أَججت تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن وجوب دفع دول الاتحاد الأوروبي مشترياتها من الغاز الروسي بالعملة الروسية، الروبل، الأوضاع وعقدت الأمور أكثر بإمكانية حصول أزمة في مجال الطاقة في الاتحاد الأوروبي، المستورد الأول للغاز الروسي.
وتوقع باحثون في شؤون الطاقة أن الحرب الروسية - الأوكرانية ستخلق أزمة طاقية شديدة على غرار أزمة النفط في عام 1973، إذ يتراوح سعر البرميل بسبب الحرب الدائرة حالياً في منطقة البحر الأسود، بين 110 و120 دولاراً، إضافة إلى ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي، المورد الأساسي للتدفئة في دول الاتحاد الأوروبي الباردة.
وسرعان ما دفعت هذه الوضعية الطاقية الجديدة دولاً مثل فرنسا وألمانيا المعارضتين بشدة للحرب والتدخل العسكري الروسي في أوكرانيا إلى التفكير في بدائل جديدة أو بالأحرى التفكير في التعامل مع أسواق جديدة تزودها بالغاز الطبيعي.
وقبل التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، كان الاتحاد الأوروبي يستورد 40 في المئة من حاجاته من الغاز من روسيا. وكانت ألمانيا الأكثر اعتماداً على الغاز الروسي الذي يمثل 55 في المئة من استهلاكها.
الضغط بواسطة الغاز الطبيعي
وكان بوتين أعلن أنه على الدول "غير الصديقة" أن تدفع ثمن واردات الغاز بالروبل من حسابات في روسيا تحت طائلة قطع الإمدادات عنها، وهو إجراء يطال بصورة خاصة بلدان الاتحاد الأوروبي. لكن يبقى أن سعر الغاز يجب أن يُدفع بالعملة المنصوص عليها في العقود، وهي في غالب الأحيان اليورو أو الدولار. وقال بوتين في تصريحات بثها التلفزيون بعد توقيع مرسوم بهذا الصدد، "عليهم فتح حسابات بالروبل في مصارف روسية، ستُسدد المدفوعات من هذه الحسابات مقابل عمليات تسليم الغاز اعتباراً من الأول من أبريل (نيسان) 2022".
وحذر الرئيس الروسي من أن التخلف عن الدفع بهذه الطريقة سيؤدي إلى "وقف العقود القائمة". وشدد بوتين على أنه "إذا لم تتم هذه المدفوعات، سنعتبر ذلك مخالفةً للواجبات من قبل المشتري، وستترتب على ذلك كل العواقب اللازمة".
وذكّر بأن "هذا الإجراء هو رد على تجميد حوالى 300 مليار دولار من احتياطات روسيا بالعملات الأجنبية في الخارج"، بموجب عقوبات اقتصادية ومالية أقرها الغرب إثر التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.
البحث عن بدائل جديدة
وضاقت دول الاتحاد الأوروبي، بخاصة تلك المعارضة للتدخل الروسي في أوكرانيا، ذرعاً بالتقلبات الحاصلة في أسواق الطاقة، لا سيما تطور أسعار الغاز الطبيعي وتأثيره على القدرة الشرائية لمواطنيها وزيادة أسعار المواد المستهلِكة للغاز والنفط الروسيين.
وعجلت هذه الوضعية المستحدثة، وتحسباً لأي تطورات أخرى، في بحث عديد من دول الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها ألمانيا وفرنسا، عن أسواق جديدة تزودها بالنفط والغاز ومشتقات الفوفسفات في السنوات المقبلة، في إطار تنويع الأسواق من جهة وعدم جعل نفسها "رهينة" للغاز الروسي من جهة أخرى.
دول المغرب العربي قد تستفيد
ومن ضمن الوجهات الجديدة التي قد تلتجئ إليها الدوال الأوروبية للتزود بالمواد الطاقية والمنجمية، دول المغرب العربي وأساساً الجزائر وليبيا ومصر وبدرجة أقل تونس والمغرب، التي قد تكون مزوداً رئيساً لدول شمال البحر الأبيض المتوسط نظراً لثقلها الطاقي، في ظل المشهد العالمي الجديد. وقد توفر بدائل أو أسواق دائمة لأوروبا لتزويدها بالمواد البترولية والمنجمية.
وفي خضم المخاوف من تأثير الحرب الروسية – الأوكرانية على موارد الطاقة في أوروبا، أعربت شركة النفط والغاز الجزائرية عن استعدادها لتزويد القارة العجوز بكميات إضافية من الغاز عبر أنبوب الغاز الرابط بين الجزائر وإيطاليا والمار عبر تونس، في حال تقلصت الصادرات الروسية.
وقال مسؤولون جزائريون، إن "شركة سوناطراك، ممون غاز موثوق بالنسبة إلى السوق الأوروبية، وهي مستعدة لدعم شركائها على المدى البعيد في حال تأزم الوضع". وأضاف أن "توفر كميات إضافية من الغاز الطبيعي أو المُسال مرتبط بتلبية الطلب في السوق الوطنية والالتزامات التعاقدية مع الشركاء الأجانب". وشددوا على أن "سوناطراك" "تملك قدرات تصدير غير مستغَلة عبر أنبوب "ترانسميد" الرابط بين الجزائر وإيطاليا مروراً بتونس، الذي يمكن استغلاله في زيادة الكميات نحو أوروبا".
وتخطط الجزائر لاستثمار 40 مليار دولار بين عامي 2022 و2026 في استكشافات النفط والإنتاج والتكرير، وكذلك استكشاف الغاز واستخراجه.
ويجتمع مجلس وزراء الطاقة في الاتحاد الأوروبي بشكل طارئ الاثنين المقبل، في بروكسل فيما تعتمد دول أوروبية عدة بشكل كبير على روسيا، للتزود بالغاز.
على تونس استشراف الأوضاع
وبإمكان تونس، على الرغم من صغر حجمها الجغرافي، أن تكون "لاعباً" مهماً في معادلة تزويد أوروبا وبقية دول العالم بالمنتوجات، وأن تكون بديلاً طاقياً وسياحياً لعدد من دول منطقة البحر الأسود.
وتزخر تونس بحقول مهمة من الفوسفات ذات الجودة العالية، يمكن أن تكون مزوداً رئيساً لدول عدة التي تجد صعوبات ظرفية وهيكلية في الحصول على الأسمدة الفوسفاتية والتي كانت تتزود من روسيا وأوكرانيا، وبإمكانها أيضاً أن تستفيد اقتصادياً من استقطاب الاستثمارات الخارجية المباشرة التي كانت ستتوجه نحو أوكرانيا، بخاصة روسيا، لا سيما وأن عديداً من العلامات التجارية الكبيرة والشركات الأوروبية قررت مغادرة روسيا، ويمكن أن تكون تونس قاعدة خلفية لعملياتها نظراً لقربها من أوروبا.
وبالنسبة إلى الغاز الطبيعي، فإن تونس قد تنتفع من الأنبوب الجزائري المار عبر أراضيها إلى إيطاليا، للحصول على امتيازات جديدة في حال مضاعفة الجزائر صادراتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا.
استقطاب الاستثمارات الخارجية
وأكد عبد الباسط الغانمي مدير عام وكالة النهوض في الاستثمار الخارجي التونسية (حكومية)، أن الحرب الروسية - الأوكرانية قد تؤثر على تدفق الاستثمارات الخارجية في العالم، بخاصة في تونس في ظل توجه الدول الأوروبية إلى تخصيص موارد مالية هائلة لإعادة التسلح، معرباً عن أمله في انتهاء الحرب في أقرب وقت وإحلال السلام في المنطقة.
وبين الغانمي أن "من ضمن سلبيات الحرب، إمكانية تغيير بعض أولويات الدول في استراتيجية استثماراتها الخارجية، لكن ممكن خلق بعض الفرص (مع التشديد على أنه ليس من دعاة الحرب) على غرار أن دول أوروبا الشرقية هي دول منافسة لتونس في استقطاب الاستثمارات الخارجية، ويمكن أن تحوَّل بعض المشاريع التي كانت مبرمجة في دول أوروبا الشرقية إلى دول جنوب حوض المتوسط ومن ضمنها تونس".
على تونس الاستفادة من الفرص
ويقول الباحث في الشؤون الاستراتيجية، رافع طبيب، إن بإمكان تونس أن تستفيد اقتصادياً وتجارياً من الحرب الروسية - الأوكرانية عبر قطاعين، الأول هو قطاع الفوسفات والثاني هو الغاز والنفط.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبين أن "سعر الطن الواحد من الفوسفات زاد في عام 2021 بنسبة 97 في المئة في الأسواق العالمية"، مؤكداً أن "الفوسفات التونسي يتمتع بجودة عالية ترفع سعره". وأضاف أن "دولاً مثل الصين والهند قررت الرفع من طاقة إنتاجيتها الفلاحية بما سيجعلها لاعباً دولياً بارزاً في مجال مشتقات الفوسفات والأسمدة الفوسفاتية"، لافتاً إلى أن "التزود من منطقة البحر الأسود سيكون صعباً، بالتالي فإن دولاً مثل تونس قد تكون بديلاً استراتيجياً لتزويدها بهذه المواد".
وكشف في هذا الصدد أن "الهند والصين اقترحتا على تونس إنجاز مشاريع مشتركة في شكل استثمارات خارجية مباشرة، لتطوير حقول الفوسفات"، لافتاً إلى أن الجزائر أبرمت عقوداً مع الصين لتطوير حقول الفوسفات بقيمة 7 مليارات دولار.
وأكد على أنه "من الضروري بالنسبة إلى تونس أن تنجز مخططاً جديداً لتنمية قطاع المناجم والأخذ بعين الاعتبار التغيرات الإقليمية والدولية الجديدة إلى جانب إنهاء حالة الاعتصامات والإضرابات المتكررة التي أنهكت الحوض المنجمي، أهم منطقة لإنتاج الفوسفات في تونس". وأعرب عن أسفه "لغياب الإرادة السياسية القوية لتطوير قطاع المناجم في تونس الذي يمكن أن يكون بمفرده أحد الحلول للخروج من الأزمة الاقتصادية، وأن يدر على البلاد موارد مالية كبيرة".
يُشار إلى أن معدل إنتاج تونس من الفوسفات الخام قبل عام 2011، كان في حدود 8 ملايين طن لينحدر إلى أقل من مليون طن، ما جعل تونس تعاني بشكل كبير من نقص في مواردها المالية الخارجية.
من جانب آخر، أبرز رافع طبيب أن "قطاع النفط يمكن أن يكون بدوره حلاً مهماً لحلحلة الأزمة الاقتصادية في تونس من خلال عملية تطوير الاستكشاف والتنقيب عن النفط".
وفسر المسألة بأن "الحرب الروسية - الأوكرانية ستجبر المستثمرين وكبريات الشركات العالمية على تسريع الاستثمار في الاستكشاف والتنقيب عن النفط في مناطق عدة من العالم، ومن أبرزها منطقة شمال أفريقيا ومن ضمنها تونس". ودعا في هذا الإطار الحكومة التونسية إلى استشراف الأوضاع بالعمل على فتح آفاق جديدة في مجال الاستثمار في الاستكشاف والتنقيب عن النفط والغاز عبر تغيير بعض القوانين المعطِلة.
وتابع الباحث الاستراتيجي تحليله للمسألة بالتأكيد على أن "الجزائر ستعمل على مضاعفة صادراتها من الغاز باتجاه أوروبا، الأمر الذي قد يعود بالنفع على تونس من خلال إمكانية رفع حصتها من أنبوب الغاز المار عبرها من الجزائر إلى إيطاليا".
وذكرت وسائل إعلام جزائرية أن تونس طلبت من السلطات الجزائرية زيادة حصتها من الغاز الطبيعي خلال فترة الصيف المقبل.
يذكر أن تونس تحصل على حصة مجانية من خط الأنابيب عبر المتوسط "ترانسماد" الذي يربط بين الجزائر وصقلية الإيطالية، ويعبر الأراضي التونسية، فيما تدفع نسبة مالية خاصة بالاستهلاك.
ولم يستبعد المتحدث ذاته أن يستفيد القطاع السياحي التونسي من النزاع الدائر في منطقة البحر الأسود من خلال إمكانية تحويل عديد من السياح الأوروبيين وجهتهم إلى تونس هرباً من الحرب الروسية – الأوكرانية، ما سيعود بالنفع على السياحة التونسية المحتاجة إلى جرعة أوكسجين لتجاوز تداعيات الأزمة الصحية التي كبدت ذلك القطاع المهم خسائر جمة.