فوجئ سكان مدينة بنغازي، نهاية الأسبوع الماضي، بتداول صور على مواقع التواصل للكاتدرائية الكاثوليكية، وهي واحدة من أهم معالم المدينة، وقد علقت عليها لافتة تقول "مسجد الإمام مالك بن أنس".
تحويل مبنى الكنيسة، كما تعرف في المدينة، إلى مسجد أثار جدلاً واسعاً بين المؤيدين للمشروع بحجج دينية، والمعارضين له باعتباره تعدياً على معلَم تاريخي بارز.
وتعتبر الكاتدرائية الكاثوليكية في بنغازي الكنيسة الوحيدة في ليبيا، التي صمدت في وجه التغييرات التي طالت نظيراتها بأنحاء البلاد، خصوصاً كنيسة طرابلس التي تحولت إلى مسجد في بداية السبعينيات من القرن الماضي.
كما تعد أكبر كنيسة في شمال أفريقيا من ناحية الحجم، وتم وضع حجر أساسها في 12 يناير (كانون الثاني) 1929، لتفتتح رسمياً في ديسمبر (كانون الأول) 1939، من قبل السلطات الإيطالية، في فترة احتلالها البلاد.
وكانت الكاتدرائية من أوائل المواقع التي زارها الزعيم الإيطالي الفاشي موسليني، أثناء زيارته الشهيرة لليبيا، في ثلاثينيات القرن الماضي، وتتميز بقبتيها النحاسيتين، إضافة إلى الصليبين اللذين كانا على القبتين، قبل إزالتهما على يد نظام القذافي، في بداية فترة حكمه للبلاد.
من كنيسة إلى مسجد
تحف الكنيسة عدة مبانٍ تاريخية في منطقة وسط بنغازي، التي تتميز بكثرة المعالم المبنية على الطرازين العثماني والإيطالي، من بينها قصر الجزيرة التاريخي والمنارة القديمة، وتطل على ميدان شهير، عرف بداية باسم "ميدان الكاتدرائية"، وفي عام 1962 أطلق على الميدان رسمياً اسم "ميدان الجزائر"، وفي الثمانينيات تحول الاسم إلى "ميدان الوحدة العربية". وتعد كاتدرائية بنغازي مثالاً رائعاً على فن العمارة الكلاسيكية الحديثة، حيث صممت على الطراز الكلاسيكي الجديد القائم على البازيليكا.
أثناء الحرب العالمية الثانية والقصف الشديد الذي تعرضت له المدينة، تضررت الكاتدرائية بعد قصفها في أكتوبر (تشرين الأول) 1940، من قبل سلاح الطيران البريطاني، لكن تم ترميمها في فترة لاحقة، وظلت تعمل حتى تم تحويلها في 1971 إلى مقر للاتحاد الاشتراكي العربي، بقرار من معمر القذافي، قبل أن يشب بها حريق في عام 1976 لتغلق لاحقاً حتى يومنا هذا.
قبل أشهر قليلة، نشرت بلدية بنغازي صوراً لمبنى الكاتدرائية تظهر بداية عملية ترميمه وتجديده، وسط أنباء عن نيتها تحويله إلى متحف أو مكتبة عامة، قبل أن تنتشر صور جديدة في الأيام الماضية تظهر لافتة معلقة حديثاً على مدخله، كتب عليها "مسجد الإمام مالك بن أنس"، ليشتعل الجدل بين رواد منصات التواصل الاجتماعي في ليبيا وبنغازي خصوصاً، حول حقيقة تحويل الكاتدرائية إلى مسجد من عدمه.
بعض الآراء اعتبرت تحويل مبنى الكاتدرائية التاريخي إلى مسجد يعد طمساً لتاريخ بنغازي، مشيرين إلى أنه من الأفضل أن تستغل لتكون متحفاً تاريخياً أو مكتبة عامة، بينما أيد آخرون قرار تحويلها إلى مسجد، في الوقت الذي لم تعرف الجهة التي قامت بتعليق اللافتة على مبنى الكنيسة.
رفض بلدية بنغازي
مع تصاعد الجدل بشأن الواقعة، التي تشي بنية جهة ما تحويل الكنيسة الكاثوليكية إلى مسجد، نفت بلدية بنغازي علاقتها بالموضوع، واستنكرت هذه الشائعات، مؤكدة أن "مبنى الكاتدرائية من ضمن المباني المتعاقد على ترميمها أخيراً".
وقال المكتب الإعلامي بالبلدية، في بيان، إنها "تعمل دائماً على الحفاظ على ذاكرة بنغازي التاريخية، التي مرت بها عبر جميع العصور التاريخية وفي كل عهود الحكم المختلفة، وأنها تضع ضمن برامج عملها ترميم المباني التاريخية باعتبارها إرثاً تاريخياً".
وبينت أنها "انتهت في الفترة الماضية من ترميم العديد من المباني التاريخية، منها منارة بنغازي والمجلس التشريعي البرقاوي سابقاً وبيت الثقافة (حوش الكيخيا)، وأن مبنى الكاتدرائية وقصر المنار ضمن المباني المتعاقد على ترميمهما عن طريق جهاز تنمية وتطوير المدن بالشكل المعماري الأصلي، من دون تغيير طرازهما بواسطة شركات إيطالية متخصصة".
وأكدت البلدية أنها "بصدد اتخاذ الإجراءات القانونية حيال إحداث أي تغييرات في مبنى الكاتدرائية"، وأهابت بـ"المواطنين كافة التعاون بشأن الحفاظ على جميع المباني التاريخية، وبالتالي الحفاظ على هوية المدينة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا للمساس بالمباني التاريخية
بدوره حذر جهاز إدارة المدن التاريخية، التابع للحكومة، "الجهات كافة من أي تصرف في مبنى الكاتدرائية بمدينة بنغازي، أو أي من المباني التاريخية في جميع أنحاء ليبيا من دون الرجوع إليه باعتباره الجهة المسؤولة قانونياً عن ذلك"، متوعداً المخالفين بـ"تحميلهم المسؤولية القانونية وملاحقتهم قضائياً".
وأشار الجهاز إلى "متابعة إدارته العامة ما أثير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وما جرى تداوله لدى بعض المدونين حول تحويل بمبنى الكاتدرائية بمدينة بنغازي إلى مسجد، وتعليق لوحة بشأن تسميته بمسجد الإمام مالك بن أنس".
ونبه الجهاز إلى أن "مبنى الكاتدرائية في مدينة بنغازي وكل المباني التاريخية تعد أملاكاً للدولة الليبية، يشرف عليها وعلى تسجيلها وتوظيفها الجهاز، وكذلك تحديد الأنشطة الاجتماعية والخدمية المزاولة بها التي نص عليها القانون، وتوثيق تاريخها".
الضجة الكبيرة التي أثيرت بشأن حادثة الكنيسة الكاثوليكية في بنغازي، بدأ صداها يصل حتى إلى خارج البلاد، بعدما طالبت المنظمة العربية لحقوق الإنسان، "النيابة العامة في المدينة بالتحقيق فيما أثير أخيراً بشأن تحويل الكاتدرائية التاريخية إلى مسجد".
وحملت المنظمة هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية في بنغازي المسؤولية القانونية لمخالفتها القانون، ودعت "مكتب النائب العام والسلطات المختصة بالمنطقة الشرقية لوقف عملية طمس جزء من تاريخ الأمة الليبية".
تاريخ تحت التهديد
وتعج مدينة بنغازي بالمواقع التاريخية بالغة الأهمية، التي تضرر بعضها جراء الحرب بين عامي 2014 و2017، حتى إن "منظمة صندوق التراث العالمي" صنفتها ضمن 25 موقعاً تراثياً ذا أهمية غير عادية لعام 2022، تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على نفسها.
وقالت مديرة الهيئة الليبية للمعماريين، سلوى بورقيعة، في تصريحات صحافية، إن "الهيئة تقدمت، مع جهاز إدارة المدن التاريخية، بمشروع ترميم المواقع التراثية ببنغازي القديمة لصندوق التراث العالمي، ويستهدف المشروع ترميم عدة مواقع من ضمنها ميدان السيلفيوم والمعروف بـ(ميدان الشجرة) والمباني التي حوله، لما لها من رمزية كبيرة سياسياً واجتماعياً وسياحياً واقتصادياً".
وأضافت بورقيعة، أن "الدور الرئيس لصندوق التراث العالمي هو الإعلان وجلب التمويل من الجهات المانحة والداعمة والمهتمة بهذه المواقع وتطويرها، وليس تقديم الأموال للجهات المحلية، ويعتمد اختيار المشاريع من قبل الصندوق على عدد من العوامل، منها الأهمية الثقافية للموقع، وحاجة البلد أو المنطقة المعنية له، والإمكانات العالية للحفظ المستدام من خلال مشاركة المجتمع المقيم من حوله".
وأشارت إلى أن "المشكلة الرئيسة التي تعاني منها الهيئة الليبية للمعماريين هي قلة الوعي من المواطنين بأهمية هذه المواقع والحفاظ عليها وحمايتها".
وكانت الحكومة الليبية، التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، رصدت 750 مليون دينار (64 مليون دولار)، لإعادة إعمار المواقع المتضررة بمدينتي بنغازي ودرنة، في أغسطس (آب) من العام الماضي، لكن هذا المشروع لم يبصر النور بسبب الظروف السياسية التي تمر بها البلاد، التي طال تأثيرها الحجر والبشر، وماضي البلاد وحاضرها ومستقبلها.