تقع آثار قصر الحير الشرقي، (بفتح الحاء وتسكين الياء)، في البادية السورية "بادية الشام" بين مدينتي تدمر والرصافة، ويُعد القصر مجمعاً معمارياً متكاملاً على شكل مدينة مصغرة، تبعاً لما تشير إليه الاكتشافات حتى الآن، ويتألف الموضع من بناءين محصنين، أحدهما فناء صغير في القسم الشرقي يسمى "القصر الصغير"، وبناء آخر في القسم الغربي يفصلهما 42 متراً، ولا تزال جدرانهما قائمة، يحيط بكل منهما سور مربع الشكل، مبني من الحجر المنحوت والآجر بارتفاع 12 متراً، ومدعم بأبراج دائرية.
وتتوسط المساحة ما بين الفناءين مئذنة مربعة على شكل برج بسيط من الحجر المنحوت ارتفاعه حوالى 10 أمتار، قسمه الأخير مفقود، ويؤدي مدخله من الجهة الجنوبية إلى درج حلزوني دائري، وفي الجنوب الشرقي من البناءين بُني مسجد يشترك مع المدينة في جدرانها الجنوبية والشرقية، ويعتقد أنه بُني مباشرة بعد إتمام بناء المدينة.
ويمتد إلى مسافة بعيدة نحو الجنوب أسس جدران، من بقية أسوار منطقة زراعية، جُلبت إليها المياه من الشمال بـ"نبع الكوم"، عبر قناة تمتد نحو 30 كيلو متراً، ولم يزل يطلق عليها البدو حتى الآن اسم البساتين.
وتذكر بعض المراجع أن منطقة القصر كانت معدة لسكن حاشية الخليفة، بينما تعتقد أخرى أن أهالي حمص من التجار هم من سعوا إلى بنائه، ليكون محطة بين الفرات وحمص، وهذا ما يؤكد عليه نص النقش المكتشف في القرن التاسع عشر، الذي رآه على عضادة المسجد لأول مرة "لوي جاك روسو"، القنصل الفرنسي في حلب، ويشير إلى أن الموقع بُني بأمر من هشام بن عبد الملك سنة 110 هـ (728 م)، ويذكر أيضاً اسم المعماري السوري الذي أنشأه، والنص "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له. محمد رسول الله، أمر بصنعة هذه المدينة عبد الله هشام، أمير المؤمنين وكان هذا مما عمل أهل حمص على يد سليمان بن عبيد. سنة عشر ومائة".
البناء الصغير
يبلغ طول أضلاع البناء الصغير نحو 70 متراً تقريباً، ويحده سور مربع الشكل يتموضع على كل زاوية من زواياه الأربع برج مستدير نصف دائري، وبرجان في وسط كل ضلع من أضلاعه الأربعة، ويتموضع المدخل الرئيس في الجهة الغربية، ويعلوه "كوة سقّاطة"، تُمكن المُحاصرين من صب الحديد المصهور أو الزيت المغلي أو القذائف على مهاجمي المدخل من الأسفل، محمولة على ثلاثة كوابيل (مساند).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويظهر القصر من الداخل على شكل أنقاض ترتفع لأكثر من مترين، تتوسطه في الطابق السفلي باحة مركزية يحيط بها عدد من الحجرات ذات سقوف مقنطرة مبنية من الآجر، وتبدو حجرتان سليمتان نسبياً في الجزء الجنوبي، مقسمتان إلى جزء خارجي وآخر داخلي بواسطة جدار حاجز، ويفترض أن باقي الغرف المهدمة كانت مبنية على الطراز نفسه.
وفوق هذه الغرف المسقوفة بالقناطر طابق آخر له غرف متوافقة من الغرف السفلية، ولا تزال بعض غرفه قائمة في الركنين الشمالي الشرقي والجنوبي الشرقي، وتدلنا حفر العوارض الخشبية المتموضعة على طول جدرانه تحت المتاريس، على أن سقفها كان من الخشب.
البناء الكبير
وإلى الغرب من البناء الصغير (القصر) نجد البناء الكبير الذي يشبه في ظاهره القصر، وهو مبني من الآجر والحجر الكلسي المنحوت ومكسو بالجص، ويأتي مدخله في جهة الشرق مقابلاً لمدخل البناء الصغير، ويبلغ طول ضلعه 170 متراً تقريباً، ويحيط به كذلك سور تتقدمه أبراج دائرية، تحوي بوابة في وسط كل جانب من جوانبها الأربعة، ومثل تصميم البناء الصغير، يتموضع في كل زاوية برج، مع اختلاف يتعلق بعدد الأبراج التي تتوسط الأضلاع في الفناء الكبير، تجد ستة أبراج نصف دائرية في وسط كل ضلع ليصبح عدد الأبراج 28 برجاً، وقد أنشئ في زاويته الجنوبية الشرقية مسجد لم تزل جدرانه وركائزه قائمة، وتظهر بقية البيوت والدور داخل هذا البناء متهدمة على شكل ركام، ويُعتقد أن هذا البناء أشبه بمدينة ملحقة بالقصر كانت معدة لسكن حاشية الخليفة وضيوفه.
الحير الشرقي (الزيتونة)
وفي إسهام لدراسة قصر الحير الشرقي قدمه عبد القادر الريحاوي، دكتوراه في العمارة الإسلامية، في الحوليات السورية، عرض فيه مجموعة نصوص تاريخية تتعلق بالموقع، يدحض فيها فكرة أن يكون اسم الحير الشرقي "رصافة هشام" كما تذكر بعض المراجع، يقول، "لقد حاول أكثر الذين درسوا آثار الحير الشرقي التعرف إلى اسمه الأصلي، لكن المصادر وكذلك المكتشفات لم تسعف في معرفته، فقط اعتمدوا جميعاً خبراً أورده كل من البلاذري والطبري حول إقامة هشام في البادية".
وفي حين يقول شلومبيرجه بأن اسم "الحير الغربي" القديم هو الزيتونة، يرد الريحاوي بأنه لا يمكن أن تكون الزيتونة هي الحير الغربي، لأنها تقع شمال تدمر، حسب نصوص عُثر عليها، أما جان سوفاجيه، فجاء ليثبت بأن الحير الشرقي ما هو إلا رصافة الشام معتمداً على قول للطبري، لكن الريحاوي أثبت أنه لا يمكن، لأن الرصافة الحالية هي رصافة الشام نفسها.
وأوصلت نتائج التحقيق الذي قدمه الريحاوي أخيراً إلى أن اسم "الزيتونة" (الذي يطلق من قبل بعض المؤرخين على الحير الغربي)، هو أكثر الأسماء انطباقاً، وذلك لأن "الحير" اسم أطلق في عهد متأخر جداً، كما أطلق على الموقع الآخر المماثل له "الحير الغربي"، الذي يقع جنوب تدمر، والحير تعني البستان أو الواحة.
يذكر أن الموقع ككل لم يُكتشف بشكل كامل، فما زال هناك متسع للدراسات والتنقيبات حول مزيد عن هذا المكان، الذي يملك معظم العناصر والتكوينات التي تحتاجها أي مدينة مصغرة.