الحدث العالمي المتمثل في الحرب الروسية الأوكرانية دفع بالإعلام إلى النبش في الدفاتر القديمة، لعله يجد عناصر دالة على ما يحدث الآن بين البلدين الجارين وتحليله سياسياً، لا سيما مع تزايد اهتمام الناس بالقضية المطروحة. ففي مثل هذه الحالات، كل تفصيل يغدو مرغوباً فيه، فماذا عن أفلام وكتب وشهادات ومقاطع فيديو كاملة تكشف عما هو عصي على الفهم؟ ولأن الشيطان، كما يُقال، يكمن في التفاصيل، فهذا النبش طاول أيضاً الوثائقي الذي أخرجه السينمائي الأميركي أوليفر ستون في عنوان "حوارات بوتين" قبل خمس سنوات وحمل الفكر والعقيدة والآراء التي يتمتع بها قيصر الكرملين الذي يسعى العالم الغربي حالياً إلى عزله. الفيلم الذي بثته محطات تلفزيونية وهو متوافر على "يوتيوب" حالياً، مقسوم إلى أربعة أجزاء كل جزء منها ساعة، وينطوي على الكثير من التفاصيل التي تسهم في فهم عقلية بوتين. انطلق ستون من قناعة مفادها "إذا كان بوتين أكبر عدو للولايات المتحدة، فدعونا نسعى لفهمه". وفي تصريح له قال إنه كان في وده تنوير الجمهور الأميركي الذي "يملك نظرة متخلفة للعدو منذ الحرب العالمية الثانية".
مَن واكب مسيرة ستون، الذي نال أربعة "أوسكارات" في حياته، يجد أنه من الطبيعي أن يكون صاحب مثل هذا الفيلم. فهو، إلى جانب أفلامه الروائية التي تعري السياسة الأميركية وتعيد النظر في مسلماتها من خلال نقد لاذع لأميركا وقيمها الاقتصادية والوطنية والدفاعية، سبق أن كرس وثائقياً للزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو في "كوماندانتي". من هذا "الولع" التاريخي برجال السلطة القساة الذين يقفون في المعسكر النقيض لأميركا ويعرقلون سياستها الخارجية، جاء اهتمام ستون ببوتين فأجرى معه حوارات بين عامي 2015 و2017 كانت ستصبح لاحقاً مادة دسمة لنوع سينمائي، يعرف المخرج جيداً كيف يصيغه بحنكته واطلاعه على الشاردة والواردة في مجال الجغرافيا السياسية.
12 مقابلة
أعطى بوتين مخرج "بلاتون" 50 ساعة من وقته لينجز 12 مقابلة، جال خلالها على كل القضايا الإشكالية والأسئلة السجالية التي تشغل أعداءه وخصومه قبل حلفائه. تعرف ستون إلى حصانه، وركب معه في السيارة، وشاهد برفقته "دكتور ستراينجلاف"، فيلم ستانلي كوبريك عن الخطر النووي. نال ستون موافقة غير مسبوقة لدخول الحياة الرئاسية والشخصية لبوتين ولم يتأخر في "اقتحام" تلك الخصوصية في بعض الأحيان، ضمن الحد المسموح له، سواء داخل الكرملين أو في مقره الرسمي في سوتشي. منذ تولي السلطة في روسيا، لم يكشف بوتين عن أوراقه إلى هذا الحد، فهو استجاب لكل الأسئلة التي طرحها عليه محاوره، حتى الحساسة منها مثل موقفه من المثلية الجنسية التي لا تعد روسيا واحدة من أكثر الدول دعماً لها. نعلم من بين ما نعلمه أنه أصبح جداً لطفل، وأنه من غير الوارد لشخص مثله بطل في الجودو أن "يأخذ الدوش جنب رجل مثلي" على حد قوله، وأن استخبارات بلاده لا تتدخل في شؤون بلاد أخرى.
يتحدث بوتين عن صعوده إلى السلطة وعلاقته بالأجهزة، وتعامله مع الرؤساء السابقين للولايات المتحدة الذين عرفهم جيداً، مثل كلينتون وبوش وأوباما وترمب، وكذلك عن الذين جلسوا قبله على كرسي الرئاسة، مثل يلتسن وغورباتشوف. الإرث الروسي له أيضاً حصة من الحوارات: ما تركة ستالين في السياسة الروسية اليوم؟ كيف ينظر إلى البيريسترويكا؟ لماذا أعطي إدوارد سنودن، المتعاقد السابق مع "وكالة الأمن القومي"، المطلوب للعدالة بعدما سرب تفاصيل برنامج التجسس عام 2013، اللجوء السياسي في موسكو؟ العديد من الأسئلة التي لا تحمل إجابات جاهزة بل يجب الاستماع إليها بصوت بوتين الصريح والحذر في آن، كي ندرك مدى التباس بعضها وصعوبة الرد عليها، ففي السياسة لا شيء محسوم تماماً. حتى الاتهامات التي وُجهت إليه بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية لدعم ترامب، يرد عليها بوتين ببرودة أعصاب يُحسد عليها، فيزجنا في سبعة عقود من العلاقات الروسية الأميركية المضطربة يقاربها بوتين كشاهد أكثر منه كلاعب.
مع وضد
هذا بالإضافة إلى مواضيع جدالية ثلاثة قسمت العالم أخيراً إلى معسكرين، مع وضد، وهي: سوريا، وحلف الناتو، وأوكرانيا. من خلال ردود بوتين، يرسم ستون بورتريهاً دقيقاً لزعيم روسيا، مع كل ما يحمله في داخله من تناقضات، محاولاً الحفاظ على حيادية غير ممكنة. في المقابل، نرى أن بوتين لا يمانع. يحلو له هذا الظهور في مظهر السياسي المفكر الذي يملك قناعات راسخة وقدرة على التحليل، كاسراً صورة الزعيم السطحي التي تصدرت وسائل الإعلام الغربية. وستون لا يفوت فرصة لتقريبه من المُشاهد، مصوراً إياه كأي إنسان عادي، يمارس الرياضة ويهتم بمظهره.
في موضوع على هذا القدر من الإمعان في السياسة، كان من البديهي ألا يسلم ستون من الانتقادات عند عرض الفيلم. فاتهم بالتضليل والتواطؤ مع بوتين والتعتيم على بعض المواضيع التي كان سيغير طرحها المعادلة. لا شك أن ستون يكن إعجاباً معيناً لبوتين، فهو يميل إلى أي من الشخصيات ذات النفوذ التي تقف في وجه سياسة بلاده، على الرغم من أنه صور ما يريده في أميركا وشن فيها معارك طاحنة ضد سياستها، ما يعني أنه ينعم بالحرية، على عكس أي مخرج روسي لا يمكنه تناول كل ما يرغبه في أفلامه. هذا الإعجاب ببوتين نلتقطه هنا وهناك في تعليقات ستون، مثلاً عندما يقول له "أنت مدير شركة ممتاز. روسيا هي شركتك".
صحيح أن ستون لا يعترض كثيراً على أطروحات بوتين، ولا يحاول حشره في الزاوية، لا بل يبدو أحياناً كتلميذ أمام أستاذ تبهره قدراته. لكن أليست هذه شروط اللعبة التي تسمح بالمزيد من الولوج في عقل الشخصية؟ هذه هي الطريقة الوحيدة، وستون يعرف جيداً أن هذا ضروري لكسب ثقة بوتين، الذي يمسك في النهاية بمقاليد الفيلم. أي أسلوب عدائي في المحاورة، كان أخذ الحوار إلى المنحى التلفزيوني العادي، الرائج في الـ"توك شو"، حيث صحافي مخضرم يحاول أن يحرج الضيف ويستدرجه إلى كلام كبير. ما يفعله ستون هنا هو إخراج الثعبان من جحره، وكي يستطيع إخراجه منه عليه أن يحادثه بلغته ويكون على قدم المساواة معه.
وفي هذا الصدد، يقول ستون "لم أحاول أن أكون الصحافي الفحل الذي يجسده عادةً الصحافيون في الغرب، فإذا لم يلعبوا هذا الدور ولم يكونوا قساة في أسئلتهم، لن يُعتَبروا صحافيين جيدين. قد يأتي هذا الأسلوب بنتيجة جيدة أحياناً، ولكن يختلف الأمر عندما تتحدث إلى زعيم دولة مكرس منذ 16 سنة وصاحب خبرات واسعة. في هذه الحالة، أعتقد أنه عليك أن تبقى مهذباً، إلا إذا قال شيئاً غير صحيح. بل على العكس، عليك ببناء أفضل العلاقات معه. بوتين شخص يملك حساً فكاهياً قوياً. أحياناً، كنت أمازحه".
خيارات غير ديمقراطية
أساليب ستون لتنفيذ هذا الفيلم قد تكون مفهومة، ولكن هذا لا يعني أنها خالية من العيوب. في الأقل لن يستطيع أن يبرر تفهمه خيارات بوتين غير الديمقراطية فيما هو (ستون) من أشد المنددين بالمؤسسات الأميركية. لا يخفي ستون أن أحد أهدافه من خلال هذا الفيلم هو تصحيح صورة بوتين عند الجمهور الأميركي، الصورة التي كرسها الإعلام الذي يعتبره المخرج مضللاً. بيد أنه، في الحقيقة، إذا نظرنا جيداً في الموضوع، لاكتشفنا أن ستون يصفي حساباته مرة أخرى مع أميركا والبروباغندا المعادية لروسيا، مستخدماً بوتين وشخصيته الجدلية. فالأخير ليس سوى حجة لفيلم آخر يحارب فيه ستون الإمبريالية الأميركية، ومن خلاله يتصدى للنيوليبراليين الذين يعتقدون أنهم انتصروا في الحرب الباردة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبقى السؤال الذي تصعب الإجابة عنه: مَن استغل الآخر، بوتين أم ستون؟ هل استطاع زعيم روسيا خداع المخرج الأميركي الذي يعتز باطلاعه على كل شيء يحدث في العالم، من شرقه إلى غربه، ومن اغتيال كينيدي إلى مطاردة سنودن فتمرد كاسترو؟ وبالتالي استفاد من مكانته وشهرته ومصداقيته ليروج لنفسه كزعيم؟ أم أن ستون وظف الروسي ليحكي من خلاله حكاية أميركية أخرى عن تسلط الغرب وهيمنته؟
أياً يكن الجواب، فلا يبدو ستون شديد التفاؤل في ما يخص مستقبل البشرية. يردد بأن كابوساً نووياً ينتظرنا جميعاً ونحن متجهون صوبه لا محالة. أما في ما يتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا، فلم يتوانَ عن إبداء رأيه فيه قائلاً إن روسيا أخطأت. "في ضمير أميركا اعتداءات وحروب عديدة، لكن هذا لا يبرر غلطة روسيا".