الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يمارس في أوكرانيا نظرية "الحرب الوقائية" التي تبنّاها الرئيس الأميركي جورج بوش الابن ونائبه ديك تشيني والمحافظون الجدد، ونفذوها بغزو العراق. كان الخطاب الأميركي في بغداد نسخة من خطاب الجنرال البريطاني مود هناك في الحرب العالمية الأولى: "جئنا محررين لا محتلين". لا بل إن روبرت كاغان دعا إلى إسقاط ستة أنظمة عربية، بدل الاكتفاء بإسقاط النظام العراقي تحت عنوان تحرير البلد من السلطوية ونشر الديمقراطية في المنطقة. الخطاب الروسي في الهجوم على أوكرانيا هو أيضاً: "لسنا محتلين بل محررون لأوروبا كلها من النازية الجديدة". لكن الهدف الأول من الهجوم على أوكرانيا هو المبادرة لعكس اتجاه الأحداث. قبل عامين، كان بوتين يخشى من "أوكرانيا ثانية" في بيلاروس، إذ اندلعت تظاهرات واسعة واضطرابات وثورة شعبية لإسقاط الرئيس ألكسندر لوكاشينكو الذي يحكم بالقمع منذ وصل إلى السلطة قبل ثلاثة عقود من إدارته لمزرعة خنازير. فهو سجن منافسه في الانتخابات الأخيرة، زعيم المعارضة فيكتور باباريكو، ثم زوّر النتائج لإسقاط سفيتلانا تيخانوفسكايا التي ترشحت بدل زوجها، ثم اضطرت إلى الهرب الى إستونيا.
كان لوكاشينكو قد بدأ يغازل الغرب. وكان بوتين مستعداً للتخلي عنه إذا ما عرف أن أصدقاء لروسيا سيكونون "البديل"، كما قال الخبير الروسي ديمتري ترينين. لكنه فضّل دعمه وجعله أسيره. وما يفعله اليوم هو إعادة أوكرانيا إلى ما يشبه وضع بيلاروس وأكثر. ولم تكُن المناورات العسكرية المشتركة الروسية - البيلاروسية على أرض بيلاروس سوى جزء من التحضير للهجوم على أوكرانيا من جهات عدة، بينها بيلاروس أقرب مكان على الخريطة إلى مفاعل "تشيرنوبل" على طريق كييف. ولا كان خارج الحسابات ادعاء لوكاشينكو أن كييف كانت تخطط للهجوم على بيلاروس، بالتالي فإن ما يقوم به بوتين هو "حرب استباقية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك أن بوتين سار على الخط الروسي القديم باعتبار أوكرانيا جزءاً من روسيا، وليست ولم تكُن بلداً، إلا عندما صنعها فلاديمير لينين بعد الثورة (1917). تجاهل أن أوكرانيا هي الوريث السياسي لـ"كييف روس" أو "روسيا الكييفية" التي أسسها الأمير ياروسلاف الحكيم في القرن الحادي عشر كأول دولة للسلاف الشرقيين. تجاهل التاريخ الذي أشار إليه الروائي الأوكراني أندري كوركوف حول "استقلال الأوكرانيين على مدى ثلاثة قرون عن القياصرة الروس وأي نوع من الحكم الإمبراطوري". وتجاهل أن جوزيف ستالين جعل أوكرانيا وبيلاروس ضمن أعضاء الأمم المتحدة عام 1954 إلى جانب الاتحاد السوفياتي، صاحب حق "الفيتو". ولكل منهما حق التصويت كبلد مستقل. فهو يؤمن بأن أوكرانيا "روسيا الصغرى" وهي مع بيلاروس وروسيا ضمن "الروسيا الأم". وما يقوم به في الهجوم هو إعادة جمع "المثلث السلافي".
لكن استخدام القومية والأرثوذكسية بعد سقوط الأيديولوجيا سلاح خطير ذو حدين. فما يركز عليه بوتين هو إلغاء الوطنية الأوكرانية لمصلحة القومية الروسية، وليس "نزع النازية" فحسب. لكن، ما يقود إليه هو العكس: تقوية الوطنية الأوكرانية في مواجهة القومية الروسية، من حيث كانتا شقيقتين. وفي مقال قبل أعوام للراحل المفكر اليساري سمير أمين، فإن "سياسة روسيا حيال أوكرانيا محكومة بالفشل، إن لم يدعمها الشعب الروسي. ولا يمكن كسب الدعم على أسس قومية فحسب. يمكن كسبه إذا كانت السياسة الاقتصادية والاجتماعية تعزز مصالح غالبية الشعب"، ولو ضمن "رأسمالية الدولة ذات البعد الاجتماعي" لا الاشتراكي، لكنها تفتح الطريق إلى الاشتراكية. و"الأوليغارشية" الاقتصادية الحاكمة تصطف مع "الاحتكارات المهيمنة ضمن ثالوث الإمبريالية الجماعية".
ولولا ذلك لما كان تأثير العقوبات الغربية قوياً في روسيا، كما هي الصورة اليوم بعد الهجوم على أوكرانيا. وقبل سنوات طويلة، كتب ديمتري ترينين الذي أصبح مدير "كارنيغي في روسيا"، "بالنسبة إلى روسيا، لا بلد أهم من أوكرانيا". لكنها أهم بكثير بالنسبة إلى الأوكرانيين.