هل اتفقت الولايات المتحدة مع النظام الإيراني على تعليق المفاوضات النووية ومساعي إعادة إحياء اتفاق عام 2015؟ سؤال بات مسيطراً على جميع الأوساط الأميركية والإيرانية المواكبة لعملية التفاوض وما تشهده من تعقيدات وتشعبات في الأسابيع الأخيرة، التي برزت بشكل واضح مع القنبلة التي فجرها الموقف الروسي عندما طالب وزير الخارجية سيرغي لافروف بحصول بلاده على ضمانات مكتوبة بعدم شمول العلاقات الاقتصادية مع إيران بالعقوبات الدولية المفروضة على روسيا نتيجة حربها على أوكرانيا، وأن تُدرج هذه الضمانات في نص الاتفاق الجديد.
وعلى الرغم من سعي الطرفين، الأميركي والإيراني، لتجاوز هذه العقدة، بكلام أميركي عن استجابة مدروسة لهذا المطلب، بالتزامن مع جهود إيرانية لتفكيك الموقف الروسي وعدم تحوّله إلى عائق أو سبب في إفشال المفاوضات التي اقتربت من نهاياتها، إلا أن المفاوضات لم تحقق أي تقدم عملي وملموس منذ أكثر من شهر، ما يوحي بأنها دخلت في حالة من التعليق أو الإغماء برضا الطرفين، مع استمرارهما في محاولة تفكيك بعض العقد الشائكة والبحث عن مخارج لها بحيث لا تقف حائلاً أو حجر عثرة عند العودة إلى طاولة التفاوض مستقبلاً، وهي العقد المرتبطة بالمطالب الإيرانية التي تصفها طهران بأنها خطوط حمراء استراتيجية للنظام، والتي تعتبر واشنطن أنها من خارج المسائل التي تم التفاهم عليها وحلها في اتفاق عام 2015، أي أن طهران لا تملك الحق في عرقلة التفاوض بفرض مسائل من خارج الاتفاق السابق.
وتنظر واشنطن إلى الاتفاق النووي كحاجة وضرورة لتعطيل البرنامج النووي الإيراني وقطع الطريق على تطويره لمستويات عسكرية قد تفرض تحديات لا ترغب بها، وتتعامل مع العقوبات على بعض المؤسسات الإيرانية، تحديداً "قوة القدس" في "حرس الثورة"، كضرورة لكبح تصاعد النفوذ الإقليمي للنظام وتناميه باستخدام هذه الذراع الفاعلة وما تملك من جماعات موالية لها وتعمل بإمرتها أو بالتنسيق معها.
طهران، في المقابل، لا ترى في التشدد الأميركي حالة عداء محصورة ومقتصرة على العلاقة الثنائية بينهما، بل ترتبط بتشعبات المصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وجهودها لترتيب معادلات المنطقة تمهيداً لتطبيق سياستها الاستراتيجية بخفض وجودها العسكري والانغماس في أزماتها، من أجل التفرغ لمعالجة التحديات الاستراتيجية الآتية من شرق آسيا والخطر الصيني، إضافة إلى التعامل مع تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وتأثيرتها السلبية في دول حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي، المتضرر الأول من هذه الحرب وآثارها.
وعادت واشنطن إلى ممارسة مزيد من الضغوط على إيران لإجبارها على قبول ما هو مطروح على طاولة التفاوض، أي الاكتفاء برفع جزء من العقوبات التي سبق أن فرضها الرئيس السابق دونالد ترمب بعد عام 2018 والتي تصل إلى نحو 1600 عقوبة، بخاصة تلك التي وصفتها أو صنفتها إيران في خانة المصالح القومية والاستراتيجية التي تؤسس لبناء ثقة بين الطرفين وتساعد على توفير ضمانات بعدم عودة الولايات المتحدة إلى سياسة العقوبات أو اللجوء إلى الانسحاب من الاتفاق مجدداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كانت طهران اقتربت من دائرة القبول بالشروط الأميركية لإعادة إحياء الاتفاق، ووافقت على التقسيم الأميركي للعقوبات بين نووية وغير نووية ذات طابع يرتبط بانتهاكات حقوق الإنسان ودعم الإرهاب، فإنها لن تكون قادرة على تمرير فشلها في إخراج قيادة قوات "الحرس" و"قوة القدس" من العقوبات، داخلياً ودولياً، سياسياً واستراتيجياً، ما قد يدفعها للعودة إلى دائرة التشدد والتصعيد، ويضعها على حافة الانسحاب من التفاوض، بخاصة أن قناعة بدأت تتكون داخل الأوساط السياسية الإيرانية بعدم رغبة واشنطن بالتوصل إلى اتفاق في ظل انشغالها بمعالجة تداعيات الحرب الأوكرانية وإعادة ترتيب العالم ودورها الرادع من جهة، والضغوط الإسرائيلية وتنامي المخاوف لدى حلفائها في الشرق الأوسط من عودة طهران لتشكل تهديداً لمصالحها واستقرارها، طالما أن المفاوضات والاتفاق الجديد لم يستطيعا تفكيك منظومتيها النووية والإقليمية، من جهة أخرى.
تعليق المفاوضات أو الاتفاق على دعم الاتفاق، قد يدفع طهران والنظام للعودة إلى سياسة الالتفاف على العقوبات، مع رفع مستوى الضغوط النووية من خلال العودة إلى تفعيل أنشطة تخصيب اليورانيوم إلى مستويات تفوق المستوى الذي وصلت إليه حالياً (60 في المئة) والذي يضعها على مقربة من تحقيق "العتبة النووية أو الهروب النووي"، ما يعني الدفع باتجاه العسكرة العملية لبرنامجها النووي، وهو ما يشكل أحد أهم وأبرز مصادر القلق الأميركي والغربي والإسرائيلي.
عودة طهران إلى استخدام سياسة رفع مستويات التخصيب كورقة ضغط على القوى الدولية، تحديداً واشنطن لابتزازها بهدف تحقيق أهدافها، تعني المغامرة والمقامرة بكل الرهانات على نتائج الاتفاق المنتظر للخروج من دائرة العقوبات والانطلاق في عملية إعادة ترميم الاقتصاد الإيراني الذي وصل إلى مستويات خطيرة من التراجع والتأزم باتت تهدد بحدوث انفجار داخلي مع تزايد مستويات الفقر وعجز الدولة عن توفير حتى الحد الأدنى من متطلبات إدارة الحكومة، كحقوق الموظفين وأساسيات الحياة اليومية للمواطنين من الطبقات الفقيرة.
وينظر النظام الذي يحمّل الجانب الأميركي مسؤولية عدم التوصل إلى اتفاق سريع، إلى الخسائر التي تكبدها خلال الأشهر العشرة الأخيرة على الصعيد الاقتصادي. فعدم التوصل إلى اتفاق أسهم في خسارة إيران إمكانية الاستفادة من تداعيات الأزمة الأوكرانية، فضلاً عن استعادة موقعها في الأسواق العالمية للطاقة، ما أدى الى خسارة نحو 150 مليون دولار يومياً، ونحو 4.5 مليار شهرياً كان يمكن الحصول عليها فقط من عائدات بيع النفط، فضلاً عن عدم تمكّنها من استعادة الأموال المجمدة في البنوك الخارجية والتي تختلف التقديرات بشأنها، وأكثرها تشاؤماً تتحدث عن أكثر من 200 مليار دولار. لذلك، فإن استراتيجية النظام تتجه لتبنّي مبدأ "إما اتفاق يضع حداً نهائياً لكل مصادر التهديد، أو الاستمرار في الوضع القائم"، بانتظار التوصل إلى تفاهم يوفر مخرجاً لائقاً لتنازلات قد يكون على طهران وواشنطن تقديمها، منعاً للوصول إلى نقطة اللاعودة بينهما.