يعود تاريخ شارع أبو نواس في بغداد إلى الحقبة العثمانية. ويقع هذا الشارع المحاذي لدجلة في حي بغدادي شهير اسمه الكرادة الشرقية، من جهة رصافة بغداد، وعلى الضفة الأخرى كرادة مريم من جهة الكرخ. والكرادة مصطلح يكنى به هذان الحيان البغداديان، نظراً إلى الكرادات التي ترفع مياه النهر إلى البساتين المحيطة. وكان الشارع تلاً ترابياً تنساب عبره المياه للسقاية أو خلال الفيضان نحو بساتين بغداد العامرة بالفواكه والخضر.
كيف تغير اسم أبو نواس؟
حمل الشارع مسميات عدة، قبل أن يستقر على أبو نواس. وأبرز أسمائه، وفق المهندس صلاح عبد الرزاق، "شارع الشيخ جواد الشبيبي (1867-1943)، وهو شاعر عراقي معروف عاش خلال الحقبة الملكية وكان من أعيان بغداد ووجوهها البارزة. وحمل الشارع هذا الاسم حتى مطلع الثلاثينيات، حين قلعت السدة الترابية التي وضعت لدرء الفيضان.
وسمي الشارع بـ"أبو نواس" تيمناً بالشاعر العباسي الحسن بن هانئ بن عبد الأول الصباح المذحجي، وهو من أب دمشقي وأم من الأهواز العربية، التي تسمى في العراق الأحواز، وعاش وتربى في البصرة التي كانت حاضرة عربية بناها القائد العربي عتبة بن غزوان زمن الخليفة عمر بن الخطاب سنة 14 للهجرة. وذاع صيت أبو نواس من خلال شعره الغالب عليه الأنس والطرب والتهتك، وحكايات منادمته الخليفة العباسي هارون الرشيد.
"المسكوف" العراقي
الطريف أن أهل بغداد هم من أطلق على الشارع اسم أبو نواس قبل أن يقره مجلس أمانة العاصمة فيما بعد. وقد طغى في شهرته على شوارع بغداد، لسببين أولهما قربه من وسط العاصمة، وثانيهما احتواؤه على أماكن سياحية تؤمن راحة زواره.
وقد عمل النظام الملكي (1921- 1958) على جعل الشارع رئة العاصمة تحاكي عهد العباسيين الزاهر وتبغددهم. فحول الشارع إلى مقصد للناس، يعج بالمقاهي والمنتديات الليلية والمطاعم الممتدة نحو نهر دجلة، بحيث يتمكن روادها من السباحة والاغتسال بماء النهر ومشاهدة خيوط صيد السمك تمتد في النهر، ليعرفوا أنواع السمك اللذيذ الذي سيشوى لهم. وهي عادة تفنن بها صيادو شارع أبو نواس، لإغراء مرتاديه بأكل السمك الطازج بطريقة الشواء المعروفة بـ"المسكوف" التي تتم على وهج النار المنبعث من حطب الرمان أو التين أو الليمون أو النارنج. وتمنح السمك "المسكوف" نكهة مميزة. و"الحوطة" التي يعد بها السمك "المسكوف" ذو النكهة الخاصة طريقة قديمة تعود تاريخياً إلى السومريين أقصى الجنوب، قبل ثلاثة آلاف عام، كما تدل الأختام السومرية في المتحف العراقي.
جذب السياح من العالم
ازدهر الشارع منذ الخمسينيات حتى الثمانينيات من القرن العشرين، وكان معلماً سياحياً في العاصمة، يؤمه العراقيون والعرب والسياح من أرجاء العالم مستأنسين بنسمات دجلة وأكل "المسكوف" وحرية التجوال وارتياد المطاعم والملاهي وأماكن السهر التي تعج بطالبي المتعة وسماع الأصوات والإيقاعات الموسيقية العراقية ومنها المقام. وقد امتاز الشارع بالأمن والاحتفاء بأجمل عواصم الشرق وقتها.
وتسبب نمو الشارع وشهرته في أن يكون حافزاً لبناء الفنادق والمقاهي والمطاعم الفاخرة، وأهمها فندق بغداد الذي بني في منتصف الخمسينيات، وتبعته ثلاثة فنادق كبرى بنيت مطلع الثمانينيات، غيرت الوجهة السياحية للشارع، وهي فلسطين مرديان وعشتار - شيراتون وبابل – أوبروي. ومع هذه المعالم صار الشارع علامة من علامات بغداد.
يقول عبد الرزاق "قبل نمو شارع أبو نواس لم يكن في بغداد أماكن ترفيه للرجال والأسر إلا بعض المسارح والملاهي البسيطة، التي لا يرتادها معظم العراقيين بسبب ارتفاع أسعارها وطبيعة روادها وأجوائها، فكان الميسورون من العراقيين يمضون الصيف في لبنان وسوريا وإيران، وكثيرون كانوا يفضلون مدن الشمال العراقي".
خطط طموحة لتطوير بغداد
نمو الاقتصاد العراقي والعائدات النفطية التي تضخمت بعيد تأميم النفط خلال السبعينيات والفائض المالي الذي وصل في نهاية السبعينيات إلى نحو مئة مليار دولار، أمور دفعت الحكومة العراقية أيام الرئيس أحمد حسن البكر إلى استقدام شركات عالمية لتطوير مدينة بغداد، مثل شركة "بول سيرفس" البولونية، لوضع تصميم جديد للعاصمة، في عام 1980. ثم استقدام فريق ياباني لتطوير المشروع وتحسين شبكة الطرقات وتحديثها. فقد عاشت بغداد على أمل نهضة معمارية حداثية بلمسات المعماريين العراقيين وبشراكة الخبرات الدولية، لتكون واحدة من أهم عواصم الشرق.
لكن، كما تقول العرب "تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"، فتوقف كل شيء بعد نشوب حرب الثمانينيات مع إيران، التي لم تتوقع القيادة العراقية أن تستمر إلى ثماني سنوات عجاف على جبهة طولها 1300 كيلومتر، حرقت موارد البلاد وعطلت مشاريع نهضته، وقتل فيها مئات الآلاف من العراقيين، ودمرت المدن.
ويروي المدير السابق في أمانة بغداد المهندس صلاح خزعل، "كانت سنة 1982 أسوأ السنوات التي مر بها العراق، فالبصرة كانت مهددة بالاجتياح، وبغداد تحولت إلى مدينة التعبئة، مما اضطر الدولة إلى تحويل ميزانية البناء والتطوير إلى المجهود الحربي في حرب استنزاف لم يشهدها العراق من قبل، حتى وضعت الحرب أوزارها في عام 1988".
وكانت الدولة قد وضعت خطة (1900-2000) لتطوير بغداد، التي أرجئت هي الأخرى جراء حرب عام 1991 إثر غزو الكويت. ولنقص الموارد حرم شارع أبو نواس، الرئة السياحية لبغداد، من تنفيذ خطة التطوير. وكان لاقتراب الشارع من القصر الجمهوري دور في عدم تنميته، إذ خشي من استغلاله لاستهداف القصر مثلما جرى في الثمانينيات مع وكالة الأنباء العراقية الواقعة في الشارع. واكتفت أجهزة أمانة بغداد حينها بمواصلة رصف حواف النهر بالحجر بطول 20 كيلومتراً، لكن مشروع تطوير البنية المعمارية لـ"أبو نواس" توقف نتيجة نقص الموارد المالية، في انتظار رفع الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق عام 1991.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انحسار
ويضيف خزعل "على الرغم من وجود خطة في أمانة بغداد لتطوير العاصمة بعد 2003، وهي خطة التطوير (2000-2022) فإن الموارد الكبيرة أنفقت على رواتب الموظفين في أضخم ميزانية تشغيلية، ونفذ مشروع واحد فقط هو ماء الرصافة بمليار ونصف المليار دولار، ولم يصل إلى طاقته التصميمية حتى الآن منذ 2005، وكانت أمانة العاصمة تملك تصوراً لمخططات تطوير شارع أبو نواس بعشرات الفنادق والمنشآت السياحية، وقد استملكت الدولة رسمياً المباني والأراضي، لكننا شهدنا محاولات لنزع ملكيتها وإعادتها إلى أشخاص بدعوى أنها أخذت عنوة من قبل النظام السابق".
ويرى خزعل أنه "لا بد من تنفيذ مشروع أبو نواس من قبل هيئة وطنية واعتباره جزءاً من تراث العراق، وفي إمكان شركات عراقية أن تنفذ تلك المشاريع".
واقع الشارع اليوم غير ما كان، فهو مهمل بلا أبسط الخدمات السياحية، وقد أضحى ملاذاً للعاطلين عن العمل والمتجمهرين من أجل التظاهر، يفتقد الأمن، وكأنه معاقب لأسباب مجهولة.
هل هي لعنة الشاعر العباسي أبو نواس، وحنق البعض على تهتكه، أم أن السلطات لا تنوي إعماره لأنه قبالة القصور الرئاسية ومباني الحكومة؟