ليس في قراءة الأحداث الدراماتيكية مكان لسؤال على طريقة: "لو". لكن الدكتور هنري كيسينجر طرح السؤال في محاضرة ألقاها في جامعة هارفرد التي كان من أساتذتها: "لو علم قادة 1914 كيف سيكون العالم عام 1919، هل كانوا ذهبوا إلى الحرب العالمية الأولى؟"، وكان جوابه هو: "كلا، ولكن". كلا لأن الحرب أنهت ثلاث إمبراطوريات شاركت فيها: النمسوية- المجرية، الألمانية والسلطة العثمانية. ولكن، لأن "عليك في المنصب العالي أن تعمل كأنك واثق مما تفعله، لأنك لا تأخذ جوائز على الشكوك". السؤال يمكن طرحه حالياً من باب الافتراض حول حرب أوكرانيا وتطوراتها. لو علم الرئيس فلاديمير بوتين أن غزو أوكرانيا سيصطدم بقوة الوطنية الأوكرانية التي أراد نزعها مع السلاح، ويقود إلى موقف واحد في الغرب الأميركي والأوروبي من عزل روسيا ومعاقبتها بقسوة، وينقل النظام العالمي المشكو منه في روسيا إلى عالم عنيف وخطر بلا نظام ولا "هندسة جديدة للأمن الأوروبي"، هل كان أعطى الأمر بالغزو؟ ولو أدرك الممثل الكوميدي فلوديمير زيلينسكي الذي لعب في مسلسل تلفزيوني عنوانه "خادم الشعب" دور فاسيلي مدرس التاريخ في مدرسة ثانوية، سخر من الفساد والأوليغارشية في بلاده فصار رئيساً في المسلسل ثم في الواقع، أنه سيواجه أكبر امتحان في حياته وحياة أوكرانيا عبر حرب مدمرة، هل كان ترشح للرئاسة؟
"خطر وجودي"
الجواب، كما هو أمامنا، بالنسبة إلى بوتين هو: نعم، ولكن. فالرئيس الروسي أوحى أنه يخوض حرباً لإزالة "خطر وجودي" على بلاده، بصرف النظر عن كون المبررات التي يكررها ضعيفة وغير مقنعة وتضيف إلى سوء الحرب سوءاً. وهو كان مستعداً لدفع الثمن، وإن لم يتصور أنه سيكون في هذا الحجم. كان يعرف أن وعد الغرب لأوكرانيا وجورجيا بعضوية "الناتو" في بيان بوخارست عام 2008 لن يتم الوفاء به، لسبب بسيط هو أنه شخصياً أغلق الطريق أمامهما عبر فصل أبخازيا وأوسيتيا عن جورجيا، وفصل لوغانسك ودونيتسك عن أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم. فالحلف لا يقبل عضوية بلد في صراع داخلي وصراع جيوسياسي خارجي. وقد مر على الوعد 14 عاماً من دون تنفيذ. وهو يؤمن بما قاله ملهمه ألكسندر دوغين، إن "صيغة نورماندي ومينسك" ليست حلاً، فلا حل إلا بتقسيم أوكرانيا إلى دولتين: أوكرانيا في الغرب. "نوفو روسيا في البقية". لا بل كان على طريق تحقيق طموحه في أن تستعيد روسيا دور القوة العظمى والشريك الكامل على قمة العالم، محطة هي ضمان "الدرع لروسيا" انطلاقاً من معادلة الماريشال ميخائيل كوتوزوف، الذي قاد المواجهة ضد نابليون بونابرت عام 1812: "روسيا هي سيف الإمبراطورية، وأوكرانيا هي الدرع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ملأ المقعد بجدارة
والجواب، كما هو أمامنا، بالنسبة إلى زيلينسكي هو: كلا، ولكن. كلا لأنه لم يكن في وارد أن يجد نفسه المسؤول الأول في حرب مصيرية، ولا أن يسير على خطى جده سيميون الذي واجه الغزو النازي في الحرب العالمية الثانية، ونال وسام "النجمة الحمراء". ولكن، لأن الحرب كانت النار التي كشفت معدنه القوي في مقاومة جيش غاز جرار، وتجييش شعبه في المقاومة ومخاطبته الغزاة بالقول: "سترون وجوهنا لا ظهورنا". لا بل إنه رد على عرض الرئيس جو بايدن نقله مع أسرته إلى مكان آمن خارج أوكرانيا بالقول: "أحتاج إلى قذائف وأسلحة، لا إلى توصيلة". هو جاءت به صدفة مثل بطل فيلم "كونك هناك" البستاني الذي أعطي المسؤولية، لكنه ملأ المقعد بجدارة. وما كان غريباً أن تعيد ليزا موريس الأستاذة في جامعة بار إيلان التذكير بأسطورة "داود وغوليات". داود الفقير الذي صرع غوليات الجبار بضربة من مقلاعه. لكن غوليات في حرب أوكرانيا مصر على الفوز، ولو دمر البلد بكامله وخاصمه العالم. وهو مطمئن إلى أنه لن يقدم حساباً لأحد في روسيا. والمشهد أكبر من مبارزة بين ضابط الاستخبارات المخادع والممثل الكوميدي الساخر في تراجيديا إنسانية هائلة وصراع مع القدر.