تنظم مؤسسة فنية فرنسية كبرى هي "مركز بومبيدو" في باريس، معرضاً مهماً للفنان المصري حسن خان. معرض يحمل عنوان أحد تجهيزاته البصرية، "طموح أعمى"، ويتضمن أعمالاً قديمة وحديثة له تسمح باستكشاف ممارسة فنية مدهشة سواء بطابعها التجريبي ــ أشكالاً ومفاهيم ــ أو بوسائطها المتعددة التي تتراوح بين نحت وتصوير فوتوغرافي وتجهيزات صوتية وموسيقية وبصرية وابتكار أوضاع.
ولأن المعرض يتوق إلى الغوص بزوّاره داخل اختبار حيّ، بأخذه في عين الاعتبار حسّ اللعب والتناقض والمفارقة في ممارسة خان، يضعهم في البداية وجهاً لوجه مع منحوتة ضخمة له تحمل عنوان "بيغي، بيغي ذات الذراعين الطويلتين" (2019) وتمثّل شخصية الرسوم المتحركة الشهيرة "بيغي"، بأشكال طرية وغير متناسقة، قبل بلوغ مكان العرض حيث تُوزّع عشرات الأعمال بطريقة مبتكَرة، من بينها نماذج عن تلك التي أعاد الفنان فيها تشكيل - وتأويل - أعمال قديمة له.
فيديو وصور
ومن الأعمال المهمة لخان في هذا المعرض، نذكر تجهيز الفيديو "الموقع المخفي" (2004)، التجهيز الموسيقي "دوم طق طق دوم طق" (2005)، سلسلة صور "كتاب الأبجدية" (2006)، منحوتة "بنك بنيستر" (2010) أو الستار الضخم "كورتين ريميكس" (2021)... وجميعها يعكس بقوة أهمية الفضاء العام المشترك داخل فنه. فضاء مشحون بالأحلام والصراعات والتوترات. ثمة أيضاً أعمال تستحضر، بقوتها الشكلية القاطعة، دور الأتمتة (automatisation) في بيئتنا المعاصرة، مثل "جُمَل لنظام جديد" (2018)، وهي سلسلة منحوتات تحمل رسائل بحروف ضوئية، أو "أغنية الهيب هوب التي لا نهاية لها" (2019) وهو تجهيز صوتي مشيَّد بواسطة نظام خوارزمي.
ولمن يجهل هذا الفنان، نشير إلى أن عمله الديناميكي، منذ بداياته في القاهرة خلال التسعينيات، يتميّز أولاً بتنبّهه للفضاء العام والثقافات الشعبية، وأيضاً للتوترات التي تحدّد زمننا الراهن. عمل ينبع من أحلام ومصادر شخصية أخرى، ويحرر بمقاربته الماضي والحاضر شحنة سياسية وحسية. أما الدعابة وذلك الشعور بالغرابة داخل المألوف المتواتران داخله، فيحضران كأعراض للطاقات المعقّدة التي تنبثق من عالمنا الذي يعاني من قلقٍ معولم.
ومن هذا المنطلق نفهم الفيديو بالأسود والأبيض، "الصافِع وغطاء التخفي" (2015)، الذي نشاهد فيه مقابلة مثيرة بين الكوميديين المصريين توفيق الدقن وإسماعيل ياسين على مستوى لعبة تعابير الوجه المبالغ فيها وحركات اليدين والسقطات التي تستحضر فن الـ "بانتوميم". مقابلة تضفي المغالاة والتفخيم الميلودرامي لهاتين الشخصيتين فيها غرابة على مناخ الفيديو المقلِق وتعكّر متعة الكوميديا. ونتلقى هذا العمل، الذي تقع أحداثه داخل مسرح معتم وغير محدد، كحوار، أو بالأحرى، كمونولوغ مزدوج نابع من حالات سوء تفاهم بين شخصيتيه. وبمدّته القصيرة وعدد شخصياته المحدودة، يستحضر المسرح الوجودي. أما فراغ خشبة المسرح واللغة المباشَرة فيعززان حدّة مشهده وعنف الصراع بين شخصيتيه.
اللغة الحيوية
وكمحرّك أساسي للمفاعيل الهزلية، تحضر اللغة وأنظمتها المختلفة في أعمال أخرى لخان، مثل "الكلب الميت يتكلم" (2010) أو "كورتين ريميكس" (2020). مشغل أكدته الناقدة سارة نيل سميث في مقال لها حول الفنان، موضحةً أن أكثر ما يهمه في هذا السياق هو الجانب الاجتماعي للغة وانخراطها الحيوي داخل عالم اجتماعي ضمني تضطلع أحياناً بابتكاره.
وفي تجهيزاته الموسيقية، يستخدم خان تقنية الارتجال بمقطوعات موسيقية ملعوبة ومسجّلة مسبقاً، فيتلاعب بأصواتها ويخلطها، الأمر الذي يسمح له بإعادة تشكيل بنيتها ومزاجها وطاقتها، وبالنتيجة، بتركيز انتباهنا على حدة الأداءات وطبيعتها الشفائية. وهذا ما نستنتجه في أسطوانته "بنية كبرى" (2019) التي استثمر في أدائها مواد مستقاة من الجلسات التي تم خلالها تأليف موسيقى فيلم "جوهرة" (Jewel)، لكن بعد إعادة صياغتها وترتيبها.
وفي معرض تحديده طبيعة أعمال خان الموسيقية، لاحظ الموسيقي التجريبي وعازف السكسوفون الأميركي أندريه فيدا أن "التجربة الزمنية فيها تراكمية أكثر منها خطوطية. فكل لحظة تتحلل في اللحظة التالية مبددةً ذاكرة ما سبقها. تراكُم عابر يبدو مشحوناً بكمٍّ من الانفعالات ويعبّر عن حالة حيوية وحضور يتجاوزان السرد".
الأبعاد الثلاثة
أما التجهيزات والقطع الأخرى في المعرض، فتسيّر صوراً تبتكر فضاءها، فضاءً ثلاثي الأبعاد، وتقاوم عملية الإمساك بها وفقاً لقوانين ثابتة، ما يُشعر المتأمل فيها بضيقٍ لا يعادله سوى إثارة البحث وتعديل وجهة النظر لفهمها وإدراك علاقاتها في ما بينها. وأيضاً بين صورها ومقاييسها وأحجامها وماديّتها وطُرُق ابتكارها وابتكار الأوضاع الناتجة منها. من دون أن ننسى طبعاً عملية تفاعلها معنا، كمنحوتة "بطاريات سائلة 1ـ 5" (2019) التي تتألف من خمسة قضبان زجاجية، لكل منها شكله الخاص، والمصنوعة بالأدوات التقليدية لصانعي الزجاج، أو "أغنية الهيب هوب التي لا نهاية لها" التي تجاورها، وتتكون من مكبّرات صوت صغيرة تبثّ أصوات مغنيي "راب" ذكور وإناث، وفقاً لترتيب عشوائي يتحكّم به نظام خوارزمي يضفي صبغة ميكانيكية على هذه الأصوات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحضر أعمال خان داخل المعرض ضمن ترتيب يقارب الفضاء كوحدة متماسكة ويبرّز طابعه المديني. فضاء غير بديهي ومشدود على ذاته، تتفاعل الأعمال المتحرّكة والراكدة داخله، من تصميم إلى آخر، وفقاً لعملية ترابط وتفكّك تمنحنا الانطباع بأننا داخل غرفة أصداء. وما يعزز غرابته هو أرضيته المقسّمة إلى منصّات متفاوتة الارتفاع، يحضر على كل منها قطعة فنية أو عدة قطع تبدو وكأنها تنظر في اتجاهات مختلفة، ومن بينها تلك التي أعاد خان تشكيلها أو نقلها إلى ركائز وأحجام أخرى وفقاً لسيرورة أطلق عليها تسمية "ريميكس" (remix)، مثل "كتاب الابجدية" (2006 ــ 2021) و"حماقات الخنازير المتخمة" (2007 ــ 2021).
وضمن هذه السينوغرافيا المسرحية، تكتسب مجموعة أخرى، حديثة، من أعمال خان طابعاً مجازياً، مثل "قطعة كثيفة" (2013)، "بنك بانيستر" (2010) و"موسيقى مجرّدة" (2015) التي تجسّد حالات مادية غريبة لما هو مألوف. فبينما تحمل صفات الكثافة والضغط والكتلة بعداً سياسياً في العملين الأولين، يستحضر العمل الثالث خفّة الكتل الصوتية وشفافيتها، لكنه يحرّر أيضاً قوة ارتقاء شبه حربية.
تبقى الأعمال النصوصية الموزّعة داخل المعرض ــ قصص خرافية، قصائد، إشارات وامضة، حوارات على تطبيق "ريبليكا" المعلوماتي... ــ والتي تساهم، في نظرنا، في تعزيز مضمونه الشكلي والمفاهيمي الدقيق. وفي الوقت نفسه، تؤجِّج تلك الطاقة النقدية المستشعرة داخله التي يقابل خان بها عملية تنظيمه وسيرورة تأويل عمله الفني من خلاله.