لم يتلمس لبنان بعد أي مفاعيل إيجابية للإجراءات الإصلاحية التي التزمت بها حكومته من خلال إقرار مشروع قانون الموازنة العامة أو خطة إصلاح قطاع الكهرباء الغارق في عجوزات مالية ضخمة كبّدت الخزينة على مدى العقدين الماضيين أكثر من 26 مليار دولار أميركي تشكل نحو 40 في المئة من حجم الدين العام، بل على العكس، لا تزال أجواء القلق تسود الأوساط الاقتصادية والمالية المحلية، بالتوازي مع مشاعر مماثلة في أوساط الصناديق والمؤسسات المالية والدول المانحة، أو مؤسسات التصنيف الدولية، التي لا تزال تتعامل بحذر مع المؤشرات الاقتصادية والمالية اللبنانية.
ويلاحظ أن التقارير الدولية تتوالى بوتيرة كثيفة، مشيرة في غالبيتها إلى استمرار تراجع الثقة بقدرات الاقتصاد اللبناني على النمو في المرحلة المقبلة. ويعكس هذا الواقع تقديرات النمو المتحفظة جداً لهذه المؤسسات، والتي تعبر في شكل واضح عن عدم ثقة بقدرات الاقتصاد على النهوض في ما تبقى من السنة الحالية لتعويض التراجع الكبير المسجل في العامين الماضيين.
ولعلها المرة الأولى منذ أعوام، تخرج توقعات النمو متقاربة وقريبة في الوقت نفسه من الواقع. وهي في مجملها تشير إلى حال الانكماش التي يشهدها الاقتصاد في ظل معدلات نمو تدور في فلك الصفر.
ففي آخر تقرير صدر عن البنك الدولي، توقّع أن تبقى نسبة النموّ الاقتصادي في لبنان خجولةً، على الرغم من ارتفاعها من 0.2 في المئة في العام 2018 إلى 0.9 في العام 2019، و1.3 في المئة في العام 2020، و1.5 في المئة في العام 2021، علماً أن هذه النسب قد تمّ تخفيضها مقارنةً بالتقديرات السابقة للبنك الدولي، والتي كانت تتوقّع نمواً بنسبة 1.0 في المئة في العام 2018، و1.3 في المئة في العام 2019، و1.5 في المئة في كلّ من العامَين 2020 و2021. ووفق البنك الدولي، فإن الآفاق الاقتصادية للبنان "ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتبنّي الناجح للسياسات اللازمة، والتطبيق الفعلي للإصلاحات، والدعم المالي الأجنبي ما يعيد ثقة المستثمرين والمستهلكين".
وفي السياق نفسه، خفّض مصرف "جي بي مورغان" توقّعاته للنمو الاقتصادي في لبنان للعام 2019 من 1.3 في المئة إلى 1.0 في المئة ، مقارنةً بـ1.1 في المئة للعام 2018 نتيجة الموازنة التقشّفية التي اقترحتها الحكومة في مشروع قانون موازنة العام 2019، متوقعاً في تقرير أصدره اخيراً حول "النظرة المستقبلية والخطط للدول الناشئة" أن يبلغ العجز في الموازنة نسبة الـ8.4 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2019، وأن يرتفع عجز الميزان التجاري إلى 22 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، نتيجة العجز الكبير في الميزان التجاري حالياً والبالغ 16 مليار دولار أميركي والفائض الطفيف في ميزان الخدمات والمتوقع عند 3 مليارات دولار. لكنه في المقابل، رأى أن مصرف لبنان لديه الإمكان على حماية سعر صرف الليرة اللبنانية وتأمين تمويل خدمة الدين على المدى القصير.
كذلك، لم يستبعد تقرير لـ "بنك أوف أميركا- ميريل لينش"، خيار التصحيح المالي الذي رأى أن الحكومة ستضطر له في السنوات المقبلة. وقال إن موازنة عام 2019 يمكن أن تشكل بداية لعملية تصحيح مالي يمتد على سنوات، وتؤشر الموازنة "إلى تجدد الشعور بالإلحاح السياسي لتبني الإصلاحات المالية واحتمال البدء في عملية تعديل مالي متعدّد السنوات، وذلك من أجل تضييق هامش الاختلالات المالية، ودعم إمكان صرف الأموال المعقودة في مؤتمر "سيدر".
وبعد ما كانت وكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيف الائتماني، توقعت ألا يكون خفض العجز في موازنة عام 2019 كافياً لاستعادة الثقة الخارجية، قالت وكالة "موديز" إن الموازنة التي تهدف إلى معالجة الوضع المالي من خلال خفض الإنفاق وزيادة الإيرادات، لن تحدث تغييراً كبيراً على الأرجح في مسار ديون البلاد، متوقعة أن يكون لخطوات رفع الإيرادات أثر محدود في ظل النمو الاقتصادي الضعيف. ولفتت إلى أن الانخفاض في معدل الأجور من الناتج المحلي الإجمالي لن يكون مستداماً، إلا في حال إجراء المزيد من التخفيضات في المستقبل. واختصرت الوكالة التحديات القائمة بأربعة: مستوى الدين العالي، العجز الكبير في الموازنة وفي الميزان التجاري، واستمرار الصراعات السياسية الإقليمية.
هذا على مستوى المؤسسات الدولية. أما في الداخل فقد بينت تقارير المصرف المركزي اللبناني تراجعاً في عدد من مؤشرات الاقتصاد الحقيقي التي تعكس النشاط الاقتصادي في البلاد. فقد تراجعت التسليفات المصرفية بنسبة ٤ في المئة في الفصل الأول من السنة، فيما تراجعت قروض مؤسسة "كفالات" التي توفر للقطاع الخاص ولا سيما المؤسسات الصغيرة والمتوسطة قروضاً مدعومة بفوائد ضئيلة جداً، إلى 3.5 مليون دولار. وتجدر الإشارة في هذا المجال إلى أن معدلات الفوائد على التسليف تصل إلى 14-15 في المئة، وهي معدلات تلجم النشاط الاقتصادي، والإنتاج وتدفع بالاقتصاد إلى المسار الريعي.
في المؤشرات أيضاً، تراجع حجم تسليمات الإسمنت بنسبة35.7 في المئة في الفصل الأول من السنة، وهذا المؤشر يعكس تراجع حركة البناء في البلاد. وهذا ينسحب أيضاً على القطاع العقاري الذي يشهد انهياراً في ظل الجمود الذي تشهده الحركة على صعيد البيوعات. وتكفي الإشارة إلى حجم الأموال المجمدة في هذا القطاع والبالغة نحو 22 مليار دولار للدلالة على حجم الأزمة القائمة.
الأرقام تظهر أيضاً تراجعاً في حركة الرساميل والتحاويل. ويكشف حاكم المصرف المركزي أنه فيما سجلت مجمل ودائع المصارف بما فيها مصارف الأعمال زيادة قدرها 1350 مليون دولار، تراجعت التسليفات ٤ ملايين دولار. وفيما تراجعت الصادرات 2 مليار دولار والتحويلات 2 مليار دولار، بقيت الواردات على مستواها بسبب استيراد النفط ومشتقاته فازداد عجز ميزان المدفوعات، الذي سجل 4 مليارات دولار في الفصلين الأولين 2019.
وفي حين يتم التداول بهندسة مالية ترمي إلى إصدار سندات خزينة بقيمة 8 مليارات دولار. يكتتب بها القطاع المصرفي بفائدة مخفّضة، من أجل خفض كلفة الدين العام، أكد الحاكم أن هذا الأمر غير مطروح، وصرَّح بذلك مرّات عدة في وسائل الإعلام أخيراً "إذ لا سيولة لدى المصارف تكتتب بها ولا قدرة لها على أن تتحمل الاكتتاب بفوائد خارج آليات السوق". وكان وزير المال علي حسن خليل، قد كشف عن سعي الحكومة إلى إطلاق سندات خزينة بقيمة 11 ألف مليار وبفائدة 1 في المئة، في مسعى من الوزارة إلى توفير ألف مليار ليرة (حوالى 660 مليون دولار) من خدمة الدين العام، ولكن خليل لم يقدّم أي إيضاحات حول هذا الإصدار المرتقب بعد إقرار موازنة 2019 وسبل التمويل، وأقفل الكلام في هذا المجال بعدما رفضت المصارف الأمر.