تحركت قوات روسية بالقرب من الحدود الأوكرانية فهددت أوروبا بعقوبات اقتصادية، وصلت قوات موسكو إلى بيلاروس لإجراء مناورات عسكرية فوضع حلف شمال الأطلسي "الناتو" قواته في حال تأهب. اعترفت روسيا بانفصال دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا فكثفت دول الاتحاد الأوروبي اجتماعاتها وكذلك مجموعة الدول السبع، ما أسفر عن إعلان حزمة من العقوبات على روسيا عقاباً لها على الاعتراف بـ"الجمهوريتين" المنفصلتين. لكن الحزمة لم يتم الإعلان عن تفاصيلها كاملة ويبدو أن المجتمعين كانوا يتمسكون بأمل أن تميل موسكو إلى التعقل وربما لا تسفر التحركات عن غزو فعلي لأوكرانيا وتصعيد للأزمة. رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين قالت إن "حزمة العقوبات المزمعة سيتم إكمالها سريعاً". لكنها زودت العالم بـ"عرض مقتضب مسبق لما هو قادم" على غرار "Sneak preview" لأفلام السينما. وأضافت "أن التدابير العقابية ستوجه ضد أشخاص وشركات شاركت في هذا العمل المخالف للقانون، ومصارف تمول الجهاز العسكري الروسي، بالإضافة إلى تدابير تحول دون وصول روسيا المالية للاتحاد الأوروبي".
روسيا من جانبها مضت قدماً في مسيرتها صوب أوكرانيا. وبلغ طول الرتل العسكري 60 كيلومتراً حسب ما ذكرت مصادر روسية، بينما عاد الغرب إلى تكثيف اجتماعات بحث التحركات ودراسة الإجراءات. وظل التلويح الغربي بقرب الإعلان عن العقوبات يتصاعد بالوتيرة نفسها التي تسارع بها مضي القوات الروسية نحو أوكرانيا.
أيام كأنها دهور
أيام قليلة بدت كأنها دهور طويلة والغرب يتأرجح بين إعلان أميركي بأن صلوات العالم كله مع شعب أوكرانيا وهو يتعرض لهذا الهجوم غير المبرر، حتى أن الرئيس الأميركي جو بايدن قال إنه وجيل (زوجته) يصليان من أجل شعب أوكرانيا الشجاع، وتهديدات أوروبية بعقوبات ومقاطعات وتلويحات وتحذيرات من الضرر الكبير الذي سيقع على روسيا حال مضت قدماً فيما تنوي فعله، وذلك قبل أن تبدأ العقوبات المضي قدماً هي الأخرى.
إقصاء من "سويفت"
تم إقصاء روسيا من نظام "سويفت" لتحويل الأموال بين الدول. وحرمت بذلك من الحصول على عائدات النفط والغاز. منعت رحلات الطيران الروسية من التحليق فوق الأجواء الأوروبية، وكذلك الهبوط أو الإقلاع من أي من مطارات الدول الأعضاء. حجبت قنوات ومواقع إعلامية. وقائمة العقوبات طويلة، من تجميد أصول مملوكة للبنك المركزي الروسي، والحد (وليس منع) من بيع الجنسية أو الإقامة في دول أوروبية للأثرياء الروس.
وبريطانيا بحكم "بريكست" سنت قوائمها العقابية منفردة فلا سلعاً عالية التقنية أو معدات تكرير النفط سيتم تصديرها إلى روسيا، ولائحة عقوبات تم إصدارها في حق البنك المركزي الروسي، ومنع الشركات والحكومة الروسية من الحصول على أموال من السوق البريطانية، ووقف تراخيص تصدير السلع، ووضع حد أقصى وليس منعاً للمبالغ المالية التي يتم إيداعها من قبل الروس في المصارف البريطانية.
أيام الصلاة
وبعد أيام كثيرة من "الصلاة" والمتابعة من كثب والإعلان عن بالغ القلق وعميق الانزعاج تحركت أميركا أيضاً لتفرض عقوبات على "مجموعة" من البنوك الروسية مع فرض قيود (وليس منعاً) على صادرات توجه إلى روسيا وتستخدم في الصناعات العسكرية، بالإضافة إلى قائمة طويلة من العقوبات الرياضية التي تشكك دول الغرب نفسها في جدواها.
كما ظهر توجه أوروبي وأميركي لفرض عقوبات على شخصيات روسية بارزة عقاباً لها على مساندتها أو دعمها أو قربها من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. المثير أن قوائم الشخصيات المعاقبة تشمل الرئيس الروسي نفسه ووزير خارجيته سيرغي لافروف وحظر سفرهما إلى الولايات المتحدة الأميركية، وهو السفر غير المتوقع في المستقبل القريب.
لكن العقوبة الأكبر كانت إعلان الرئيس الأميركي بايدن قبل أيام حظر استيراد جميع واردات روسيا من النفط والغاز والطاقة، مستهدفاً بذلك "الشريان الرئيس لاقتصاد روسيا"، على حد قوله.
عقوبات غريبة
وبينما العالم يبذل جهوداً معرفية وتحليلية لمعرفة أثر العقوبات، لا سيما حظر استيراد النفط والغاز الروسيين ليس فقط على المعاقب بل على المعاقب أيضاً، وجد نفسه عاجزاً عن فهم جانب آخر من العقوبات وجدها البعض غريبة واعتبرها البعض الآخر عجيبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حرمان القطط الروسية من المشاركة في مسابقات الاتحاد الدولي للقطط ظنه البعض مزحة، لكن اتضح أنه حقيقة. وظن البعض أن القطط المنتمية لسلالات روسية هي المقصودة بالمقاطعة، وهرع آخرون للتأكد إن كانت قططهم الرمادية ذات العيون الزرقاء تنتمي لسلالة "القط الروسي الأزرق" الشهير، خوفاً من أن يكون هناك أليف في البيت موقع عليه عقوبة صارمة كتلك. وجرت عمليات بحث مكثفة على شبكة الإنترنت بحثاً عن سلالات القطط الروسية قبل أن يتم توضيح أنه سيتم منع دخول أي قط ينتمي إلى عارضين أو مربين روس، وذلك لأن "الاتحاد الدولي للقطط مصدوم ومروع مما يجري في أوكرانيا" و"لا يمكن أن يتابع أعضاء الاتحاد هذه الفظائع من دون أن يفعلوا شيئاً".
لا برغر بعد اليوم
ملوك البرغر والمياه الغازية والقهوة الغنية هم أحدث المنضمين لعقوبات الحرمان والمنع. فبعد أيام من التكهنات وربما انتظار على أمل تهدئة الأوضاع، أعلنت شركة "ماكدونالدز" إغلاقاً "مؤقتاً" لمطاعمها الـ850 في روسيا، مع استمرار دفع رواتب نحو 62 ألف موظف روسي. وكذلك فعل عملاق القهوة "ستاربكس" حين أعلن قبل ساعات عن إغلاق نحو 100 مقهى. وانضمت لهما القرينتان اللدودتان "كوكاكولا" و"بيبسيكو"، "لحين انتهاء المأساة الإنسانية التي تسببت فيها روسيا في أوكرانيا".
ومن أوكرانيا إلى نيويورك مروراً بروسيا، وجدت صاحبة مطعم شهير وابنها اللذان قدما من أوكرانيا في عام 1993 وافتتحا مطعماً قررا أن يصنفا الطعام المقدم فيه بـ"الروسي" لأنه الأقرب إلى العملاء من "الأوكراني" على الرغم من تطابق المطبخين نفسيهما في موقف لا يحسدان عليه. وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، "فإن المطاعم الروسية في نيويورك تتجرع حالياً مرارة حرب روسيا في أوكرانيا. لكن هذا المطعم تحديداً هرع إلى تبرئة ساحته من الانتماء لروسيا، ماحياً كل إشارة إلى الأسماء والأكلات الروسية وتحول بين ليلة وضحاها من (أرقى المأكولات الروسية) إلى (أرقى المأكولات من شرق أوروبا)".
مطاعم أخرى في أميركا وأوروبا تعكس قصصها التباس الوضع الحالي وتعقده. مطعم يملكه زوج من أوكرانيا وزوجته الروسية وأبناؤهما الذين يعتبرون أنفسهم روساً وأوكرانيين، وآخر يملكه أوكراني لكن الكتابة الروسية وضعته تحت مجهر المقاطعة الشعبية وهلم جرا.
عصا التأديب
جرى عرف العالم الحديث على اللجوء إلى عصا العقوبات للتأديب والمقاطعة للتهذيب.
الولايات المتحدة الأميركية تستحوذ وحدها على 32 نظاماً للعقوبات تطبقها على دول وجماعات ومجموعات. بينما تفرض كندا عقوبات على 20 دولة وجماعة أغلبها لأسباب تتعلق بالإرهاب. أما الاتحاد الأوروبي فلديه قائمة عقوبات فيها 30 دولة وكياناً. ومنذ عام 1966، طبقت منظمة "الأمم المتحدة" 30 نظاماً للعقوبات أبرزها وأشهرها كان مطبقاً على جنوب أفريقيا بسبب سياسة الفصل العنصري ونظام الرئيس الليبي السابق الراحل معمر القذافي ونظام الرئيس السباق الراحل العراقي صدام حسين وإيران.
وبحسب كاتبة المقال أستاذة تاريخ العلاقات الدولية صوفي مارينو، "فإن فرض العقوبات يعتبر أداة سياسية غير مكلفة نسبياً مقارنة بالنزاع المسلح. وعلى الرغم من ذلك، فإن التاريخ المعاصر يخبرنا باستحالة تطبيق نظام عقوبات على دولة ما مع ضمان ومعرفة مسبقين لحجم وتأثير هذه العقوبات".
نجاح العقوبات
وتذكر مارينو تسعة عوامل تحدد كفاءة العقوبات المفروضة على الدول وهي: الكلفة الاقتصادية وهي أهمها حين يكون اقتصاد الدولة التي وقع عليها العقاب هو المتضرر الأكبر، ما قد يؤدي إلى تراجع القيادة السياسية عن التصرفات التي تسببت في فرض العقوبة. كما يتحكم نوع نظام الدولة السياسي في أثر العقوبات، فغالباً تؤدي إذا ما فرضت على أنظمة ديمقراطية إلى نتيجة سريعة، لأن زعيم الدولة يكون حريصاً على الحفاظ على منصبه وعدم اللجوء للعنف ليضمن النجاح في الانتخابات المقبلة، عكس الأنظمة الديكتاتورية إذ تنتفي هذه العوامل من الأصل.
وترتبط درجة الاستقرار الاقتصادي والسياسي في الدولة المعاقبة بعلاقة طردية بأثر العقوبات، فكلما كانت الأوضاع السياسية والاقتصادية صعبة زاد أثر العقوبات والعكس صحيح، إذ لا يقوى نظام يعاني وهناً سياسياً واقتصادياً على الصمود لفترة طويلة أمام حمل العقوبات الإضافي.
وحتى تكون العقوبات فعالة يجب أن تكون العلاقة الاقتصادية بين الدولة التي تفرض العقوبات والدولة الخاضعة لها وثيقة وحيوية ولا بديل لها، وذلك حتى يكون الضغط شديداً ما يعجل باتخاذ اللازم.
وكلما كان الغرض المراد تحقيقه من فرض العقوبات أو المقاطعة معقولاً وليس مبالغاً فيه، أمكن تحقيقه. فإلحاق بعض الضرر بالاقتصاد أو السلع المتوفرة أكثر منطقية من إسقاط نظام أو تنحية زعيم. وكلما زاد التلاحم الدولي في قرار فرض العقوبة كانت فرص نجاحه أوفر، إذ لا تجد الدولة المعاقبة بديلاً يوفر لها حاجاتها.
لكن أحياناً تؤدي العقوبات إلى نتائج عكسية في حال كانت هناك مجموعات شعبية تعتنق مبدأ الوطنية حفاظاً على كرامة الوطن وصموده في وجه العقوبات، إذ يمد ذلك الدولة المعاقبة بقوة وصبر وصلابة في وجه أعتى العقوبات.
وهناك عامل السمعة الذي تحاول دول معاقبة عدة الحفاظ عليه في وجه العقوبات، إذ تبذل كل ما في وسعها للحفاظ عليها كـ"دولة صامدة صابرة قوية" في وجه العقوبات، وليس هناك أدل على ذلك أكثر من كوبا الصامدة أمام العقوبات الأميركية منذ عام 1990 على الرغم من المصاعب الاقتصادية الكثيرة الداخلية.
ويبدو أن متوسط العمر الافتراضي للعقوبات هو 16 عاماً تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً. فبعدها عادة تبدأ الدولة المعاقبة في الإذعان للمطالب أو ترفع الدولة التي تنفذ العقوبات الضغط عنها.
"الحمد لله أنها ليست كذلك"
وبينما يحبس العالم أنفاسه انتظاراً لما ستسفر عنه العقوبات والمقاطعات سواء كانت بمنع القطط أو الحرمان من البرغر أو وقف استيراد الوقود أو منع المعاملات المالية، يخرج الرئيس الروسي بوتين بين مضيفتين روسيتين جميلتين مبتسمتين في مركز تدريب طيران بالقرب من موسكو، ويقول بثقة وهدوء يحسد عليهما إن ما تفرضه الدول الغربية على بلاده من عقوبات "شبيهة بإعلان الحرب"، لكن "الحمد لله أن الأمور لم تصل إلى هذا الحد".
ووقع بوتين مرسوماً يسمح بسداد المدفوعات الروسية بالروبل لدائنين أجانب من الدول التي فرضت عقوبات على بلاده، إذ يتوجه الدائن إلى بنك روسيا بطلب فتح حساب بالروبل وتحول المدفوعات عليه. ولم تفته الإشارة إلى أن قائمة بـ"الدول غير الودودة" سيتم الإعلان عنها، وهو ما حدث بالفعل. وشملت القائمة أميركا وكندا ودول الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا والجبل الأسود وسويسرا وألبانيا وأندورا وأيسلندا وليختنشتاين وموناكو والنرويج وسان مارينو ومقدونيا الشمالية واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وميكرونيسيا ونيوزيلندا وسنغافورة وتايوان.