في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، حين كانت الحرب العراقية- الإيرانية حامية الوطيس، تعرضت الناقلات النفطية الكويتية لهجمات إيرانية بالصواريخ وألغام بحرية تعترض عباب طريقها في الخليج العربي، كما تعرضت الكويت في داخلها لهجمات تخريبية إرهابية داخلية على منشآتها النفطية والمدنية، بل حتى أميرها الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة، راح ضحيتها اثنان من حرسه الخاص. وقد ثبت أن إيران كانت وراء تلك الهجمات الإرهابية جميعاً. اضطرت الكويت مكرهةً للجوء للقوتين العظميين آنذاك -الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي- وطلبت منهما إن كانتا تريدان استقراراً لأسعار النفط وضماناً لتدفق إمدادات النفط الكويتي للسوق النفطية، أن ترفعا أعلامهما على الناقلات الكويتية العملاقة، وتغير أسماءها لأسماء روسية وأميركية، لأن الكويت مسؤولة عن أمنها الداخلي ومراكز إنتاج نفطها، ولكنها غير مسؤولة عن حماية الممرات البحرية الدولية التي تمد السوق العالمية بالنفط، وهو ما كان، فتوقفت الهجمات الإيرانية.
وأذكر في هذا المجال مقطعاً لقصيدة للشاعر الصديق جمعان الوقداني، يعبر فيها عن مرارة المضطر لتدويل حماية الممرات النفطية:
رفع العلم، لحظة ألم
ولّا الاسم!؟ أم النمل أوشان سيتي
والله ألم.
وما أشبه الليلة بالبارحة.
تتعرض المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة منذ سنوات لهجمات إيرانية، بعضها مباشر من الأراضي الإيرانية مثل الهجوم على "بقيق" و"خريص" في سبتمبر (أيلول) عام 2019، أو غير مباشرة من الشمال اليمني الذي تسيطر عليه جماعة الحوثي، بتمويل وتسليح وتشجيع من إيران. صواريخ باليستية ومسيرات كلها إيرانية الصنع، تنطلق باستمرار من مناطق الحوثي والمجتمع الدولي يتفرج، لا يتفرج وحسب، بل ينتظر إمدادات النفط من منطقتنا ويطالب بالحفاظ على استقرار السوق النفطية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تنتج دول الخليج العربي ما يقارب خمس الإنتاج العالمي للنفط، وتزداد الحاجة للوقود والنفط الخليجي مع استعار الحرب الروسية- الأوكرانية واستعار أسعار برميل البترول. ويحاول السوق العالمي إقناع الدول الخليجية بزيادة إنتاجها النفطي لتعويض النقص في السوق النفطية، الذي أحدثته مقاطعة النفط الروسي، فراحت الولايات المتحدة الأميركية تغازل فنزويلا ورئيسها، نيكولاس مادورو، الذي كانت لا تعترف به بالأمس القريب، وتناشده إعادة الإنتاج الذي أوقفته بالعقوبات على بلاده. وتسابق إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الزمن للعودة للاتفاق النووي مع إيران، والتعجيل برفع العقوبات عنها كي تبدأ بتصدير نفطها، وتخفف الضغط على الطلب العالمي للبترول، وبالذات لدى حلفائها الأوروبيين. تحاول رفع العقوبات عن إيران التي تقصف الدول الخليجية- مباشرة وغير مباشرة- في الوقت الذي تطالب الخليجيين برفع الإنتاج كذلك من أجل استقرار السوق وخفض أسعار الطاقة!
جاء بيان وزارة الخارجية السعودية يوم الاثنين الماضي ليقول باختصار: المسؤولية في نقص الإمدادات النفطية وارتفاع الأسعار تقع على إيران التي تستمر بالهجمات على المنشآت النفطية في المنطقة، وعلى من يحاول أن يتغاضى عن هذه الهجمات ويفاوض مطلقيها لرفع العقوبات عنها- أي عن إيران! الأمر الذي سيعني إطلاق يدها نحو مزيد من التوغل والعدوانية -ليس ضد دول الخليج وحسب- بل حتى دول تدور في فلكها مثل العراق، الذي قصفته بالصواريخ قبل أيام في أربيل بالقرب من القنصلية الأميركية هناك. بالتالي فالبيان يعبر عن أنها غير مسؤولة عن نقص الإمدادات للسوق النفطية، وإنما المسؤولية تقع على المتسبب بهذه الهجمات ومن يغض الطرف عنه، بل ويفاوضه ويكافئه! البيان السعودي يقول للمستهلك الدولي وللسوق العالمية للبترول: أنت "طقّاق فوقاني"، أو "أنت ضرسٍ أعلى، تطحن ولا يطحن عليه"! وهذا الأمر غير مقبول، على المجتمع الدولي والمستهلك الدولي أن يسهما في حماية الممرات والمنشآت النفطية التي تتعرض للهجمات من خارج حدود دول الخليج، أما الداخل والإنتاج وحمايته وإعادة إصلاحه، مثلما حصل بوقت قياسي ببقيق وخريص، فمسؤوليتنا، لكن أن تفاوض الدول الكبرى إيران وتكافئها بالهجوم والاعتداء علينا، وتتوقع أن نستمر في إمدادات السوق والوفاء بكل الالتزامات والعقود النفطية العاجلة والآجلة، فهذا غير ممكن ولا هو معقول منطقياً.
وأنا أقرأ بيان الخارجية السعودية، تذكرت مثلاً شعبياً كأنما يقول للسوق النفطية: "لسنا سناح (غطاء) شتا، إذا بردت تغطيت به، وإذا دفيت رفسته".