يمتد تأثير "العملية العسكرية الخاصة" الروسية في أوكرانيا إلى ما هو أبعد من أمن وسيادة أوكرانيا نفسها، فبينما تتضح الانعكاسات الضخمة على الاقتصاد العالمي، والتأثيرات البحتة على المستوى العسكري، تمثل المعركة في أوكرانيا نقطة انعطاف في ميزان القوى العالمي، إذ ستحدد نتيجة الحرب علاقات القوة على المستوى الاستراتيجي الدولي لعقود عدة مقبلة.
فما هي التأثيرات المحتملة للحرب مستقبلاً؟ وكيف ستشكل الخيارات السياسية في أوروبا وحول العالم؟
يُظهر الغزو الروسي لأوكرانيا، من وجهة النظر الغربية، عدداً من أوجه القصور التي تعانيها القوات المسلحة الروسية، وتكشف عن ضعف قد يؤدي إلى تآكل دور الجيش الروسي باعتباره أحد أعمدة سياسة روسيا الخارجية، بما قد يمثل فرصة لأوكرانيا وحلفائها الغربيين لإحداث تحول في سلوك السياسة الخارجية الروسية وآثارها المناهضة للبيئة الأمنية الأوروبية، بعدما ثبت على مدى عقود عدم فاعلية الجهود المبذولة لتعديل نيات روسيا وحملها على اتباع قواعد المجتمع الدولي من خلال المفاوضات والعقوبات، وفقاً لتقرير نشره "معهد نيولاين" الأميركي.
حدود القدرة العسكرية لروسيا
ولفهم تأثير الحرب في أوكرانيا على علاقات القوى الدولية، من الأهمية بمكان التوقف عند حجم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا مقارنة مع القدرة الكاملة للقوات المسلحة الروسية. فبالنظر إلى القوات البرية الكثيفة التي دفع بها الجيش الروسي في أوكرانيا، والتي تتراوح بين 150 و180 ألف جندي وتعد الأكبر حجماً من جميع التدخلات العسكرية الروسية السابقة في أفغانستان والشيشان وجورجيا، فإن هذه القوات تمثل أقل بقليل من ثلث إجمالي القوات الروسية البرية العاملة من دون احتساب قوات الاحتياط. وهذا في حد ذاته يجعل روسيا تقترب من استخدام الحد الأقصى من قواتها القتالية، إذا ما وضعنا في الاعتبار متطلبات روسيا لتأمين مناطقها الحدودية الأخرى، وضرورة ضمان الأمن الداخلي في حالة تفشي احتجاجات.
وعلى الرغم من رغبتها في تحقيق نصر على الأراضي الأوكرانية، لا تزال موسكو بحاجة إلى حماية حدودها مع فنلندا ودول البلطيق الثلاث، حيث يمكن أن تخشى صراعاً محتملاً مع "الناتو"، فضلاً عن أهمية الحفاظ على التدخل أو الدفاع في منطقة القوقاز التي تحدت فيها جورجيا وتركيا نفوذ روسيا في الماضي. كما أن الأحداث الأخيرة في كازاخستان والانسحاب الأميركي من أفغانستان، ولدا تهديدات أمنية محتملة في آسيا الوسطى، بما يجعل روسيا مضطرة إلى مواجهتها عند الحاجة.
وإضافة إلى ذلك، تحتاج روسيا إلى قدرة عسكرية في الشرق الأقصى لتأمين مطالبتها بجزر الكوريل التي استولت عليها حينما أعلنت الحرب على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية. ويعني ذلك الاحتفاظ بالقدرة على التدخل في شرق آسيا أو دعم كوريا الشمالية في حالة الصراع، وحتى الحفاظ على موقف دفاعي أساسي على طول حدودها مع الصين، على الرغم من علاقاتها الإيجابية مع بكين في الوقت الحالي.
ولكن، ما الذي يعنيه حجم القوات الروسية وتوزعها على السيناريوهات المحتملة لنتائج الحرب في أوكرانيا؟
عواقب خسارة الحرب
مع انتشار قوات الجيش الروسي على هذا النحو، فإن سيناريو استمرار أوكرانيا في مقاومة الجيش الروسي شرق نهر دنيبر، سيؤدي إلى مستقبل مختلف تماماً، بحسب المحلل الجيوسياسي والعسكري سيم تراك. فمن شأن تلك المقاومة على المستوى العسكري، أن تجعل أوكرانيا في وضع يمكنها من تآكل قدرات الجيش الروسي وربما حتى إجباره على الانسحاب، بما يوفر فرصة لاستعادة وحدة أراضي أوكرانيا لتشمل منطقة دونباس وشبه جزيرة القرم.
وعلى مستوى جيوسياسي أعلى، فإن عدم قدرة روسيا على ادعاء النجاح في غزوها العسكري لأوكرانيا، سيوجه ضربة كبيرة للتصورات السابقة حول القوة التقليدية لروسيا، وقد تتجلى هذه الضربة في خسائر مادية كبيرة يمكن أن تعيد القدرات العسكرية الروسية عقوداً عدة إلى الوراء.
السيطرة على الضفة الشرقية لنهر دنيبر
لكن، يبدو أن استغلال الفرصة في ساحة المعركة لإبطال أهداف السياسة الخارجية الروسية وتقويض قدرتها العسكرية، ليس سهلاً من الناحية الواقعية. فقد نجح الهجوم الروسي في اختراق حدود أوكرانيا المشتركة بأكملها، وإن لم يتمكن من التقدم بعمق في أوكرانيا في كثير من الأماكن، نتيجة الجهد الدفاعي الأوكراني القوي ضد الهجوم الروسي حتى الآن. مع ذلك، لا تزال هناك تهديدات كبيرة لقدرة أوكرانيا على الاحتفاظ بقدرة عسكرية دفاعية نشطة على الضفاف الشرقية لنهر دنيبر، بخاصة مع تقدم روسيا بشكل أعمق في أوكرانيا.
وعلى سبيل المثال، تمكنت القوات الروسية المتقدمة في منطقة لوغانسك حول سيفير ودونتسك، وكذلك في منطقة دونيتسك في ماريوبول، من الالتقاء مع القوات الانفصالية على طول خط التماس الذي حدد الأراضي الانفصالية المدعومة من روسيا في شرق أوكرانيا. ما شكل تهديداً كبيراً للموقف الدفاعي لأوكرانيا الذي تمركز في نقاط ثابتة تواجه الجمهوريات الانفصالية. وتحت هذا التهديد، تخلى الجيش الأوكراني عن أجزاء من هذه المواقع الدفاعية واستبدلها بمواقع دفاعية جديدة لوقف تقدم القوات الروسية.
مع ذلك، ستواجه هذه الخطوط الدفاعية الجديدة، القوة المشتركة للقوات الروسية المتقدمة والمقاتلين الانفصاليين بما سيمثل ضغطاً مستمراً على المدافعين الأوكرانيين الذين يحاولون درء خطر الانهيار التدريجي المحتمل للخطوط الدفاعية. وقد يؤدي هذا إلى انسحابات إضافية إلى خطوط دفاعية أخرى إلى الوراء توفرها الجغرافيا الطبيعية لأوكرانيا مثل الأنهار. ويمكن أن تؤدي التطورات التكتيكية السريعة في ساحة المعركة إلى تهديدات أخرى للجهود الدفاعية الأوكرانية. ما يؤكد النتيجة غير المؤكدة للمعركة الحاسمة على الضفاف الشرقية لنهر دنيبر التي ستشكل الحصيلة الجيوسياسية الكاملة لهذا الصراع.
معركة الخطوط الجانبية
لكن، لدى الولايات المتحدة و"الناتو" مصلحة جوهرية في ضمان احتفاظ أوكرانيا بوجود عسكري قوي شرق نهر دنيبر، على الرغم من إدراكهم قدرتهم المحدودة على التأثير في نتيجة هذه المعركة الحاسمة. مع ذلك، يريد الغرب تحقيق توازن بين التأثير على مسار هذه المعركة وتجنب التصعيد الخطير بعدها. لذلك، انصب تركيزهم على تقديم الدعم المادي للجيش الأوكراني، وكذلك دعم التمرد في حالة انتصار روسيا في أوكرانيا.
ولم يأت تردد "الناتو" والولايات المتحدة في المشاركة المباشرة في الصراع داخل أوكرانيا من فراغ. فقد رفض الحلف فرض منطقة حظر طيران فوق أوكرانيا، لأن من شأن أي مشاركة عسكرية مباشرة في أوكرانيا المخاطرة بانتشار الصراع العسكري، بما في ذلك امتداده إلى صراع نووي محتمل، بخاصة بعد قرار روسيا وضع قواتها النووية في حالة تأهب قصوى. الأمر الذي كان إشارة واضحة إلى الغرب بأن روسيا مستعدة لمزيد من التصعيد، إذا ما كانت الولايات المتحدة أو حلفاؤها في "الناتو" سيشاركون بشكل مباشر في أوكرانيا.
على الرغم من ذلك، التزم "الناتو" والولايات المتحدة طرقاً أخرى للتأثير في المعركة على الضفاف الشرقية لنهر دنيبر من دون المخاطرة بالاشتباك التقليدي المباشر أو النووي مع روسيا، إذ تلقت أوكرانيا قدراً كبيراً من الدعم العسكري من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في شكل دروع واقية وأسلحة مضادة للدبابات وأنظمة دفاع جوي محمولة وأنواع مختلفة من الذخيرة ودعم استخباراتي، فضلاً عن الدعم المالي. ولكن، لكي تصمد أوكرانيا عملياً في مواجهة الهجوم الروسي المستمر، قد تكون هناك حاجة إلى مزيد من الدعم المكثف.
الصراع حول المدن
حتى الآن، تمكنت أوكرانيا من الدفاع عن المدن ومراكزها السكانية الحضرية. وأدت هذه العمليات إلى إبطاء التقدم الروسي بشكل كبير. لكن، خارج المدن تستطيع القوات الروسية التجول بحرية أكبر والالتفاف على النقاط الدفاعية الأوكرانية الصعبة المنتشرة داخل المراكز السكانية. غير أن القيود اللوجستية التي تعاني منها روسيا وقدرتها المحدودة على جلب قوتها الجوية الساحقة إلى القتال، صبت في مصلحة الجيش الأوكراني الذي لا يزال يفتقر إلى قدرة أكبر على المواجهة، على الرغم من توافر عديد من أنظمة التسليح التي يمكن أن تساعد في سد هذه الثغرة، مثل الصواريخ الباليستية التكتيكية "توشكا"، وعدد من أنظمة المدفعية الصاروخية ذات المدى الكبير. والأهم من ذلك أسطولها من طائرات "الدرون".
ومع استمرار ضبابية المشهد في ما يتعلق بإمكانية تبادل محتمل للطائرات المقاتلة بين الولايات المتحدة وبولندا وأوكرانيا لتقديم طائرات "ميغ 29" البولندية إلى القوات الجوية الأوكرانية مقابل تسليم أميركا طائرات "أف 16" إلى بولندا، تبدو هناك مشكلات لوجستية، ولا تزال تتطلب من أوكرانيا التعامل مع تحديات قدرات الدفاع الجوي الروسية والضربات الصاروخية ضد قواعدها الجوية. لهذا، تدرس الولايات المتحدة بدائل أخرى أقل تعقيداً لتحسين قدرة أوكرانيا على المواجهة عبر تسليمها أنظمة مدفعية صاروخية سريعة الحركة من نوع "هيمارس" أو بدائل مماثلة من أصول أخرى، بما يسمح لأوكرانيا بتهديد حركة القوات الروسية خارج المراكز السكانية، ومنع روسيا من حشد القوات بشكل فعال لشن هجمات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبمساعدة الدعم الاستخباري وأسطول طائرات الاستطلاع، وطائرات "الدرون"، تتحسن قدرة المواجهة لتصبح لها تأثيرات مع إمكانية تحويل المعركة لصالح القوات المسلحة الأوكرانية، كما يمكن للأنواع الأخرى من المعدات العسكرية أن تزيد بشكل كبير القدرات الدفاعية لأوكرانيا، مثل معدات القتال الليلي التي يمكن أن تستغل القدرات المحدودة للقوات الروسية في هذا المجال، فضلاً عن توفير أنظمة دفاع جوي متقدمة لحرمان روسيا من حرية استخدام قوتها الجوية في سماء أوكرانيا.
وعلى الرغم من التدمير الذي أحدثته الحرب الروسية للاقتصاد الأوكراني، وتعليق طرق التجارة البحرية والنقل الجوي بسبب التهديد المتوقع من قبل القوات البحرية والجوية الروسية، وتدهور قطاع النقل البري بسبب انشغال العاملين في هذا القطاع بالدفاع عن بلدهم، إلا أن من شأن الدعم الإضافي الموجه إلى الحفاظ على لوجستيات التجارة والنشاط الاقتصادي في أوكرانيا، أن يؤدي بشكل غير مباشر إلى تعزيز القدرات في ساحة المعركة. كما أن دعم أو تنظيم عمليات الإجلاء الطبي للأفراد العسكريين والمدنيين من أوكرانيا، أو إنشاء مستشفيات ميدانية، سيتيح لأوكرانيا توجيه طاقاتها نحو ساحة المعركة.
ماذا يعني نجاح روسيا للغرب؟
وبالنظر إلى عدم إمكانية تنفيذ سيناريو تلعب فيه الولايات المتحدة وأعضاء "الناتو" دوراً قتالياً نشطاً لدعم أوكرانيا، أو المخاطرة بالتصعيد النووي، تظل أهداف السياسة الخارجية طويلة المدى، هي السعي نحو تآكل القدرات العسكرية الروسية في أوكرانيا، واستنفاد جميع وسائل الدعم التي لا تصل إلى المشاركة المباشرة في القتال بالكامل. ومن شأن ذلك أن يطرح عديداً من التحديات بسبب الطبيعة الحساسة للوقت والتكاليف المرتبطة به.
غير أن هذه التكاليف تعد محدودة في مواجهة ما قد يجلبه البديل، وهو أن روسيا الناجحة في أوكرانيا ستستمر في توجيه التهديدات السياسية والعسكرية والاقتصادية إلى عمق أوروبا وخارجها. وسيصل الأمر، بمرور الوقت، إلى استهلاك قدر أكبر من الموارد الغربية أكثر مما قد يتطلبه أي مستوى من الدعم لأوكرانيا في هذه اللحظة.
في المفهوم الاستراتيجي الغربي، تصرفت روسيا بتهور في أوكرانيا، وعرضت أجهزتها وقوتها الصلبة الأساسية للفشل. وهذا ما يوفر فرصة للغرب لفرض تغيير في سلوك السياسة الخارجية الروسية. وهي فرصة نادرة قد لا يجود بها الزمان مرة أخرى في المستقبل.