اتصالات مكوكية وجولات سرية واستعدادت أمنية عالية المستوى تتحضر لها إسرائيل، خصوصاً قبيل شهر رمضان، فالتخفيف من حدة التوترات والعنف والاشتباكات بين العرب واليهود يُعتبر أحد أبرز أولويات تل أبيب في أبريل (نيسان)، إذ ستشهد مدينة القدس توافداً غير مسبوق من قبل أبناء الديانات الثلاث. وشهر رمضان الذي يبدأ، في 2 أبريل، سيتقاطع مع عيدَي الفصح اليهودي والمسيحي.
تسهيلات نوعية
لكن عمليات الطعن والدهس وإطلاق النار التي نفّذها فلسطينيون قبل حلول رمضان بأسبوعين في قلب مدن إسرائيلية وقتلهم 11 إسرائيلياً فاجأت القيادة السياسية، وخلقت حالاً من التخبط والقلق داخل أجهزة الأمن، التي توقعت أن يجعل تعزيز القوات الأمنية والاعتقالات الوقائية من فترة رمضان هادئة نسبياً، ما يساعد في تهدئة ميدانية قياساً بالأعوام الماضية، بخاصة أن الحكومة الإسرائيلية قررت منح الفلسطينيين حزمة من التسهيلات، تمثلت في إزالة قسم من قيود السجون وزيارة الأسرى التي فُرضت بعد فرار الأسرى الستة من سجن جلبوع في سبتمبر (أيلول) الماضي. وخفضت مستوى الاحتكاك مع السكان الفلسطينيين في حيّ الشيخ جراح، وسمحت لأي فلسطيني لا قيود أمنية مفروضة عليه بالوصول إلى المسجد الأقصى خلال رمضان، كما زادت الحكومة الإسرائيلية عدد تصاريح العمل لسكان غزة في إسرائيل بمقدار 8 آلاف تصريح إضافي، ليصل العدد الإجمالي إلى 20 ألفاً.
الباحث والمحلل في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور يقول لـ"اندبندنت عربية" إن "تل أبيب، وبعد العمليات الثلاث المتلاحقة، باتت في مأزق كبير وحرج، فإما إجراءات مشددة على حساب الوعود السياسية التي منحتها للسلطة الفلسطينية، المتمثلة في جملة من التسهيلات، أو محاولة امتصاص ما جرى والمحافظة على الوضع القائم، من باب عدم اتساع تلك الهجمات، بخاصة خلال رمضان ومع اقتراب ذكرى الحرب على قطاع غزة، التي استمرت 11 يوماً، العام الماضي. وفي حال عمدت إسرائيل إلى تأزيم الوضع من خلال نشر المستوطنين، فإنها ستعود لحالها في أحداث مايو (أيار) الماضي"، وأكد أن "وقف التسهيلات والتشدد والتضييق على المواطنين الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس قد تزيد من موجة العمليات، ومنع وصول المواطنين الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى سيزيد الفوضى، ما يفرض تداعيات أمنية وعسكرية وسياسية. وهناك إجماع بأننا أمام مرحلة جديدة من التصعيد، فإذا تصرف (رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي) بينيت بطيشٍ وقام بمجاراة اليمين، فذلك سيؤسس بحسب اعتقادي لحال من عدم الاستقرار ربما تستمر لأشهر، وربما يؤدي ذلك إلى إطاحة الحكومة".
استنفار أمني
على الرغم من الأحداث التي اعتُبرت إسرائيلياً الأكثر دموية منذ 2006، أوصى المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر للشؤون الأمنية والسياسية (الكابينت)، أجهزة الأمن بعدم إلغاء ما تصفه بـ"التسهيلات" التي كانت مقررة خلال شهر رمضان لمنع مزيد من التصعيد والعنف. فيما قالت الشرطة إنها لن تخفف القيود الأمنية في القدس "كإجراء دفاعي، ولزيادة شعور المواطنين بالأمان"، على الرغم من أنها سمحت في الماضي بتجمعات أكبر من المعتاد في منطقة باب العامود. مع ذلك، يعتقد المسؤولون الأمنيون أنه بالإمكان إلغاء تصاريح الدخول التي منحت لفلسطينيين من الضفة الغربية، خلال فترة الأعياد وشهر رمضان، أو تقليصها بشكل كبير. وووفقاً لتقديرات "الكابينت"، فإن الشهرين المقبلين، أبريل ومايو، سيشهدان توترات أمنية متصاعدة بسبب تقاطع الأحداث والأعياد.
قائد لواء القدس دورون تورجمان أكد بدوره أن "الشرطة الإسرائيلية في الفترة الأخيرة، وعلى خلفية تكرار عمليات الاعتداء في المدن الاسرائيلية، منعت وأحبطت تنفيذ 31 اعتداء، بما في ذلك إحباط نوايا تنفيذ اعتداءات في القدس منذ بداية العام الحالي". وأشار إلى "تقديرات أمنية بأن الأوضاع ربما تزيد تعقيداً في رمضان". وأضاف أنه "تم تكليف 3000 ضابط شرطة بحلول نهاية الأسبوع الأول من رمضان، ولن يُسمح بتجمع أكثر من 15000 مصلٍّ يهودي للمشاركة في صلوات ’بركات هكوهين‘ التقليدية اليهودية، كما لن يُسمح في قداس سبت النور، الذي يجذب آلاف المسيحيين بأكثر من ألف مصلٍّ. فيما ستنظم الشرطة عدد المصلين المسلمين في الحرم القدسي، وسيجري وضع حارس للحفاظ على النظام".
إدانة فلسطينية
صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أشارت إلى أن هذه "التسهيلات كانت في خطر بعد هجوم بني براك، الثلاثاء الماضي، لكنها كانت تنذر بخطر أكبر لو لم يصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، بياناً يدين الهجوم"، وقال مسؤولون للصحيفة إن "عباس أصدر البيان بضغط من وزير الدفاع بيني غانتس".
الكاتب والمحلل السياسي راسم عبيدات أوضح أن "إسرائيل تدرك أن أي عملية تصعيد، كما حصل في رمضان الفائت، وتطورها إلى انتفاضة شعبية شاملة، قد يهدد وجود السلطة ويعجّل بانهيارها في ظل تراجع حضورها وشعبيتها لدى الجماهير الفلسطينية، لذلك ترى أن محاصرة أي تصعيد ووقفه هو مصلحة مشتركة لإسرائيل والسلطة. فإسرائيل ترى أن هناك تصاعداً في أعمال المقاومة في الضفة الغربية على شكل مواجهات شعبية واشتباكات مسلحة، ولكي تقطع الطريق على أي عمل من هذا النوع، تنفّذ عمليات استباقية من ملاحقة للمطارَدين واعتقالات للنشطاء والأسرى المحررين واغتيالات، ضمن ما تسمّيه بعملية ’جزّ العشب‘ لمواجهة العمليات الفردية (الذئب المنفرد) من دهس وطعن وإطلاق نار إلى اجتثاث أية بنية لعمل مقاوم منظم".
وأضاف: "إسرائيل تسعى إلى فرض نهاية أو وضع حدّ للقضية الفلسطينية عبر ما تسمّيه بمشروع السلام الاقتصادي وتقليص الصراع، فبينيت يرفض أية لقاءات سياسية مع القيادة الفلسطينية، ويمنح أعضاء حكومته ضوءاً أخضر لعقد لقاءات أمنية واقتصادية مع رئيس السلطة وقيادتها، ويرفض اللقاء مع عباس والحديث عن مسار سياسي والعودة إلى المفاوضات أو ما يُسمّى بحل الدولتين".
تأهب ومسؤولية
استجابة الوزراء لدعوات رؤساء الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المختلفة بعدم فرض عقاب جماعي على الفلسطينيين من خلال التراجع عن التسهيلات خلال رمضان، لم يمنع بينيت من الإعلان عن تشكيل لواء جديد من قوات "حرس الحدود" في ما وصفه بـ"إجراء استراتيجي يتجاوز موجة الإرهاب الحالية"، واعتقال أو التحقيق مع 200 شخص. وأضاف أنه أصدر أوامر برصد "أي شخص كان على اتصال بداعش" والتعامل معه واتخاذ أي إجراء ضروري بحقّه، بما في ذلك الحبس الاحتياطي". وتابع، "نعمل على تسريع عملية جمع الأسلحة غير القانونية في المجتمع العربي، التي تراكمت بكميات ضخمة على مدى أعوام عدة"، داعياً "مواطني إسرائيل إلى الحفاظ على اليقظة والتحلي بالمسؤولية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي أعقاب تقييم الأوضاع الأمنية الأخيرة، أوعز رئيس أركان الجيش الإسرائيلي أفيف كوخافي، بالانتقال إلى حال تأهب قصوى والاستعداد لسيناريوهات تصعيد مختلفة، "وتنفيذ فوري لخطوات عدة تهدف إلى تعزيز جهود الدفاع والإحباط، وجمع معلومات استخبارية ودفع جاهزية الجيش الإسرائيلي في الحلبة الفلسطينية"، بحسب بيان للناطق العسكري الإسرائيلي. وتقرر أن يقترح الجيش تخصيص 15 سرية من وحدات خاصة لنقلها إلى الشرطة، وأن ينتشر قسم منها عند نقاط التماس بين إسرائيل الغربية وقسم آخر في مدن مركزية، بموجب قرار تتخذه الشرطة. كما تقرر أن يغادر جنود قناصة وحداتهم، حاملين السلاح لدى عودتهم إلى بيوتهم.
على صعيد متصل، لوّح وزير الأمن الإسرائيلي بيني غانتس في مؤتمر صحافي، بإمكانية استدعاء قوات احتياط، مشدداً على أن الأجهزة الأمنية "تتخذ إجراءات دفاعية وهجومية لمنع الهجمات اللاحقة قدر الإمكان"، معتبراً أن "دولة إسرائيل تتعرض لهجوم إرهابي قاتل، وأن الجيش يركز جهوده في المجال الاستخباري، ونفذ اعتقالات احترازية، وأطلق أنشطته في مواجهة الإرهابيين". وأضاف "إذا لزم الأمر، سنجنّد على الفور الآلاف من جنود الاحتياط الذين سيملأون الشوارع بمشاركة قوات الشرطة ويتصرفون حيثما يكون النشاط العملياتي مطلوباً"، لافتاً إلى أن "كل الوسائل مسموح بها ومتاحة لكسر موجة الإرهاب، وسوف نستخدم كل الوسائل التي نعتقد أنها مناسبة".
من جانبه، رأى المحلل العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت" يوسي يهوشواع أن "العمليات الثلاث تتميز بفقدان منفذيها الخوف، وجرأتهم في العمل داخل المدن وباستخدام سلاح ناري". وأضاف، "ما يربط بينهم، ليس بنية تنظيمية ولا بنية قيادية، وإنما الشبكات الاجتماعية، حيث التحريض الذي يغذي المتطرفين ويربط بينهم. وما يغردونه في غزة، يرونه في أم الفحم وقرية يعبد".
حمل السلاح
بينيت لم يكتفِ برفع حال التأهب القصوى لمحاربة ما سمّاه بـ"موجة الإرهاب العربي"، بل حث الإسرائيليين من حاملي رخصة سلاح على التسلح به، فاتحاً باب تطوّع "المدنيين" في أجهزة الأمن، فيما دعا وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي عومير بارليف "المواطنين المدنيين" إلى التطوع في صفوف ما يُسمّى بـ"الحرس المدني" التابع للسلطات المحلية في المدن والبلدات الإسرائيلية. ووفقاً لموقع "واللا" الإسرائيلي، توقّع بارليف أن تكون هناك حاجة لموازنة طارئة بقيمة 250 مليون شيكل (78 مليون دولار).
وذكر الموقع الإلكتروني أن ارتفاعاً طرأ على طلبات مواطنين إسرائيليين لشراء أسلحة. وبحسب معطيات وزارة الأمن الداخلي، فإن هذه الطلبات ارتفعت ثلاثة أضعاف ونصف الضعف عن العام الماضي. وتم تقديم أكثر من ألف طلب منذ بداية شهر مارس (آذار)، إذ تضاعف عدد الطلبات خلال الأسبوعين الحالي والماضي.
وعلّقت منظمة "مبادرات إبراهيم" (غير ربحية) على هذه المعطيات بالقول إنها "تدلّ على ظاهرتين مقلقتين متوازيتين: مواطنون كثيرون يشعرون بأن الشرطة لن تحميهم أثناء الضائقة، إلى جانب استغلال مستهتر للوضع من جانب جهات تدعو إلى التسلح على خلفية قومية. وكي لا تنشب حرب أهلية هنا، يجب الحفاظ على احتكار الشرطة للسلاح. وسيناريو تسلّح مواطنين بشكل واسع سيقود إلى وضع أخطر عشرات المرات مما شهدناه في مايو 2021".
ردع بالقوة
"الكابينت" أكد أنه "سيتم تعزيز قوات الأمن على طول الخط الأخضر، ودفع الخطط لإغلاق الفتحات في الجدار الفاصل الذي يمتد على طول الحدود مع الضفة الغربية، وتنفيذ عمليات لمكافحة الإرهاب ضد أنصار تنظيم داعش، مع مواصلة حملة معالجة مشكلة السلاح غير القانوني في المجتمع العربي وتوسيعها"، بما في ذلك فرض عقوبات جماعية على أقرباء منفذي العمليات وإلغاء تصاريح العمل الممنوحة لأقاربهم وتعزيز الهدم السريع لمنازلهم.
المعهد الإسرائيلي للديمقراطية أشار في بحث نشره، في وقت سابق، إلى أن "هدم منازل منفذي العمليات، لا يشكّل أداة ردع كما يدّعي المستوى السياسي الإسرائيلي والمؤسسة الأمنية"، بل على العكس من ذلك، بيّن البحث أن هدم المنازل "يشجع على تنفيذ مزيد من العمليات".
وتسعى وزيرة الداخلية الإسرائيلية أييليت شاكيد، بحسب ما أفادت به القناة "12" الإسرائيلية، إلى سحب الجنسية من منفذي عمليات ضد إسرائيل من فلسطينيي الداخل، الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، مدّعيةً أن هذه المساعي تتعلق بمن أدينوا بالانتماء لتنظيم "داعش"، أو تنطبق عليهم المعايير الأمنية التي حددتها. وقالت شاكيد، بحسب ما أورد موقع "يسرائيل هيوم"، إن "القتلة ونشطاء الإرهاب ممن ينفذون عمليات ضد يهود يجب ألا يحصلوا على جوائز. من أدار ظهره لدولة إسرائيل ويحصل على تمويل ومخصصات من السلطة الفلسطينية لا يستحق أن يكون جزءاً من إسرائيل. أنا عازمة على الدفع بهذا القانون المهم من أجل أمن دولة إسرائيل".
وفي تغريدة عبر "تويتر"، قال رئيس القائمة العربية الموحدة منصور عباس، "مع قرب حلول شهر رمضان والأعياد اليهودية والمسيحية، يجب على أبناء الديانات الثلاث إطلاق مبادرة للمصالحة والشراكة تستند إلى الإيمان بالله والقيم الدينية والأخرى الدولية، التي تقدس حياة الإنسان مهما كان". في حين شدد رئيس القائمة المشتركة أيمن عودة على "وجوب إحلال سلام يجلب الأمن والحياة الطبيعية للشعبين".
تصعيد شامل
تقديرات الشرطة الإسرائيلية التي أوردتها هيئة البث الإسرائيلي "كان 11" أشارت إلى أن "الأيام المقبلة ستشهد مزيداً من العمليات"، غير أنه "لا يزال من الممكن تجاوز الشهر المقبل من دون تصعيد شامل". فيما يرى مراقبون أن "هاجس التصعيد في رمضان قد يصل إلى انتفاضة شاملة، بخاصة أن هناك خمس مناسبات دينية يهودية تأتي في أبريل، ودعوات من قبل جماعات أمناء الهيكل والمعبد لتنفيذ أوسع عمليات اقتحام للأقصى، وفرض وقائع جديدة فيه تمكّنهم من إدخال قرابين الهيكل إلى ساحات المسجد وأداء طقوسهم وصلواتهم التلمودية والتوراتية كاملة في ساحاته بشكل جماعي وبصوت مرتفع، وأداء طقوس السجود الملحمي والنفخ في البوق وغيره. تلك المناسبات هي عيد الفصح ويوم الصوم المبكر والسبت العظيم ويوم الشواء ويوم الهجرة العالي في 11 أبريل، الذي حُدد من قبل المستوطنيين كيوم تجري فيه أوسع الاقتحامات".
عضو الكنيست اليميني المعروف بمواقفه الحادة تجاه العرب إيتمار بن غفير، قال، "مثلما أزور جبل الهيكل (التسمية العبرية للحرم القدسي) في بداية كل شهر عبري، أنوي القيام بذلك. إن محاولة منع مشرّع إسرائيلي من زيارة الموقع سترسل رسالة استسلام للإرهاب، وستؤدي فقط إلى تأجيج النيران".
يُذكر أن تزامن رمضان مع عيدَي الفصح اليهودي والمسيحي في أبريل، شكّل مصدر قلق لإدارة الولايات المتحدة أيضاً، إذ قال مسؤلون أميركيون وإسرائيليون لـصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" الشهر الماضي، إن "واشنطن طلبت من تل أبيب اتخاذ خطوات لتخفيف التوترات ومنع اندلاع أعمال عنف".