بات من التكرار العودة في كل مرة إلى واقع يتعلق بتاريخ الرسم منذ بدايات أنسنته في عصر النهضة الإيطالية للقول، إن هذا التاريخ يبدو في نهاية الأمر مجحفاً بحق المرأة في المجال الذي يتناوله بالذات. ويتمثل الإجحاف في خلو معظم الكتب التي دونت مجريات ذلك التاريخ، من الحديث عن دور لرسامات نساء فيه. في أحسن الأحوال، لا يتعدى عدد اللواتي يُذكَرن في أكثر الكتب تفصيلاً، نصف الدزينة. وكذلك قد لا نكون في حاجة هنا إلى التذكير بأن الفن التشكيلي نفسه قد انتظر نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين كله حتى يتضاعف عدد الرسامات، بحيث يكاد يعادل اليوم عدد الرسامين بل قد يزيد. ومع ذلك، إذا قُيض للمرء أن يراجع النصوص الأدبية والمذكرات الشخصية وأنواعاً عدة من المدونات والكتب والوثائق، قد يُفاجَأ بمعلومات تفيد بأن النساء لم يتوقفن عن الرسم مع ذلك. لكنه غالباً ما كان رسماً داخل البيوت، لا يعرف عنه أحد في "العالم الخارجي" شيئاً، وغالباً ما تكون رسومات عائلية لا تحقق لمبدعاتها، لا لقمة عيش ولا شهرة ولا خلوداً.
المرأة الاستثناء
وبالتأكيد لم يكن لمعظم المبدعات الحظ الذي كان لتلك التي تُعتبر دائماً الأشهر والأقوى والأطول عمراً بين النساء الرسامات اللواتي عرفهن هذا الفن. بل لنقل هنا على سبيل التحديد، فن البورتريه. ونعرف أن ثمة في هذا الواقع ما يفاجئ حقاً، ففي تلك الأزمنة التي لم يكن فيها لا صور فوتوغرافية ولا أستوديوهات ثابتة يمكن للموديلات أن يصوَّرن فيها على يد الرسام، كان لا بد للرسامة التي نتحدث عنها هنا، أن توجد بنفسها ولفسحة من الزمن طريقة تمكنها من إنجاز بورتريه معين في بيت الشخص الذي ترسم له البورتريه. ويقيناً أن هذا كان يعني أن روزالبا آلبا اقتصرت في فنها على رسم بورترهات لمَن يمكنه أن يدفع ثمنها، أي ثمن الوقت المنفق في إنجاز اللوحة. وهو ما يتيح لنا القول، إن هذا الواقع في حد ذاته جعل فنانتنا التي نتناولها هنا دائمة التنقل، ليس فقط داخل مدينة البندقية حيث ولِدت عام 1763 ونشأت وعاشت وانطلقت منها شهرتها، ولا في المدن المجاورة داخل إيطاليا وحسب، بل في طول أوروبا وعرضها. فكان السفر والتجوال بل حتى الإقامة في مدن مثل باريس وفيينا وبرلين وغيرها من مدن الشمال الأوروبي، سمة أساسية من سمات حياتها، هي التي رسمت طوال العقود التي نشطت فيها مئات البورتريهات. ولكن ليس أي بورتريهات! ولا بورتريهات لأي كان! وهو ما سنعود إليه بعد سطور.
ابنة شاغلة الدانتيلا
قبل ذلك، لا بد من العودة إلى بدايات روزالبا التي ولِدت بين ثلاث بنات لأسرة الزوجين كارييرا المنتميين إلى الشريحة الدنيا من بورجوازية البندقية الوسطى. وبدأت روزالبا حياتها المهنية والفنية في الطفولة بمساعدة أمها، شاغلة الدانتيلا، في رسم "موتيفات" للتطريز. لكن هذه المهنة سرعان ما انهارت ما استدعى من الصبية أن تبحث لنفسها عن مهنة أخرى تعتاش منها. وكان رسم موتيفات التطريز كشف عن مهارة وموهبة لديها في الرسم، تتضافران مع دقة في التأمل، ستكلفها غالياً بعد سنوات طويلة. لكننا هنا لم نكن بعد عند ذلك التطور. ففي سن الصبا تمكنت روزالبا من الالتحاق بمحترف الفنان ذائع الصيت في البندقية، بيروجينو، صديق الرسام بيليغريني الذي سيتزوج أختها لاحقاً. ولقد لفتت روزالبا الأنظار بقدرتها على رسم المنمنمات والتفاصيل الصغيرة، وكان من المنطقي عن ذاك أن تنتقل إلى رسم البورتريهات التي كانت على الموضة في قصور كبار القوم، وكان مندوبو هؤلاء يتجولون بين المدن مصطادين أصحاب المواهب لتكليفهم مهمات من هذا النوع. ولعل من مزايا مواهب روزالبا حينها أنها كانت من ناحية قد بدأت بإدخال شرائح من العاج في فنها، ومن ناحية ثانية راحت تمعن أكثر وأكثر في استخدام ألوان الباستيل التي كانت تضفي على ألوان لوحاتها أبعاداً فائقة الجمال لا تزال ماثلة حتى اليوم في معظم إنجازاتها، لا سيما منها نحو 150 بورتريهاً معروضة بصورة دائمة في مدينة درسدن الألمانية، كانت في الأصل ملكاً لأباطرة النمسا وكبار وزرائها وتجارها. حسبنا في هذا السياق أن نذكر أن من أول البورتريهات التي رسمتها روزالبا، كانت تلك التي تنقل إلينا حتى اليوم، ملامح إمبراطور بافاريا مكسيميليان الثاني، كما ملامح الملك الدنماركي فردريك الرابع.
سنوات في غربة مثمرة
والحقيقة أن شهرة تلك الأعمال الأولى كنت كافية كي تحول روزالبا وهي بالكاد بلغت الثلاثين من عمرها إلى أشهر ممارسي هذا الفن على المستوى الأوروبي. وهكذا بتنا نجدها مرة في فيينا حيث تقيم سنة وأكثر في كل مرة تزورها، ثم نراها في باريس حيث أقامت في إحدى المرات نحو سنتين رسمت خلالهما مئات البورتريهات للملك لويس الخامس عشر والوزراء بل حتى لرسامين من زملائها أغرموا بها بين الحين والآخر، وربما تأثر كثر منهم بفنها وملونتها أيضاً ومنهم على وجه الخصوص أنطوان واتو الذي لم يحاول أبداً أن يخفي هيامه بها، أو كوينتن ديلا تور الذي صرح يوماً على رؤوس الأشهاد بأنه كثيراً ما استلهم أساليبها الفنية طوال الفترة التي ارتبطا بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولنذكر هنا أن روزالبا، وإذ انهالت عليها "الطلبيات" وهي في باريس باتت في حاجة إلى بعض الوقت لترفه عن نفسها وتنصرف ولو عرضاً إلى التجاوب مع عروض وعلاقات عاطفية، فاضطرت إلى استدعاء أختها جيوفانا وأمها من البندقية لمساعدتها، علماً أنها هي التي كانت تعين عائلتها على العيش عيشاً مرفهاً منذ أول صباها ومنذ تدهورت مهنة أمها.
هل ظلمت نفسها؟
ولعل الطريف في هذا الجانب الشخصي من حكاية روزالبا كارييرا، أنها حين رسمت ذلك البورتريه الذاتي الذي خلدت فيه ملامحها الشخصية، كانت من الصدق في التعبير عن تلك الملامح إلى حد دفع كثر إلى التساؤل عن كل تلك الغراميات التي أُثيرت عنها وعن جدية الذين قد يكونون أغرموا بها. فهي في هذه اللوحة، وعلى عكس ما يفعل عادة الرسامون حين يرسمون أنفسهم، حرصت على أن ترسم تفاصيل وجهها أبعد عن الجمال مما يمكن أن نعتقد، فإذا بأنفها أضخم من أن يكون أنثوياً حقيقياً وإذا بشفتيها تتسمان ببرودة وصغر مثيرين للشفقة، إضافة إلى نظرة عينيها التي تكاد تخلو من تلك الحيوية الجديرة بامرأة تملك مواهبها، ناهيك باحتشام ملابسها التي تجعلها تبدو عجوزاً، مع أنها كانت حينها (عام 1715) في عز أنوثتها. ولعل اللافت هنا، أن البورتريه نفسه يحتوي بورتريهاً ثانياً تقوم الرسامة بإنجازه في المشهد نفسه، ودائماً ما كان النقاد يعتقدونه ثانياً لها ليكتشفوا لاحقاً أنه يمثل أختها جيوفانا التي كانت مقربة جداً إليها وتساعدها في عملها ما عنى أنها إنما رسمتها هنا كنوع من التعبير عن حبها لها. وجيوفانا هذه كانت في عز شبابها حين ماتت فكانت الصدمة الأولى والأكبر في حياة روزالبا. بل سيُقال لاحقاً إنها بعد موت تلك الأخت المحبة، فضلت روزالبا أن تبتعد بعض الوقت عن حرفتها كرسامة بورتريهات، فكانت تلك الحقبة التي شهدت انصرافها إلى رسم عدد من اللوحات المختلفة التي صورت فيه رباعية "الفصول" كما رباعية "العناصر" وغيرهما.
سنوات المآسي الأخيرة
صحيح أن روزالبا عاشت طويلاً حتى ماتت عن سن الرابعة والثمانين، بعدما فقدت تباعاً كل أفراد عائلتها. لكنها فقدت بصرها وهي بعد في سن الكهولة، وسيقول تاريخ حياتها إن السبب الرئيس في فقدانها بصرها كان ذلك العمل المبكر في حياتها حين كانت ترسم موتيفات الدانتيلا لوالدتها. ولم تنجح جراحات متتالية في رد البصر إليها ما فاقم أحزانها في السنوات الأخيرة من حياتها، إذ صارت عاجزة ليس فقط عن الرسم، بل كذلك عن تأمل نتاجات سنوات مجدها الكبير حين كانت تُعتبر أعظم رسامة بورتريهات في التاريخ.