستعمارية تعويضات مادية للدول المتضررة، فاعتذار الرئيس الأميركي رونالد ريغان عام 1988 للأميركيين اليابانيين الذين تضرروا جراء الحرب العالمية الثانية أعقبه تعويض أهالي الضحايا بحوالى 20 ألف دولار لكل منهم، إضافة إلى التعويضات التي دفعتها ألمانيا لإسرائيل بعد اعترافها واعتذارها عن الـ "هولوكوست".
كما يلعب اعتذار الدول دوراً سياسياً فعالاً في تطوير الثقة والاحترام المتبادلين بين الدول بخاصة بعد الحروب، كما يخدم الاعتذار العديد من الوظائف في المجال الدولي، وفي الغالب تكون لكل دولة دوافعها الخاصة لإصدار الاعتذارات، فيما يذكر أساتذة السياسة أن الاعتذارات ليست أدوات دبلوماسية مثالية، ويمكن أن تفشل في كثير من الأحيان في تحقيق المصالحة بين الدول.
بين الاعتذار والرفض
خلال العقود الماضية أقدمت دول غربية وآسيوية على تقديم اعتذارات رسمية من الأفعال العنيفة في بلدان المستعمرين، ففي العام 2008 وأثناء زيارة رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلسكوني إلى ليبيا، اعتذر الأخير رسمياً للشعب الليبي عما سماه "الجراح التي لم تلتئم" وتسبب فيها الاستعمار الإيطالي، وتعهد بتقديم تسوية تصل إلى خمسة مليارات دولار في شكل استثمارات.
وفي العام 2013 أصدرت الحكومة البريطانية للمرة الأولى في تاريخها اعتذاراً رسمياً من جرائم الاستعمار في كينيا، وقدمت تعويضات مالية وصلت إلى 27 مليون دولار لضحايا الاستعمار في البلاد.
وفي يونيو (حزيران) 2020 أصدر ملك بلجيكا اعتذاراً عاماً لجمهورية الكونغو الديمقراطية مما ارتكبته القوات البلجيكية المستعمرة من عنف خلال الفترة الاستعمارية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما شهد العام الماضي أيضاً اعتذار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من دور بلاده في مذبحة رواندا عام 1994، وأقر ماكرون مسبقاً أثناء ترشحه للرئاسة عام 2017 بأن الاستعمار "جريمة ضد الإنسانية".
ولكن في العام الماضي، أعلنت الرئاسة الفرنسية استبعادها تقديم أي اعتذار من الممارسات الاستعمارية لفرنسا في الجزائر، وأعرب وزير الخارجية الألماني هيكو ماس العام الماضي عن اعتذار بلاده من مذبحة أقدمت عليها قوات ألمانيا الاستعمارية فيما يعرف الآن بناميبيا بين الفترة 1904-1907.
ويرى بعض المراقبين أن رسائل الاعتذارات قد ترمى لأهداف ومصالح سياسية أو اقتصادية أكثر من كونها تعبيراً عن الإقرار بحقائق تاريخية، ويؤكد أستاذ التاريخ الدولي والاستعماري بجامعة الملكة ماري البريطانية كيم وانغر أن الاعتذارات التي تخرج من عدد من الدول الأوروبية تأتي لتحقيق مصالح أو اعتبارات مالية وجيوسياسية، وتهدف إلى إجراء صفقات سياسية من دون إرساء حقائق سياسية.
في المقابل، طلبت اليابان الصفح عما فعلته في فترة الحرب العالمية الثانية، وذلك منذ نهاية الحرب واستسلام الإمبراطورية اليابانية.
فيما طالبت البلدان التي غزتها طوكيو بتعويضات كبيرة عن الخسائر والأضرار التي تعرضت لها، ففي أواخر خمسينيات القرن الماضي طالبت إندونيسيا (1958) بحوالى 250 مليون دولار، فيما طالبت بروناي بـ 131 مليون دولار، كما توصلت طوكيو إلى تسوية مع ماليزيا التي احتلتها اليابان عام 1942 بدفع تعويضات نقدية قدرها 42 مليون دولار نقداً على شكل خدمات لماليزيا.
وعلى الرغم من تكرار اليابان على لسان مسؤوليها الاعتذار تعبيراً عن الندم والمسؤولية، وفي بعض الأحيان الاعتذار مما بدر من الإمبراطورية اليابانية، فإن جارتيها في الشرق الآسيوي، كوريا الجنوبية والصين، لا تزالان تعتبران أن تحمل المسؤولية من الجانب الياباني غير كاف لما تعرضت إليه الدولتان من انتهاكات على أيدي قوات بلاد الساموراي.
ومنذ العام 1995 حين تقلد توميتشي موراياما رئاسة الوزراء، دأبت طوكيو على الاعتذار في اليوم الـ 15 من فبراير (شباط) الموافق لذكرى استسلام اليابان بالحرب العالمية الثانية.
ولكن رئيس الوزراء الياباني الأسبق شينزو آبي أنهى هذه العادة عام 2013 حين لم يرد في خطابه اعتذار من الأعمال العدائية لليابان زمن الحرب، وهو ما تبعه رئيس الوزراء السابق يوشيهيدي سوغا في خطاب العام الماضي أيضاً.
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة فإن وضعها بعد الحرب العالمية الثانية كقوة مهيمنة وطرفاً منتصراً رفع عنها وجنبها مسؤولية المحاسبة عن جرائم الحرب التي أقدمت عليها، ويشير باحثون في العلوم السياسية إلى أن الدول والجماعات التي تأثرت بالعنف الأميركي لا تملك قوة سياسية أو دوافع استراتيجية بارزة لتحمل الولايات المتحدة مسؤولية أفعالها.
هولندا وإندونيسيا
لا يعد اعتذار رئيس الوزراء الهولندي الأول من نوعه الصادر عن امستردام نتيجة الأعمال العنيفة تجاه الإندونيسيين،
إذ أعربت هولندا رسمياً للمرة الأولى عن اعتذارها عام 2013، حين أعلن السفير الهولندي ندمه عما فعله جيش بلاده من مذابح لسحق المقاومة ضد الحكم الاستعماري في جاوا وسولاوسي عقب إعلان إندونيسيا الاستقلال عام 1945، وجاء الاعتذار بعدما أقدمت أرامل الضحايا على مقاضاة الحكومة الهولندية.
وفي مارس (آذار) 2020، أعلن ملك هولندا ويليام ألكسندر اعتذاره لإندونيسيا مما أقدمت عليه بلاده من عنف خلال فترة الحكم الاستعماري.
وجاء الاعتذار بالتزامن مع زيارة رسمية لملك وملكة هولندا إلى الأرخبيل خلال احتفال رسمي في القصر الرئاسي الإندونيسي المزخرف على الطراز الاستعماري الهولندي في مدينة بوغور خارج العاصمة جاكرتا.
وأتى الاعتذار الأخير من قبل رئيس الوزراء الهولندي مارك روت بناء على تحقيق أظهر استخدام هولندا الممنهج لعمليات الإعدام خارج نطاق القضاء، والتعذيب خلال حرب الاستقلال لإندونيسيا بين عامي 1945 - 1949، واستمر التحقيق الممول من الحكومة الهولندية لأكثر من أربع سنوات.
وبحسب السلطات الإندونيسية فإن أكثر من 40 ألف إندونيسي قتلوا خلال الحرب الدائرة بين الإندونيسيين وقوات الجيش الهولندي، فيما يقدر المؤرخون عدد ضحايا الجانب الهولندي بحوالى 1500 شخص.
وأعلنت هولندا في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عزمها تقديم تعويضات لذوي الأطفال الإندونيسيين الذين شنقوا من قبل الجنود الهولنديين أثناء حرب إندونيسيا للاستقلال، وتعهدت أن تصل التعويضات إلى 6000 آلاف دولار لكل فرد.