يروي ناحوم غولدمان في كتاب "المفارقة اليهودية" أن مؤسس إسرائيل ديفيد بن غوريون قال له عام 1956: "لا سبب يشجع العرب على إقامة سلام معنا. ولو كنت زعيماً عربياً لما وقّعت على شيء مع إسرائيل. نحن قمنا بالسطو على بلدهم. انتزعناه منهم. هو عندنا وعد الله لنا. ولكن، لماذا سيهمهم ذلك؟".
مع ذلك، استمر الفلسطينيون والعرب في البحث عن السلام مقابل الأرض، حتى في أيام الحروب الكلاسيكية وأيام المقاومة المسلحة داخل الأرض المحتلة ومن لبنان والأردن وسوريا ومصر. واستمر الإسرائيليون في إنكار الحد الأدنى من حقوق الفلسطينيين بإقامة دولة على ربع مساحة فلسطين التاريخية. لا معاهدات السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن ثم "اتفاق أوسلو" مع منظمة التحرير الفلسطينية قادت إلى "حل الدولتين". ولا "اتفاقات إبراهام" بين إسرائيل وكل من الإمارات العربية والبحرين والمغرب والسودان فتحت الطريق إلى دولة فلسطينية على الأرض بالمعنى الفعلي للدولة، لا على الورق كما تسمي السلطة الفلسطينية نفسها اليوم. ولا صواريخ "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في غزة التي انسحبت منها إسرائيل والمنفصلة عن السلطة في الضفة الغربية، كانت البديل من المقاومة الشعبية المنظمة للاحتلال.
ذلك أن العمليات الأخيرة التي قام ويقوم بها أفراد فلسطينيون ضد الإسرائيليين في تل أبيب وأماكن أخرى داخل الخط الأخضر والضفة الغربية هي تعبير عن الغضب من الاحتلال وعجز السلطة وفصائل المقاومة عن تغيير الواقع الاحتلالي. ومن المهم ألا يشعر المحتل بالأمان في أي وقت وأي مكان، حيث تعجز قوات الاحتلال عن منع عمليات الدهس والطعن التي يقوم بها أفراد ليسوا تابعين لأي تنظيم. لكن الأهم هو أن تكون هذه العمليات الفردية مقدمة لمقاومة منظمة تجبر العدو على الانسحاب. وهذا ليس في الأفق، وسط الحماسة الشعبية للعمليات، وإدانة السلطة لها على أساس أن "قتل المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين لا يؤدي إلا إلى مزيد من تدهور الأوضاع" فلا شيء يوحي أن هناك تخطيطاً للعودة المنظمة إلى المقاومة. ولا أحد يتوقع أن تقدم إسرائيل على التزام التسوية السياسية بحسب "حل الدولتين". إذ تحتج حكومة نفتالي بينيت بهشاشتها لأنها تضم ثمانية أحزاب من اليمين والوسط واليسار لكي تمتنع عن التفاوض على تسوية. وكل ما تفعله هو التهديد بـ"حرب طويلة وصعبة بلا حدود". وهو ما فعلته حكومات اليمين الخالص برئاسة بنيامين نتنياهو.
والسؤال هو إلى متى يمكن ضبط الأوضاع تحت الاحتلال، حيث لا مقاومة منظمة، ولا تسوية سياسية؟ والجواب مخيف، لأن التراجيديا الفلسطينية لا تزال منذ مئة عام بلا فصل أخير: رفض العرب قرار التقسيم عام 1947 لم يمنع اليهود من أخذ حصتهم. مقاومة المجاهدين ودخول الجيوش العربية في المعركة عام 1948 لم تمنع قيام إسرائيل. الحروب الكلاسيكية العربية ومعها عمليات المنظمات الفلسطينية من الأردن وسوريا ولبنان ومصر لم تحرر شبراً واحداً من أرض فلسطين، وإنما أدت إلى سيطرة الإسرائيليين على كل فلسطين التاريخية ومعها سيناء والجولان والقدس.
الولايات المتحدة الأميركية التي منعت غيرها من التدخل في"عملية السلام" فشلت في دفع إسرائيل إلى التسليم بالتسوية. الرئيس باراك أوباما تصور أن "قوة الإرادة" الأميركية كافية لتغيير الوقائع، وحاول ثم فشل. الرئيس دونالد ترمب حاول عبر صهره جاريد كوشنر ترتيب "صفقة القرن" والمقاربة الاقتصادية للحل، ثم فشل أيضاً. الرئيس جو بايدن يتحدث عن التزامه "حل الدولتين"، لكنه يقول إن هذا ليس على جدول الأعمال حالياً. حتى تقرير "معهد الأمن القومي" التابع لجامعة تل أبيب الذي حذّر من أن "اللاتسوية مع الفلسطينيين تعني حل الدولة الواحدة ونهاية إسرائيل كدولة يهودية ديمقراطية"، فإنه لم يهز شعرة في رؤوس القادة في تل أبيب.
والكل يعرف أن رفض إسرائيل حل الدولة الواحدة أكبر بكثير من رفضها حل الدولتين. لكن المفارقة أن السلطة الفلسطينية التي لم تحصل على الحد الأدنى بالتفاوض على الدولة في الضفة والقطاع تتحدث بلسان رئيسها محمود عباس عن خيارين أصعب بكثير: "العودة إلى قرار التقسيم الذي يعطي الدولة الفلسطينية 44 في المئة من مساحة فلسطين، والدولة الواحدة بحقوق متساوية للجميع". والسؤال هو أي تفاوض على أي حل في غياب أوراق القوة التفاوضية الفلسطينية التي هي المقاومة؟