في مقالين سابقين، عالجتُ مسألة الانحيازات المعرفيّة وتأثيرها في تفكير البشر. دفعني ذلك إلى التأمل في مسألة اخرى تتمثّل في تأثير الانحيازات المعرفيّة على الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence الذي ابتدأ حلماً في الخيال العلمي، ثم دخل مساراً جعله جزءاً من حياتنا اليوميّة. وحاضراً، نستعمل نُظُم الذكاء الاصطناعي في التفاعل مع هواتفنا الذكيّة، ويظهر ذلك في استخدامنا أجهزة المساعدة الصوتيّة مثل "آليكسا" Alexa و"سيري" Siri الموجودة في تلك الهواتف. وتستطيع سيّارات ذكيّة تصنعها شركة "تيسلا" تحليل معلومات عن الطرق التي تعبرها والأشياء المحيطة بها، كي تقود نفسها بنفسها.
كذلك تستعمل شركة "آمازون.كوم" الذكاء الاصطناعي في تحليل خياراتنا أثناء البحث عن الأشياء والسلع، كي تتوصّل إلى التعرّف على عاداتنا في التسوّق، وتالياً معرفة تفضيلاتنا في الشراء والتبضّع. وبالطريقة نفسها، يعمل محرك البحث "غوغل" على تحديد النتائج التي نعطيها أولويّة أثناء عمليات البحث عن المعلومات، كي يعطيها أولوية في الظهور على صفحاتنا.
لقد صار الذكاء الاصطناعي ومعادلاته الرياضيّة (تسمّى تقنيّاً خوارزميات Algorithms) جزءاً من مشهديّة الحياة المعاصرة، لكن ما نشهده ليس سوى البداية.
في المستقبل، سوف يغيّر الذكاء الاصطناعي كل شيء، فهل نرغب في ذلك حقاً؟
لنستهل النقاش بسؤال عن ماهية ذلك الذكاء. لنقل ببساطة أنه تقنية تشمل تجميع المعلومات عن العالم وأشيائه، ثم استعمال تلك المعلومات في صوغ توقّعات مستقبلية قريبة أو بعيدة الأمد، بشأن الناس والآلات.
لذا، عندما نتحدث عن حضور الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليوميّة، فنحن عمليّاً نتحدث عن كل شيء. يشمل ذلك ظهور كومبيوتر قادر على قراءة وثائق مكتوبة بخط اليد، وروبوت يُجري بنفسه عمليات جراحيّة معقدّة وبصورة مستقلة عن التدخّل البشري، وصُنع قاعدة بيانات مكثّفة تتضمن الصفات والسلوكيّات والسجايا الشخصيّة لكل فرد منا، استناداً إلى كل ما نقرأه أو نكتبه على الإنترنت.
ولأن عوالم الذكاء الاصطناعي فائقة الاتّساع، يجدر بنا إلقاء نظرة سريعة على أبرز الاختراقات العلميّة التي يُتَوّقَع أن يشهدها ذلك الحقل في مستقبل قريب، والتفكير أيضاً في تأثيرها على مجتمعاتنا، وإذا كانت ستشكل خطوة إلى الأمام أم ارتداداً إلى الوراء.
بداية، صار الذكاء الاصطناعي على أهبة الاستعداد لأخذ آلاف الوظائف، بل ملايينها، من البشر. وستُضحي قديمة أو آيلة إلى الزوال، كل الوظائف التي تقتصر على الحصول على معلومات من آخرين، ثم إدخالها في نظام لتخزينها وتحليلها. يشمل ذلك مثلاً، الصرّافين في البنوك، وعُمّال الاستقبال في ردهات الفنادق والشركات والمؤسسات، ومسوّقي البضائع عبر الإنترنت، وموظفي الشبابيك في البنوك الذين يتعاملون مباشرة مع الزبائن وغيرها.
في الذكاء الاصطناعي، ثمة مستويات عميقة تتمثّل في تعلّم الآلات Machine Learning والتعلّم العميق Deep Learning، وتشمل إعطاء الآلات الذكيّة القدرة على التعرّف إلى الأنماط، وكذلك مراقبة طرق تغيّر تلك الأنماط مع الوقت، إضافة إلى توصّل الآلات عبر التعلّم العميق إلى صوغ توقّعات وقرارات مستندة إلى تلك الأنماط. وستخسر مجموعات من البشر وظائفها مع تطوّر السيّارات الذاتيّة القيادة، وطائرات الـ"درون" المؤتمتة التي تُسَيّر نفسها بنفسها، والأنواع المختلفة من أدوات وآلات نقل الناس والبضائع من مكان إلى اخر. وينطبق ذلك مثلاً على سائقي الشاحنات والمركبات، وعمّال البريد، وناقلي البضائع وحتى عمّال توصيل الـ"بيتزا" إلى المنازل.
على نحو مُشابِه، تغدو المصانع مؤتمتة كليّاً، وكذلك الحال بالنسبة لأمكنة تنظيف السيّارات وصالات السينما.
في المقابل، مع تزايد انخرط المجتمع في التأقلّم مع عالم تُنجِزُ الآلات الخدمات فيه كليّاً، تنفتح أمام أجيال المستقبل آفاق لوظائف جديدة. يشمل ذلك وظائف تأليف برامج الكومبيوتر، تصليح الروبوتات وصيانتها، تطوير نُظُمٍ معلوماتيّةٍ وتحسينها وغيرها.
ويلفت أيضاً أن الآلات الذكيّة باتت مستعدة لتولي مجموعة من الوظائف المتّسمة بالخطورة المرتفعة. يشمل ذلك أعمال إطفاء الحرائق، والحفر العميق في البحار، وأشغال الإنشاءات والتعدين والمناجم وغيرها من المهن التي تتضمن حدوث معدلات عالية من الوفيات فيها، ويكون للآلات أن تتولاها من دون أن تمرض أو تتأذى.
الأرجح أنّه ليس واضحاً حتى الآن كيف ستكون عليه القوى العاملة المؤلّفة كليّاً من آلات الذكاء الاصطناعي، لكن كثيرين من خبراء الاقتصاد يتحدّثون بتفاؤل عن عالم أفضل حالاً وأكثر تألّقاً، في حال تولّت الآلات الأعمال الرتيبة والخطيرة.
ومع التعمّق في تحسين أداء الذكاء الاصطناعي، ينكشف أمام أعيننا أنه لن يكتفي بمجرد الحلول بدلاً من البشر، بل يستطيع التفكير بطرق يعجز الإنسان عنها.
ثمة خوارزميات متطوّرة تستطيع التعامل مع كميّات هائلة من المعلومات، وتتوصّل إلى استنتاج الأنماط الموجودة فيها، ما يجعلها (= الخوارزميات) على أهبة الاستعداد
لتغيير المجتمع. قد يبدأ ذلك بأشياء بسيطة مثل الملاحظة المستمرة لأنماط المواصلات ومدى جودتها، ثم التوصّل إلى معرفة أفضل الطرق التي يمكن سلوكها، وكذلك تحديد سُبُل إصلاح الطرق والتخطيط للأوتوسترادات. وسوف يمتد عمل خوارزميات الذكاء الاصطناعي إلى مناحٍ أكثر خطورة مثل رصد الأمراض والأوبئة، والتصدي لمكافحتها قبل انتشارها على نطاق واسع. كذلك بيّنت الخبرة أن الذكاء الاصطناعي يستطيع تحليل السلوك البشري، وتوقّع العلامات المُنذِرة بقرب حدوث سلوكيّات خطيرة عبر تحليل اللغة السائدة في أوساط مجموعات معينة من الناس مثل الإرهابيّين والمعتدين جنسيّاً. واستطراداً، يصبح ممكناً تنبيه القوى الأمنية بشأن أولئك الأشخاص كي تتخذ الخطوات الملائمة حيالهم.
من ناحية اخرى، من المستطاع استخدام تلك التقنيات نفسها لتتبع المعارضين السياسيّين، أو تقديم أخبار فائقة الزيف إلى مجموعات قابلة للتأثّر، مع صد أو منع الآراء والمعلومات الاخرى من الوصول إليها. وتسيطر مجموعة صغيرة من الشركات الاحتكارية الكبرى على التقنيات الذكيّة الأكثر تطوّراً في جمع المعلومات وتداولها وتحليلها.
وإذ نعقد الآمال على تمكّن الذكاء الاصطناعي من الإسهام في تقدّم مجتمعاتنا، إلا أنه من الممكن أن ينتهي به الأمر إلى العمل لمصلحة قلّة من شركات صناعة التقنيات، وألاّ يفيد سوى أولئك الذين يملكون القدرة على اقتناء المنتجات البديلة التي تُقَدّمها التقنيّات الذكية المتطوّرة، خصوصاً أن تلك البدائل ستكون أرخص من العامل البشري وأشد ذكاءً منه.
قد يلحق ذلك الأمر الضرر بالمجتمعات، لكننا حاضراً لا نعرف ما هو المستقبل الذي يحمله الذكاء الاصطناعي إلينا.