الحرب في أوكرانيا تدور رحاها على الأرض بلا هوادة، وبطاقات الجزاءات الأممية على القدر ذاته من الاشتعال، بين منع استيراد ووقف تصدير، وحرمان من برغر، ومقاطعة قطط، وهجر عشاق على تطبيقات المواعدة، بينما جهود الحلول المضطربة تتقدم خطوة، ثم تتقهقر كيلومترات، فالمصالح إما تتضارب فينقلب الكوكب إلى كتلة نيران متحاربة، وإما تتصالح فتبدي الأطراف تفهماً، ويعبر المتصارعون "عن تمنع وهم الراغبون".
الراغبون في إنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا و"ردع" روسيا، وكبح جماح الممتنعين عن التصويت لصالح العقوبات على روسيا، لا سيما الصين وكوبا وفنزويلا، مع تأجيل محاسبة "الأبناء العاقين"، وربما "المنفلتين"، أمثال كوريا الشمالية وسوريا وبيلاروس وإريتريا، أولئك المعارضين للعقوبات، الذين لا يتوقفون كثيراً عند التعاون الوثيق والتكاتف العميق والتكامل اللصيق بين "الإخوة الأعداء".
عداوة الأرض
عداوة الأرض يحدها الفضاء، ففي الفضاء يتحول العداء المستحكم بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا إلى تعاون متين وود وثيق واستمرار أكيد، لا يهم كثيراً إذا وصف الرئيس الأميركي، جو بايدن، نظيره اللدود الروسي، فلاديمير بوتين، بـ"مجرم الحرب"، ثم يذيل البيت الأبيض الوصف بالقول إن بايدن "كان يتحدث من القلب"، ولا يغير من الوضع كثيراً أن يعبر الكرملين عن استيائه، ويؤكد أن "هذا كلام لا يغتفر"، فالغفران مكانه القلب والقلب وثيق الصلة بالعقل حتى لو أنكر اللسان، ولسان حال الموقف في الفضاء هو أن "العمل كالمعتاد" (Business as usual) هو المنهج المتبع لحين إشعار آخر.
آخر ما كان تتوقعه مليارات المتابعين للحرب في أوكرانيا، وما نجم عنها من تناطح وتصارع وتنابز بالتهديدات وتلاسن بالوعيد بين روسيا وأميركا، أن يتفق الطرفان في فضاء موازٍ على أن "كله تمام". وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) أعلنت قبل أيام أن رائد الفضاء الأميركي، مارك فاندي هاي، سيعود إلى الأرض قادماً من محطة الفضاء الدولية على متن مركبة الفضاء الروسية "سويوز" كما كان مخططاً، وكأن حرباً لم تكن. يشار إلى أن هاي قابع في الفضاء منذ 355 يوماً.
شريد في الفضاء
مدير برنامج محطة الفضاء الدولية التابع لـ"ناسا"، جويل مونتالبانو، قال في تصريحات صحافية قبل أيام، إن المركبة "سويوز" ماضية قدماً في رحلتها منطلقة من قاعدة بايكونور الروسية في كازاخستان، وأن رائد الفضاء الأميركي مارك فاندي هاي عائد إلى بلاده على متنن المركبة الروسية، مؤكداً أن العمليات مستمرة في المحطة، وأن التواصل مستمر مع "زملائنا الروس"، وفي الوقت ذاته، قال رئيس وكالة الفضاء الروسية، ديميتري روغوزين، إن روسيا قد تتخلى عن رائد الفضاء الأميركي، ما يعني أنه قد يترك وحيداً شريداً في الفضاء. رحلة هاي، التي بدأت في أبريل (نيسان) الماضي، وكان من المقرر له العودة إلى الأرض يوم 30 الجاري تسببت في حالة من الترقب العالمي المشوب بالذعر في ضوء الصراع المحتدم بين روسيا وأميركا بسبب الحرب في أوكرانيا.
هلع العالم
الحرب في أوكرانيا، والتحركات الروسية غير العابئة بهلع العالم من حولها، وحتمية الموقف الروسي الرسمي الموحد الخطاب للعالم، "سيد" الموقف حالياً، لكن الموقف في الفضاء ربما يكون مختلفاً قليلاً أو كثيراً. مدير وكالة "ناسا" الأميركية بيل نيلسون لم يجد أفضل من وصف ما قاله زميله الروسي من احتمال ترك رائد الفضاء الأميركي في الفضاء بقوله "هذا فقط ديميتري روغوزين"، في إشارة إلى معرفة مسبقة عميقة بالرجل، وما يتفوه به من كلمات ربما لا تنعكس أفعالاً على أرض الفضاء. روغوزين لم يقف عند حد التهديد بترك رائد الفضاء الأميركي شريداً، لكنه أشار إلى احتمال توقف روسيا عن إمداد الشركات الأميركية بمحركات الصواريخ.
يشار إلى أن قانون الفضاء الدولي يحتم على رواد الفضاء من جميع الدول تقديم كل المساعدات الممكنة لزملائهم عند الحاجة، بما في ذلك الهبوط الاضطراري في بلد أجنبي أو في البحر.
الروسي روغوزين استمر في الدق بشدة على الوتر العدائي اللفظي، فقال إنه من دون مساعدة من روسيا لنقل محطة الفضاء الدولية بعيداً من المخلفات الفضائية، فإن "المحطة ستسقط على أميركا"، كما قال "إن العقوبات المفروضة على بلده ستؤدي إلى تعطل عمل المركبات الروسية المستخدمة في محطة الفضاء الدولية، وإن ذلك قد يؤدي إلى سقوط محطة الفضاء الدولية، البالغ وزنها نحو 500 طن على البر أو البحر".
ومعروف أنه يتم استخدام أجهزة دفع صواريخ روسية مرتبطة بمحطة الفضاء الدولية لتصحيح مدارها عشر مرات في العام الواحد، وذلك للإبقاء عليها في الارتفاع الصحيح، وتجنب حدوث اصطدامات بمخلفات فضائية في مسارها.
التلويح بالتهديد
التلويح بالتهديد ربما يكون ضرورياً على صعيد شبح "الحرب العالمية شبه الثالثة" الدائرة بالدبابات والطائرات والقوات البرية، لكنها في الفضاء ربما تعني أن ما في الفضاء سيبقى قيد الفضاء. مدير "ناسا" بيل نيلسون يؤكد أن زميله الروسي "كثيراً ما يتسرع في التفوه بكلمات غير محسوبة"، "لكنه (روغوزين) في نهاية المطاف عمل معنا". وأضاف أن "الأشخاص الآخرين الذين يعملون في برنامج الفضاء المدني الروسي محترفون، لا تفوتهم لحظة معنا".
لحظات تاريخية مثيرة يعيشها الروس والأميركيون في عالم موازٍ على الرغم من أنف ما يجري، سواء على الأرض أو حتى من تلاسنات حول مستقبلهما الفضائي معاً. يوم الجمعة الماضي، وصل ثلاثة رواد فضاء روس إلى محطة الفضاء الدولية وهم يرتدون بدلات باللونين الأصفر والأزرق، لوني علم أوكرانيا، وهو ما أثار الاندهاش والتكهنات. رواد الفضاء الروس الثلاثة أوليغ أرتيمييف ودينينس ماتفييف وسيرغي كورساكوف هبطوا بسلام في محطة الفضاء الدولية بالمركبة الروسية "سويوز" لينضموا إلى روسيَّين وأربعة أميركيين وألماني.
لقاء حار
كان اللقاء بين الرواد حاراً، لم تكن حرارة الحرب، بل حرارة التلاقي، أحضان وصيحات فرحة جمعت الكل بمن فيهم الروس والأميركيون، كما ظهر في البث الحي على الهواء مباشرة عبر تلفزيون "ناسا" وموقعها على شبكة الإنترنت.
أحضان الفضاء ليست وليدة اليوم أو الأمس، بل هي نتاج وتراكم الكثير من الصراعات والمنافسات الشرسة، مع قدر غير قليل من المصالح المشتركة، ورؤية واقعية بأن استكشاف الفضاء مهمة لا تنجزها دولة واحدة، حتى لو كانت دولة عظمى، بل تقوم بها دول عدة بعضها مع بعض حتى لو كانت أقطاباً متنازعة.
التعاون في المنافسات
استكشاف الفضاء كان وسيبقى "منافسة"، لكن التعاون في المنافسات الكبرى أمر وارد وربما حتمي، تاريخ المنافسة المتحولة تعاوناً حتمياً في استكشاف الفضاءات بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا حالياً طويل، وتؤرخ مجلة "ناشونال جيوغرافيك" تحت عنوان "تاريخ استكشاف الفضاء" (يناير "كانون الثاني"، 2020) لهذا السباق، حيث كان سباقاً لا يقل حدة عن السباق المحتدم المكتوم طيلة سنوات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي وأميركا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وليس سراً أن الاتحاد السوفياتي السابق كانت له الصدارة والهيمنة والتفوق في سباق الفضاء حتى عام 1969 حين نجحت أميركا في هبوط رواد فضاء على سطح القمر، لكن سطح القمر ليس وحده الهدف أو الغاية أو مسرح الصراع والمنافسة، فقد ظل البشر يغامرون بمحاولات اكتشاف واستكشاف الفضاء على مدى ما يزيد قليلاً على ستة عقود. ففي 4 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1957، أطلق الاتحاد السوفياتي السابق أول قمر اصطناعي تم إطلاقه في مدار حول الأرض.
سنوات الحرب العجاف
هذا الإطلاق التاريخي حدث في خضم سنوات الحرب الباردة العجاف بين القطبين السوفياتي والأميركي. وعلى مدى سنوات طويلة، تنافس القطبان على تطوير الصواريخ البالستية العابرة للقارات والمهيأة لنقل الأسلحة النووية عبر قارات العالم. ويحسب لمصمم الصواريخ الروسي سيرغي كوروليف أنه بتطويره لأول صاروخ من هذ النوع، الذي سمي "آر 7"، كان كمن أطلق صافرة انطلاق سباق استكشاف واكتشاف الفضاء.
"لايكا" في التاريخ
لكن ذروة المنافسة كانت مع إطلاق القمر الاصطناعي الروسي "سبوتنيك" في عام 1957 ليدور حول الأرض مرة كل 96 دقيقة. هذا الإطلاق أطلق صافرة إنذار في الولايات المتحدة الأميركية، التي أدركت أنها تقف على مسافة بعيدة من غريمها الاتحاد السوفياتي فيما يتعلق باستكشاف الفضاء وتقنياته وقدراته على القيام بذلك، لا سيما وأن الاتحاد السوفياتي ألحق نجاحه الباهر بآخر أكثر إبهاراً، ألا وهو إطلاق "سبوتنيك 2" وعلى متنه "لايكا"، أول كائن حي ينطلق صوب الفضاء.
"لايكا" دخلت التاريخ من أوسع أبوابه لكنها خرجت من أضيق الأبواب، بعد ما دفعت حياتها ثمناً للبحث العلمي واستكشاف الفضاء والحرارة الشديدة، التي لم تتحملها بعد مرور بين خمس وسبع ساعات على انطلاقها. وقتها، لم تصنف رحلة "لايكا" فشلاً، بل نجاح عظيم، وبقي الفشل ولمرتين من نصيب أميركا، التي فشلت في إطلاق قمر اصطناعي صوب الفضاء. لكن المحاولة الثالثة نجحت في عام 1958 بإطلاق "إكسبلورير"، وهو النجاح الذي سرع من قرار إنشاء "ناسا"، إذ لم يعد في الإمكان التغاضي عن تفوق الاتحاد السوفياتي في هذا المجال.
درء خطر "سبوتنيك"
في أول أكتوبر فتحت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) أبوابها رسميا لدرء خطر "سبوتنيك 1" و"سبوتنيك 2"، وما خفي ربما كان أعظم، لكن ليس بـ"ناسا" وحدها يتحقق التفوق في استكشاف الفضاء. فبحسب التأريخ الوارد في "ناشونال جيوغرافيك"، فقد استمر التفوق السوفياتي حتى بعد تأسيس "ناسا". وتم إرسال أول إنسان للفضاء، وهو السوفياتي يوري غاغارين، الذي دار حول الأرض في أبريل عام 1961 دورة واحدة في 108 دقائق، بعدها بثلاثة أسابيع، لهثت أميركا لتستنسخ الإنجاز ذاته، لكن رائدها آلان شبرد لم يدر حول الأرض دورة كاملة، واستغرقت محاولة دورانه 15 دقيقة فقط، ويبدو أن الرئيس الأميركي حينئذ، جون كينيدي، ضاق ذرعاً ببقاء أميركا في موقع "الوصيف" للملكة. وقال "هذه الأمة عليها أن تلزم نفسها بتحقيق الهدف قبل انقضاء العقد". وكان الهدف هو هبوط أول إنسان على القمر وإعادته إلى الأرض بأمان.
وعلى الرغم من ذلك، بقي الاتحاد السوفياتي في الصدارة، وبقيت ألقاب "أول قمر اصطناعي في الفضاء" و"أول كلب في الفضاء" و"أول مشي أو سباحة في الفضاء" و"أول رجل في الفضاء"، وكذلك "أول امرأة في الفضاء"، من نصيب الاتحاد السوفياتي.
كسر جليد العداء
وبدأ الحظ يبتسم قليلاً للغريم في ستينيات القرن الماضي، وذلك ببدء قدرة "ناسا" على المضي قدماً، فقد قطع العلماء الأميركيون شوطاً كبيراً عبر برنامج "جيميناي" لاختبار القدرة على قضاء أيام في رحلات صوب الفضاء، ثم جاء برنامج "أبولو"، الذي نجح في الدوران برواد فضاء حول القمر، ثم إلى سطحه بين عامي 1968 و1972.
وشهد عام 1975 أول برنامج فضاء مشترك بين القطبين الغريمين، وأول مصافحة بين الندين، وذلك من خلال برنامج "أبولو سيوز" التجريبي، الذي جمع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي. وتمثلت المهمة الأولى للغريمين في يومين كاملين أمضاها ثلاثة رواد فضاء أميركيون مع رائدي فضاء سوفيات في المدار الجوي. وكان ذلك بمثابة فاتحة لكسر جليد العداء وبناء برامج تعاون علمي وبحثي مشتركة مستمرة حتى اللحظة. هذا الاستمرار عاش وتعايش ونجا بنفسه من العديد من المعضلات والمعوقات والصراعات، السمة التي سيطرت على العلاقة بين القطبين سابقاً، والقطب ومشروع القطب حالياً.
مشروع القطب الروسي، الدائرة رحاه وجهود الإبقاء عليه، يلقي بظلاله على التعاون المحوري والاستراتيجي في مجال الفضاء، فمحطة أو وكالة الفضاء الدولية بمثابة أرض الدبلوماسية الفضائية الحالية، وهي الأرض المستعصية على كوكب الأرض المشتعل بمجريات حرب روسيا في أوكرانيا. المحطة هي قمر اصطناعي مأهول تم إطلاق أول جزء منه في عام 1998. المشروع يقوم على تعاون خمس وكالات فضاء، هي الوكالات الروسية والأميركية واليابانية والأوروبية والكندية، بالإضافة إلى تعاون مع وكالتي الفضاء البرازيلية والإيطالية، لكن تظل الوكالتان الأميركية والروسية هما عمودي المحطة الرئيسين.
علاقات وعرة
وتحت عنوان "التعاون في مجال الفضاء بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في أثناء الحرب الباردة"، تشير ورقة بحثية منشورة على موقع "ناسا" إلى أن العلاقة بين أميركا والاتحاد السوفياتي كانت شديدة الوعورة بين عامي 1957 و1991، ومرت هذه العلاقة بفترات طويلة وكثيرة من عدم الثقة والعداء، لأسباب عدة، منها على سبيل المثال لا الحصر، أزمة الصواريخ الكوبية، وحرب فيتنام، والغزو السوفياتي لأفغانستان، وإصرار الرئيس الأميركي الراحل، رونالد ريغان، الدائم على الإشارة للاتحاد السوفياتي باعتباره "إمبراطورية شريرة".
وعلى الرغم من ذلك، فقد كانت هناك برامج وفترات تعاون عديدة، أبرزها في مجال الفضاء، وهو المجال الذي طالما نجح في التغلب على صراعات السياسة ومواجهاتها الدامية. وبحسب ما جاء على موقع "ناسا"، فإنه حتى في أثناء غياب اتفاقات رسمية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية للتعاون في مجال الفضاء تحت وطأة الخلافات والصراعات الشديدة، اعتاد البيت الأبيض أن يأذن بالتعاون "في كل حالة على حدة" وبشكل هادئ ومن دون ضجة، كما اعتنقت أميركا مبدأ محاولات الاتصال بالعملاء السوفيات في مجال الفضاء حتى في أشد لحظات التوترات السياسية، رافعة راية إبقاء العلم والبحث خارج سياق السياسة والصراع.
تعاون على الرغم من العداء
حتى خلال فترة أعتى رؤساء أميركا عداءً للاتحاد السوفياتي، الراحل ريغان، لم يتوقف التعاون في الفضاء، صحيح أنه اتخذ قرارات عدة لدفع برامج الفضاء الأميركية لتتغلب على السوفياتية، لكن التعاون لم يتوقف، كما أنه لا يمكن النظر إلى هذه القرارات بمعزل عن لونها السياسي الهادف إلى تصعيد التحدي في سنوات الحرب الباردة، أملاً في أن تتمكن أميركا من القول إن لديها تقنيات وإنجازات في مجال الفضاء تفوق السوفياتية.
لكن وصول آخر رؤساء الاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشوف، إلى منصبه في عام 1985، أدى إلى تغيرات كبرى على ظهر الكوكب، وكذلك في الفضاء، فلقاء "السحاب" بين ريغان وغورباتشوف في جنيف، لمناقشة الحد من التسلح، أسفر ضمن ما أسفر عن اتفاقية تعاون علمي بين البلدين. وعلى الرغم من القيود والشروط التي أخذ الطرفان في تجاذبها لبلورة الاتفاق في مجال الفضاء، فإن التوقيع كان بداية للتخفيف من قسوة برودة الحرب وبدء ذوبان الجليد.
ذاب الجليد كلية في عام 1991 بانهيار الاتحاد السوفياتي واستقالة غورباتشوف، لكن بقي ما في القلب في القلب، كما بقي التعاون بين الوريث الأكبر للاتحاد السوفياتي روسيا وأميركا قائماً في مجال الفضاء.
تزاوج مبهر
المثير والمبهر والطريف أن الورقة البحثية المنشورة على موقع "ناسا" كتبها كل من روالد ساغديف وسوزان أيزنهاور، الأول أستاذ فيزياء في جامعة ماريلاند الأميركية، وقبلها كان مدير معهد بحوث الفضاء في الأكاديمية الروسية للعلوم، والثانية هي مؤلفة وخبيرة في مجال العلاقات الأميركية الروسية، والمثير أنهما كانا زوجين بين عامي 1991 و2007، والأكثر إثارة أنها حفيدة الرئيس الأميركي الراحل دوايت أيزنهاور.
هذا التعاون الوثيق جداً، الذي مر بأحداث وحوادث توتر ظن العالم وقتها أنها الأفدح، يتعرض حالياً لعاصفة جديدة، جراء حرب روسيا في أوكرانيا. التعاون مستمر، ويتوقع له أن يستمر بشكل أو بآخر، ولو خلف الأبواب المغلقة وفي الفضاءات والمدارات البعيدة عن الأخبار العاجلة والعقوبات القاسية، لكن تجدر الإشارة كذلك إلى أن روسيا كانت لوحت في العام الماضي بأنها قد تنسحب نهائياً من محطة الفضاء الدولية بحلول عام 2025.
وقتها صرح نائب رئيس الوزراء الروسي السابق، يوري بوريسوف، بأنه ليس في مقدور روسيا المخاطرة بحياة رواد الفضاء، حيث هيكل المحطة ومعدنها يتقدمان في العمر ما قد يؤدي إلى كارثة، وأن روسيا ستوجه لشركائها في المحطة إنذاراً بمغادرتها المحطة في 2025.
حتى اللحظة يبقى التعاون قائماً، على الرغم من التهديدات الروسية والتراشقات الأميركية، ليس هذا فقط، بل إن التصريحات الصادرة عن "ناسا" جميعها يصب في خانة "التواؤم" و"التعاون" و"التكامل" مع الشريك الروسي، لدرجة تجعل من "دبلوماسية الفضاء" احتمالاً قائماً، فربما تنجح وساطة فضائية فيما فشلت فيه وساطات الأرض.
إشعال نيران الفضاء
لكن على الأرض من يشعل الفضاء ناراً، الفضاء الافتراضي اشتعل قبل أيام حين دعا أغنى رجل في العالم، مؤسس شركة "سبيس إكس" للفضاء ومؤسس شركة "تسلا" للسيارات الكهربائية، إيلون ماسك، الرئيس الروسي بوتين إلى نزال يقرر الفائز بعدها مصير أوكرانيا، الدعوة كانت في تغريدة، لكن الأثر كان أعمق وأخطر.
فماسك، الكندي الحاصل على الجنسية الأميركية المولود في جنوب أفريقيا، يطرح نفسه كقوة ضاربة في مجال الفضاء، فمن اتهامات طالته بأنه يعمل على احتكار الفضاء عبر استخدام مساحات واسعة من الفضاء يعزز بها أسطول أقماره الاصطناعية، إلى تحذير وكالة الفضاء الأوروبية من أن ماسك منفرد بوضع قواعد نظام الاستخدام التجاري للفضاء، لتنويه وكالة "ناسا" الأميركية من أن أقماره الاصطناعية تشكل خطراً على الفضاء، وقد تعرض المحطة الدولية للخطر، وتعرقل جهود مراقبة الضربات الكارثية المحتملة للكويكبات، وصل ماسك حالياً إلى مرحلة التراشق اللفظي العنيف والسخرية البالغة الحدة مع مدير عام وكالة الفضاء الروسية، ديميتري روغوزين، بسبب أوكرانيا. وكان روغوزين قد وصف ماسك وأنشطته الفضائية في سنوات سابقة بـ"رأسمالي الفضاء" و"المثير للاهتمام"، وأن أقماره يمكن استخدامها في أغراض عسكرية في المستقبل، وهي الأوصاف التي تحولت إلى "الشيطان الصغير" و"أيها الضعيف" في الحرب التغريدية الحالية، ناهيك بأنه (ماسك) "يقف إلى جانب العدو". وتبقى دبلوماسية الفضاء أمراً وارداً على الرغم من عنجهية أحداث الأرض ومحركيها.