تتواصل فصول الأزمة الأوكرانية بتعقيداتها وخطورتها، ولقد توقعنا وكثيرون أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لن يتراجع عن حافة الهاوية، ومع انشغال العالم بمآلات الأمور وكيف ستؤثر هذه المسألة وانعكاساتها في الأطراف المعنية، وفي الاقتصاد العالمي، وطبعاً تأثيرها في المنطقة العربية وبلادنا، أعتقد أن هناك سؤالاً ضرورياً ومنطقياً، وهو ما الذي أوصل الأمور إلى ما أصبحت عليه؟
وهنا، نرى ثلاثة أبعاد رئيسة، وهي الخلل المزمن في النظام الدولي الأممي، وسياسات المعايير المزدوجة العالمية والغربية بشكل خاص، واستمرار غلبة القوة على العدالة.
خلل النظام الدولي الأممي
أو لنقل الخلل في منظومة الأمم المتحدة، وهدفها الرئيس حفظ السلم والأمن الدوليين، والخلل المزمن في القانون الدولي بشقيه التقليدي والإنساني، عاشت البشرية أحلاماً منذ أطلق عدد من المفكرين أفكاراً حول إقامة نظام قانوني وفكري دولي أكثر عدلاً قائم على عدد من المفاهيم والقيم السامية، حاول بعدها وودرو ويلسون، رئيس الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى ترجمتها إلى ما عرف بعصبة الأمم، التي انهارت لأسباب محلها دراسات التاريخ والعلاقات الدولية، وبعد معاناة البشرية واندلاع الحرب العالمية الثانية، التي حصدت الملايين من أغلب شعوب العالم، حاول العالم إصلاح الأخطاء السابقة وإنشاء منظمة الأمم المتحدة، التي أفردت الجزء الأكبر من مهمتها لحفظ السلم والأمن الدوليين، لكن المنظمة نجحت في حالات محدودة وأخفقت في الجانب الأكبر من مهمتها. والمعروف أن أهم أسباب الإخفاق حق الفيتو للخمس الكبار والحرب الباردة التي شلت المنظمة، ومنعتها من أداء عملها بصرف النظر عن مدى صحة تحركها من حين إلى آخر.
وفي مرحلة هيمنة الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، كان نجاح المنظمة رهناً بإرادة واشنطن وتوجهاتها، كما وصفها بدقة المفكر والدبلوماسي المحترف الراحل بطرس غالي، في كتابه "بيت من زجاج" عن تجربته كأمين للمنظمة الدولية، ففي هذه المرحلة كانت الأمم المتحدة تسير بإرادة واشنطن.
وبعد التراجع التدريجي لهيمنة واشنطن عاد الركود التدريجي للمنظمة وعجزها عن القيام بمهمتها بشكل جاد، لم تستطع الأمم المتحدة منع غزو العراق رغم معارضة أغلب دول العالم، ولم تستطع تحقيق أي نجاح حقيقي في تسوية أغلب الأزمات الدولية في العقدين الأخيرين، بل كان تدخلها في أزمة مثل ليبيا مصدراً إضافياً للتعقيد، كون هذا التدخل مدفوعاً بسيطرة غربية مشوهة بتنافسات دولية أضفت على هذا التدخل سمات سلبية عديدة.
ومن دون شك كان للأمم المتحدة دور مهم في قضايا الإغاثة الإنسانية والتنمية في كثير من دول العالم، لكنه دور مع أهميته لا يلغي الدور الرئيس الذي أنشئت من أجله، كما أنه من الأمانة ملاحظة أن المنظمة تخضع لسيطرة غربية واضحة في كثير من مجالات عملها، ليس فقط لأن ثلاث دول غربية من الخمس الكبار، أي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا، إنما أيضاً بسبب التمويل، ولهذا قصة كبيرة، على أن هذه السيطرة لا تعفي كلاً من روسيا والصين من مسؤوليتهما المشتركة مع باقي الخمس الكبار عن المشاركة في إحداث هذا الخلل المزمن في المنظمة.
المعايير المزدوجة
تدمن البشرية تاريخياً المعايير المزدوجة، ويستحل البشر لأنفسهم ما لا يقبلونه لغيرهم، وفي عالم الدول تزداد حدة هذه المسألة بشكل خطير، ولا حدود للكذب والنفاق، بل نادراً ما تتفق الدول على ما هو عدل، وما هو غير ذلك، وللدول الغربية هنا باع طويل لا أظن أن سجل أحد ينافسها في هذا الصدد، وعلى سبيل المثال ومع تحفظي على كثير من السياسات الروسية، أخيراً، فقد أثرت وكثيرون أزمة الصواريخ الكوبية، وأن دروس هذه الأزمة كان يجب تذكرها قبل هذا التصعيد، وكان من الممكن احتواء وإفشال التحرك الروسي ومساعدتها على الخروج من ورطة حافة الهاوية، عموماً لن أعيد هنا ما ذكرته وكثيرون حول تفاصيل هذه الأزمة.
لكن ما يعنينا هو المشهد الكلي الذي يزج فيه بمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ولكي أكون واضحاً لست من المعجبين بالنظام السياسي الروسي على الإطلاق، لكن أشير إلى ما اعتاد كثيرون قوله للأصدقاء الغربيين من دبلوماسيين وباحثين، إنه طالما استمر الظلم الأميركي والإسرائيلي للشعب الفلسطيني بصمت غربي، ورغم كل مساعداتهم الإنسانية لهذا الشعب، فإن هناك مشكلة مصداقية عميقة، وطالما نلاحظ اختلاف مواقفهم من الدول بحسب مصالحهم المتغيرة من وقت إلى آخر، رغم أن ممارسات نظم هذه الدول هي نفسها.
القوة فوق العدل
الفوضى والحرب كأداة لتغيير النظام الدولي، وهي النتيجة الطبيعية للبعدين السابقين، بحيث تصبح الغلبة في هذا العالم للقوة، والقوة هنا نسبية وشاملة، فليس معنى أن روسيا أقوى عسكرياً أنها ستفوز في النهاية، فربما يهزمها الاقتصاد مرة أخرى، علماً أنني لا أريد مناقشة هذا الآن، فالأمر بالغ التعقيد، فقط أذكّر بما أطرحه منذ عدة سنوات بأننا نعيش في عالم قيد التشكل، ولم تتضح أبعاده بعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والشاهد أنه وبصرف النظر عن ناتج هذه الحرب تواصل البشرية خطيئتها التاريخية بأن تكون الحروب والدمار أداتها لصياغة النظام الدولي، ويستشهد كثير من المفكرين والباحثين في مجال الاستراتيجية أن صناعة التحولات الدولية تجري دوماً بالحروب، كان هذا هو حال العالم القديم، ثم في العصور الوسطى، ثم كانت الحربان العالميتان الأولى والثانية، وبعد هذه الثانية توهم العالم أنه نجح، أخيراً، في صياغة ترتيبات رشيدة، وهو ما لم يحدث كما أشرنا من قبل، وفي البداية غرق العالم في حروب الوكالة والحرب الباردة حتى سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار حلف وارسو.
لكن، ما حدث بعد ذلك وبدأ بغزو العراق للكويت عبر عن بعدين رئيسيين، الأول أن دولة ما- أي العراق- تتصور أن الظروف الدولية تسمح لها بابتلاع دولة أخرى ونعود لما قبل الحرب العالمية الثانية، والثاني أن الدولة العظمى أي الولايات المتحدة تستغل هذا الأمر لقيادة حرب مفهومة وعادلة، لكنها توظفها بطريقة ترسخ بها هيمنتها على النظام الدولي.
ثم كانت محطات وحروب عديدة في العقد الأخير من القرن الماضي، ثم حرب غزو أفغانستان التي كان لها دوافعها المفهومة، لكن واشنطن في سبيلها لتأكيد هيمنتها قامت بعد ذلك بأعوام قليلة بجريمة غزو العراق، المبنية على أكاذيب كبرى، التي فتحت الباب لانهيار هذه الدولة وتغلغل إيران، وفي جميع الأحوال استمر العالم في الاعتماد على الحروب، لبناء مصالحه الخارجية، بل جرى استغلال اختلال عدد من النظم السياسية في العالم، بخاصة في المنطقة العربية، كذريعة لتدخلات عسكرية واستخدام هذه الصراعات، بخاصة في سوريا واليمن وليبيا، لتعظيم مصالح أطراف دولية وإقليمية.
ليست هذه محاولة لطرح رؤية مثالية، لكن لتوضيح أنه نتيجة للاختلالات الهيكلية المتواصلة في بنية المجتمع الدولي، ما زالت دول العالم تجد الحروب هي الوسيلة الرئيسة لحماية المصالح والمكانة السياسية، والواضح أن العالم سيواصل تفاعلاته في ظل هذا الخلل المزمن، ومن ثم لا محل لأوهام فيما هو قادم، فمظاهر الخلل المزمنة لا يتم علاجها والتشوه سيستمر، وستستمر معاناة الشعوب من هذه الحماقة المزمنة.