لم تكن اللغة وحدها كافية للإنسان كي يعبر عن مشاعره وانفعالاته، فابتكر وسائل أخرى تسعفه في تجسيد ما يعتمل في دواخله، وكانت الحركة والرقص بعضاً منها. وزاد تنوع البيئات والثقافات من تباين الرقصات الشعبية حول العالم، لكن اختلاف البيئة والثقافة لم يكن وحده مسؤولاً عن اختلاف التعبير الحركي، بل إن فلسفة الرقصة والغاية منها، أثّرا أيضاً على شكل الحركة والإيقاع الموسيقي المصاحب لها، وهذا ما تجلى بوضوح في رقصة التنورة، التي لجأت إليها فرق المتصوفة، للتعبير عن ارتقاء الروح عن الجسد، في رحلتها إلى الماوراء. وعلى الرغم من النشأة التركية انتقلت الرقصة إلى مصر في عصر الدولة الفاطمية. وباتت معلماً ثقافياً، ارتبط بالقاهرة الفاطمية. وأصبحت وسيلة للبهجة، لا سيما خلال شهر رمضان، الذي يشهد زيادة إقبال الجمهور على حفلات التنورة.
التناغم مع الكون
يرجع أمير إمام مدير فرقة التنورة التراثية المصرية بدايات رقصة التنورة إلى المولوية والطريقة الصوفية، التي أسّسها جلال الدين الرومي، إذ كانت وسيلة لإحياء حفلات الذكر، التي كانت يقيمها الرومي، في تكيّة أنشأها لاستقبال الدراويش والفقراء وعابري السبيل.
ويقول: "تعتمد فلسفة الرقصة على فكرة الدوران الذي يمثل في الفكر الصوفي حالة من التناغم مع حركة الكون الدائرية. فالأرض تدور حول نفسها، وحول الشمس، وكذا تدور الكواكب حول الشمس".
ويضيف: "يسعى الصوفي في دورانه إلى السمو والارتقاء، فما يرتديه الراقص أو اللفيف (تنورة، عنتري، دفوف)، يرمز إلى الذنوب، لذا يتخلص من زيه أثناء الرقص، تنورةً بعد الأخرى، تعبيراً عن التطهر والتخفف من الذنوب، حتى يصل إلى (المدد)، أو ما يمكن تسميته ارتفاع الروح إلى السماء".
ويؤكد إمام أن كل حركة يقوم بها اللفيف تحمل معنى، "فهو حين يرقص رافعاً يداً إلى أعلى، ومادّاً الأخرى إلى الأسفل، يعبر عن التواصل بين السماء والأرض. وعندما يسرع في حركته، فهو يعبر عن شعوره بالسعادة، بينما يحيل وجوده وسط الراقصين، إلى حركة الكواكب، في دورانها حول الشمس".
أما المنشد فوظيفته، بحد قوله، "ترجمة مشاعر الراقص، وشرح حركاته بالكلمات، سواء تلك التي تعبر عن الألم والندم لارتكاب الذنوب، أو الحركات التي تعبر عن البهجة".
الموسيقى والألوان
وعن الموسيقى التي تصاحب الرقص يوضح إمام أن "الآلات التي تصاحب التنورة هي الآلات الشعبية، كالربابة والدفوف والناي والحانات. وجميعها مصنوع من خامات البيئة البسيطة، التي تتماشى مع فلسفة الزهد عند المتصوفة. كما أن الدفوف تزيد من حالة الدفء والخشوع".
الألوان أيضاً تؤدي وظيفة رئيسة في الرقصة، يشرحها إمام قائلاً: "لا تستخدم الألوان بطريقة عشوائية، وإنما تعبر عن أعلام الطرق الصوفية المختلفة، لذا تتنوع بين الأحمر والأزرق والأصفر. والجمع بين كل تلك الألوان معاً، يعبر عن تناغم الطرق جميعها". ويوضح أن الرقصة بعد أن انتقلت من تركيا إلى مصر، اكتسبت طابعاً خاصاً ومختلفاً. فتحول زي الراقص من الأبيض إلى الأخضر، ثم أدخلت أقمشة الخيامية بما تحتويه من زخارف، في التنورة التي يرتديها الراقصون.
ويردف: "لم يقف التطور عند هذا الحد، بل لحق بالرقصة تطور آخر. فظهرت التنورة الاستعراضية. ويبرر إمام هذا التطور، بالاتساق مع السعي لبعث البهجة. ورغبة العازفين والراقصين في استعراض مزيد من مهاراتهم، من طريقة حمل التنورة إلى طريقة الرقص بها". وهذا ما يفسر - بحد قوله - زيادة الإقبال على "حفلات الفرقة دون ملل من مشاهدة عروضها، لا سيما وقد أصبحت التنورة رمزاً ثقافياً شعبياً للقاهرة الفاطمية".
وحول الصلة بين التنورة وحفلات الزار المصري، يؤكد إمام أن الهدف من كليهما التطهير. فالتنورة تطهر الروح وترتفع بها، بينما يساعد الزار وإيقاعه الصاخب على تطهير النفس، والتخلص من طاقاتها السلبية.
وسيلة ارتقاء
من عازف على الدف والمزاهر، تحول تامر إبراهيم الشهير بتامر حصان، إلى لفيف. فكانت رقصة التنورة غايته منذ صباه. وقد دفعه حلمه للجلوس في صفوف جمهور الرقصة، طيلة سبع سنوات، داوم خلالها على زيارة قبة الغوري "مكان إقامة حفلات التنورة" في القاهرة الفاطمية. يقول حصان: "كنت أحضر حفل فرقة التنورة التراثية ثلاث مرات كل أسبوع، أي كل عروض الرقصة، ثم أذهب إلى البيت للتمرين على ما شاهدته، حتى أتقنت الحركات والحروف، وانتهى بي الحال عضواً في الفرقة".
ويصف رقصة التنورة بأنها وسيلة للتطهر والتداوي من الألم، مؤكداً كونها "حالة روحية خالصة تفصل الراقص عن العالم. وربما كان هذا – بحد وصفه - سر بكائه في كثير من العروض". وعن مقومات الراقص يضيف حصان: "اللياقة والكاريزما والحالة الشعورية والروحية، التي يدخلها اللفيف على المسرح، كلها مقومات للنجاح، وهي التي تميز راقصاً عن آخر". ويفسر زيادة إقبال الجمهور على عروض التنورة خلال شهر رمضان باتساق الحالة الروحية للرقصة مع أجواء الشهر الفضيل.
الجلابية والقفطان
مع التنورة وإلى جوار اللفيف والعازفين، يقف المنشد مرتدياً "الجلابية البلدي والتلفيحة والقفطان"، ليصبح وجوده جزءاً لا يتجزأ من المشهد الروحي، في اللوحة السماوية.
أشرف جمال، المعروف بـ"جميل جمال" المنشد في فرقة التنورة يقول: "ورثت هذه المهنة عن آبائي وأجدادي، فقد كان أبي منشداً دينياً، تعلمت الإنشاد على يديه، وورثت عنه أناشيده في مدح الرسول، عليه الصلاة والسلام، والتي ألّف بنفسه بعضها، واستمد بعضها الآخر من التراث. المنشد يترجم حركة الراقص بالكلمات، وحين تشكل اللغة عائقاً، عندما نقدم عروضاً في بلاد لا تنطق العربية، يتمكن الجمهور من فهم ما يقوله المنشد، من خلال حركات اللفيف. فكلاهما يشرح الآخر". وانطلق في إنشاده: "يا رب مالي غيرك سند ولا لي جاه... إلا أنت يا ربي ومحمد عريض الجاه...".
فتيات يرقصن التنورة
وعلى الرغم من قِدَم رقصة التنورة، لم يكن يؤديها إلا الرجال، ولم تعرف فرقها وجوهاً نسائية إلا أخيراً. وكان غياب العنصر النسائي دافعاً حفّز اللفيفة هناء مصطفى، المشهورة بـ"هنا شو" لاختراق هذا العالم، والمشاركة في أداء الرقصة، المقصورة على الرجال.
تقول "هنا شو"، البالغة من العمر 36 عاماً: "كنت أعمل بالفرقة القومية المصرية للفنون الشعبية، أؤدي كل رقصاتها الفلكلورية، مثل الرقص الصعيدي، والسمسمية، والحمصية، والرقص الإسكندراني، ثم لاحظت إحجام الفتيات عن رقصتين، هما التنورة، ورقصة "فتوات قبلي"، الأمر الذي زاد فضولي تجاه الرقصتين، لذا قررت أن أؤديهما. وبعد أن رقصت التنورة، اكتشفت أن هذه الرقصة هي التي أحب، فقمت باحترافها. وكان التحدي الأول أن قمت باللف لمدة ساعة متواصلة. وكنت حينها حاملاً في شهري الأول. وواصلت الدوران طيلة أشهر حملي، حتى الشهر السابع. وبعد 18 عاماً مارست خلالها رقصة التنورة، وجدت أن الجمهور الذي يراني للمرة الأولى دائماً ما يندهش، ويعتقد أن فتاة لن تقدم عرضاً بالمهارة نفسها التي يقدمها اللفيف الرجل. إلا أنه كان يبدل وجهة نظره سريعاً، بعد انتهاء العرض، معبراً عن استحسانه أداءها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وترى أنه "لا فرق بين راقص التنورة، وبين الراقصة، فكلاهما يمتلك المهارة، وأن المهارة لا علاقة لها بجنس اللفيف، بل بخبرته، وإحساسه، وقدرته على تطوير مهاراته". وتشبه شعور رقص التنورة بالتحليق في السماء. وتؤكد أن هذا الشعور، وهذه الحالة الروحية، كانا سرّ الصلة الوثيقة بينها وبين التنورة. وسبب إصرارها على الاستمرار في أدائها، بخاصة مع ولع الجمهور بها. فهذه الرقصة – بحسب قولها - تلغي الفوارق العمرية والثقافية والدينية ويقبل الجميع على مشاهدتها.
وفي عروضها، تؤكد "شو" حرصها على إبراز الطابع النسائي، سواء من خلال الزي أو الأكسسوار، وتحلم أن تؤسس فرقة مولوية نسائية، يكون كل أعضائها، الراقصين والمنشدين والعازفين، من النساء فقط.
طقوس البهجة
يربط الباحث خالد عزب بين الرقص الشعبي، وطقوس البهجة في الحضارات القديمة، مدللاً ببروزه في حفلات الزفاف، والمناسبات الدينية. ويؤكد أنه برز كوسيلة للتحايل على طول الليل، وللترفيه والتسلية. وهذا ما يفسر في منظوره، بروزه في سياق الحياة القديمة، أكثر من المعاصرة. ويُرجع عزب اختلاف رقصات الشعوب، بعضها عن بعض، إلى البيئة المحيطة والحرف المنتشرة فيها. وهذا ما بدا في تمايز الرقصات الشعبية الصينية عن الهندية، عن المصرية، وغيرها.
وعن رقصة التنورة يقول عزب: "في المنظور الفني تمثل التنورة نوعاً من أنواع الرقص. أما في المنظور الصوفي، فهي ليست حركات راقصة، وإنما هي تجليات. فالصوفي حين يتمايل يميناً ويساراً، إنما يتقرب من الأعلى. وحين يستخدم الدف، فإنه يختار الآلة التي لا تخرج عن سياق الطقس الديني، ولا تخلُّ به. وهذه التجليات هي التي انطلقت في تركيا. وحافظت على نمطها الصوفي الخالص. أما بعد وصولها إلى مصر، فتغير شكلها، ونحا باتجاه الفن والاستعراض. وهذا ما أراه أمراً طبيعياً، لأن الموسيقى وفنون الحركة – وفقاً له - في حالة دائمة من التطور".