الإعلام الروسي يواصل وصف ما يجرى من أحداث واشتباكات مسلحة بـ"العملية العسكرية"، بما يعنى ضمناً أنها "محدودة"، شأن ما وصفت به موسكو مثيلتها التي بدأتها في سوريا في 2015، في الوقت الذي يتوقع فيه آخرون من المعلقين ممن يحملون الصفة شبه الرسمية، احتمالات نشوب حرب نووية، أو كما يصفها بـ"الحرب العالمية الثالثة".
وعلى الرغم من تلبّد الغيوم في سماء موسكو وكبريات المدن الروسية، وما جاورها من المدن والمقاطعات الأوكرانية، يقف الإعلام الروسي بكل مكوناته الحكومية، وشبه الحكومية، على نحو يبدو فيه أقرب إلى العاجز عن مواجهة سطوة الإعلام الغربي، بما يقدمه الأخير من "مبالغات" ترقى في بعض منها لمستوى "الأكاذيب" التي فضحها عدد من الصحافيين الغربيين.
الساحة الروسية تزخر اليوم بكمية هائلة من البرامج والمقالات و"دردشات" مواقع التواصل الاجتماعي التي تحاول على استحياء أن تكون محاولة لنقل "الرأي والرأي الآخر"، فضلاً عما تتداوله رموز المعارضة "غير الممنهجة" في الداخل، التي انضم إليها في الفترة الأخيرة "المنشقون المقيمون في الخارج"، ومنهم الملياردير ميخائيل خودوركوفسكي، تصفية لحسابات شخصية قديمة مع الرئيس فلاديمير بوتين.
وفي هذا الصدد نشير إلى ما نشره خودوركوفسكي من "رسائل تلفزيونية" يناشد فيها أصدقاءه القدامى من أبناء طائفته اليهودية، ومنهم رومان إبراموفيتش، وبيتر أفين، وميخائيل فريدمان "الثورة" على بوتين، ويحضّهم على تزعّم حركة الاحتجاج الجماعية ضد السلطات الرسمية، في محاولة لتنفيذ "الحلم المؤجل"، بكل مكوناته التي تتلخص في إطاحة الرئيس فلاديمير بوتين، وإخضاع روسيا للتبعية الغربية التي سبقتها إليها كثير من بلدان "الثورات الملونة" في الفضاء السوفياتي السابق.
دعوة لليهود
وجاء ذلك في توقيت مواكب لدعوة الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، لكل اليهود في شتى بقاع العالم من أجل "رفع الصوت وعدم التزام الصمت"، بعد توجيه القوات الروسية ضربة استهدفت برج التلفزيون في العاصمة الأوكرانية كييف. ومن اللافت في هذا الصدد أن أبراموفيتش، الملياردير اليهودي الروسي مالك نادى "تشيلسي" البريطاني، الذي يعرضه الآن للبيع، انضم إلى الوفد الأوكراني الذي بدأ اليوم (الخميس) الجولة الثانية من المباحثات مع نظيره الروسي برئاسة فلاديمير ميدينسكي وزير الثقافة السابق، اليهودي الأصل أيضاً، والمستشار الحالي للرئيس بوتين.
وعلى الرغم من كل الآمال، التي يعلقها الملايين من أبناء البلدين "الشقيقين السلافيين" على مجرد نجاح جزئي لهذه المباحثات بما يبتعد بالبلدين عن هوة النهاية، فإن هناك ما يشير إلى اتساع مساحات الخلاف بين مواقف الجانبين، بما يُضفي كثيراً من مشاعر خيبة الأمل والتشاؤم تجاه ما يمكن التوصل إليه.
وكان الرئيس زيلينسكي قد أعلن أن الهدف من المباحثات يظل "ضرورة وقف إطلاق النار، وانسحاب القوات الروسية من الأراضي الأوكرانية"، فضلاً عما أعلنه حول ضرورة التزام روسيا بدفع التعويضات المستحقة عن كل ما تكبّدته بلاده من خسائر مادية وبشرية، في الوقت الذي حدد فيه الرئيس بوتين ما يقترب من الحد الأدنى مما سبق وأعلن عنه، ويتمثل في ضرورة إعلان نظيره الأوكراني عن التزام بلاده بوضعية الحياد، والاعتراف بضم القرم، وما أضافه سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، حول نزع سلاح أوكرانيا بكل تبعاته.
وإلى حين التوصل إلى "نتيجة" قد تُرضي كل من الطرفين، تتواصل المعارك التي تتزايد ضراوتها يوماً بعد يوم، وإن يشير كثير من الدلائل إلى كثير من "انتصارات" فصائل الجمهوريتين "المعترف بهما من جانب روسيا"، المدعومة بالقوات الروسية بما تملكه من أسلحة عصرية، تزيد من مأساوية ما يتكبده كل من الطرفين من خسائر بشرية ومادية، كشف عن بعضها إيغور كوناشينكوف، متحدث وزارة الدفاع الروسية، لأول مرة منذ اندلاع "العملية العسكرية الروسية"، على حد تعبير المصادر الرسمية في روسيا. أشار كوناشينكوف إلى "مصرع 498 من العسكريين أثناء تأديتهم واجبهم في العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، إلى جانب إصابة 1597 من العسكريين الروس بجروح أثناء العملية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف أن "الخسائر في صفوف كتائب العناصر القومية المتطرفة وأفراد القوات المسلحة الأوكرانية تتجاوز 2870 قتيلاً ونحو 3700 جريح، إضافة إلى أسر 572 عسكرياً أوكرانياً". ومضى ليقول إن القوات الروسية تواصل توجيه ضربات إلى مواقع البنية التحتية العسكرية في أوكرانيا، موضحاً أن ذلك أسفر عن تدمير 1533 موقعاً بينها 54 مركز قيادة ونقطة اتصالات تابعة للقوات المسلحة الأوكرانية، و39 منظومة مضادة للجو من طرازات "إس-300"، و"بوك إم-1" و"أوسا"، إلى جانب 52 محطة رادار، إضافة إلى تدمير 47 طائرة عسكرية على الأرض وإسقاط 13 طائرة في الجو، إضافة إلى 484 دبابة وآلية مدرعة أخرى، و63 راجمة صواريخ و217 مدفعاً ميدانياً، و336 قطعة من العربات العسكرية الخاصة و47 طائرة مسيّرة".
ومما تحقق على أرض الواقع، تشير المصادر الروسية إلى "تقدم قوات جمهورية لوغانسك الشعبية وإحكام سيطرتها على عدة بلدات جديدة، فيما أتمت مجموعة القوات التابعة لجمهورية دونيتسك الشعبية طوق الحصار حول مدينة ماريوبول على شاطئ بحر آزوف"، وذلك يعني سقوط مساحات شاسعة تكفل ربط كل أراضي "الجمهوريتين" مع المناطق القريبة من شبه جزيرة القرم بكل ما جاورها من مدن ومساحات تمتد حتى مشارف مدينة أوديسا التي يبدو أنها تظل "الهدف المؤجل"، استناداً إلى كل ما يرتبط بذلك من حديث حول أصولها الروسية.
وفي محاولة لتبرير بُطء وتيرة تقدم الفصائل المسلحة "للجمهوريتين" بدعم هائل من جانب القوات الروسية، قالت مصادر وزارة الدفاع الروسية إن ذلك يعود إلى حرص هذه القوات على "التدابير اللازمة لضمان سلامة المدنيين في أوكرانيا، بما في ذلك في مدينة ماريوبول، حيث قام أفراد "كتائب القوميين بنشر المدرعات ووسائل المدفعية، بما في ذلك راجمات الصواريخ، داخل أحياء سكنية".
وفي الوقت الذي تصعد فيه الدوائر الغربية من "هستيريتها" الإعلامية على حد تعبير المصادر الروسية، أعلن سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي عن أن ما وصفها بالمأساة الأوكرانية، تبدو "نتيجة تواطؤ الرعاة الغربيين للنظام الإجرامي الذي تشكل هناك"، في الوقت الذي عزا فيه تعثر عقد مباحثات الوفدين الروسي والأوكراني إلى أن الرئيس الأوكراني لا يملك قراره، وأنه يظل "رهينة إرادة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي التي تحاول الابتعاد عن الحوار الصادق وجهاً لوجه وتختار طريق العقوبات". كما أضاف "أنه من غير المقبول وجود الأسلحة النووية الأميركية على أراضي عدد من الدول الأوروبية، وحان الوقت لإعادتها إلى الولايات المتحدة".
محادثة هاتفية صعبة
وعلى صعيد ذي صلة، كشف رئيس بيلاروس، ألكسندر لوكاشينكو، عن محادثة هاتفية وصفها بـ"الصعبة" مع نظيره الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، أقنعه خلالها بإرسال وفد للتفاوض مع روسيا. وقال: "لقد كانت محادثة صعبة. لقد اعتبرنا معتدين، لكننا اتفقنا في النهاية. وقلت له: الوفد الروسي في انتظارك في غوميل. وكشف لوكاشينكو عما جرى بذله من جهود بالتنسيق مع الرئيس بوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو، من أجل تأمين وصول الوفد الأوكراني إلى الحدود البيلاروسية - الأوكرانية"، وذلك في وقت تحاول فيه تركيا البقاء على مسافة مناسبة من موسكو، ما يفسره كثير من عروضها للوساطة بين الطرفين المتحاربين، إضافة إلى رفضها الانضمام إلى العقوبات التي تتزايد يوماً بعد يوم ضد روسيا، وعدم الاستجابة لطلب أوكرانيا حول الاستجابة لطلب إغلاق مضيقي البسفور والدردنيل، أمام السفن الروسية، وإن كان هناك في روسيا من يقول إن تركيا لا تملك هذا الحق بموجب معاهدة مونترو الخاصة بالمضائق، الموقّعة في عام 1936، ومنها ما ينص بحق عودة السفن والقطع البحرية إلى موانئها الأصلية.
وعلى الرغم من ذلك، أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، انتقاده ومعارضته للعملية العسكرية الروسية، مؤكداً أن بلاده "تكتفي في دعمها لأوكرانيا بتقديم النصيحة والآراء من دون تقديم دعم حقيقي لأوكرانيا".
وفيما يتعلق بمدى احتمالات العثور على السبيل المناسب للتوصل إلى قرار حول وقف إطلاق النار والتوجه صوب إنهاء الحرب، أكد لافروف في تصريحات صحافية، اليوم الخميس، "أن العملية العسكرية ستتواصل حتى نزع سلاح أوكرانيا"، وإن أشار إلى أنه "سيتم إيجاد حل للوضع في أوكرانيا"، معرباً في الوقت نفسه عن استعداد روسيا للتفاوض.
ولم يقتصر لافروف على هذه التصريحات، بل مضى إلى ما هو أبعد، بمعاودة تأكيد "أن موسكو لن تسمح بوجود تهديد بشن هجوم مباشر على روسيا ينطلق من أراضي أوكرانيا". وانتقد الوزير الروسي ما وصفه بالنظام في كييف، الذي قال إنه يستعين بقتلة حقيقيين، وإن القوميين المتطرفين يتصرفون كقُطّاع الطرق في دونباس.
وكان زيلينسكي أعلن اليوم (الخميس) عن الاستعانة بما يقدر بـ16 ألفاً من "المتطوعين" في إطار ما يسميه الفيلق الأممي الذي كشف بشار جعفري، نائب وزير الخارجية السوري، عن الجهود التي تُجرى من أجل حشد مقاتلي "داعش" والتنظيمات الإرهابية في سوريا لإرسالها إلى أوكرانيا، وذلك ما يُعيد إلى الأذهان إرسال أمثال هؤلاء الإرهابيين إلى سيناء في مصر، وليبيا تحت رعاية بلدان غربية بعينها. وأضاف لافروف أن بلاده "لن تسمح بانتهاك مصالحها وبتهديد أمنها"، في وقت تتوارد فيه المعلومات حول "قلق البنتاغون بشأن الوضع حول مختبرات الأسلحة الكيماوية والبيولوجية في أوكرانيا، وإمكانية فقدان السيطرة عليها".
احتمالات اندلاع الحرب العالمية الثالثة
وفي هذا الصدد، أشار لافروف إلى ما سبق وأدلى به الرئيس الأميركي بايدن من تصريحات حول احتمالات اندلاع الحرب العالمية الثالثة، وإن كان ذلك على نحو غير مباشر بقوله: "أطلب منكم النظر بعناية شديدة في البيانات، التي جرى الإدلاء بها، وفي الشخصيات التي أدلت بهذه التصريحات".
وما دام الشيء بالشيء يُذكر، نشير إلى ما نشره الموقع الإلكتروني لقناة "روسيا اليوم" الناطقة بالعربية لمعلقها السياسي ألكسندر نزاروف من مقال اختار له عنواناً: "لا داعي للاستغراب. إنها الحرب العالمية الثالثة قد بدأت لتوّها!". وفيه كتب نزاروف يقول إن الغرب يغمر أوكرانيا بالسلاح لدرجة أنه قريباً ما سيصبح نصيب المواطنين الأوكرانيين منه 3 قاذفات قنابل يدوية و2 سيتنغر لكل مواطن.
ومضى نزاروف، في توقعاته حول احتمالات اندلاع الحرب العالمية الثالثة، ليقول: "تحضرني عبارتان لبوتين، الأولى تقول: إذا كان القتال أمراً لا مفر منه، فعليك أن تضرب أولاً، والثانية: لا حاجة لنا إلى عالم ليس به روسيا".
وأشار المعلق السياسي إلى ما اتخذه بوتين من قرار حول "وضع القوات النووية الاستراتيجية الروسية في حالة التأهب القصوى"، مؤكداً اعتقاده "أنها ليست خدعة. فبوتين يذهب إلى نهاية المسار. وبالمناسبة، فإن الترسانة النووية الروسية أكبر وأحدث من الترسانة الأميركية".
وللمزيد من التفسير قال نزاروف، "بالنظر إلى تسارع الأحداث، أتوقع نشوب حرب نووية، أو على الأقل وضعاً ملتهباً، يقف فيه العالم على شفا حرب نووية، في موعد لا يتجاوز الصيف، وربما قبل ذلك، بالوضع في الاعتبار إيقاع تدهور الاقتصاد الروسي، فكلما تسارع، اقتربنا"، ليخلص إلى أنه "على أي حال، سواء أبقيت روسيا في هذا العالم أم لا، سواء أن انتصرت أو لا، فلن يكون في نهاية الصراع أي ولايات متحدة أميركية أو غرب على هذا الكوكب. أو على الأقل لن تكون هذه الكيانات بنفس الهيئة أو نفس الدور الذي تلعبه الآن".
وخلص نزاروف، في ختام مقاله المثير للجدل إلى القول العربي المأثور، "إن غداً لناظره قريب!".