مُدرِّسي في المرحلة الإعدادية، مطربٌ مشهور، هو الفنان عطية مُحسن، من درَّس لي التاريخ والمجتمع، وفترة انقلاب الملازم معمر القذافي في سبتمبر (أيلول) 1969، صدحت بأغنية "على شط الحرية رست مركب ثورتنا"، ما كانت تُذاع في كل مناسبة، وحتى من دون أي مناسبة. بعد عقود من الزمان وسقوط القذافي، أمسى "شط الحرية" اسماً لحلقات تمثيلية رمضانية كوميدية، من تأليف وإخراج فتحي القابسي، وتمثيل ثُلّة من ممثلي المسرح في مدينة أجدابيا، المدينة الصحراوية التي تقع قرب آبار النفط، وعلى مسافة 160 كيلو متراً من مدينة بنغازي.
هذه الحلقات الرمضانية في موسمها الرابع، لفت الأنظار نجاحُها في جذب جمهور ليبي واسع، وحتى غير ليبي، وككل عمل يشيع، أثار زوبعةً من النقاش والتعليقات، خصوصاً على السوشيال ميديا، ما صارت الحائط الذي يجمع المتخصصين بغير المتخصصين.
النقاش الذي أثاره هذا العمل التلفزيوني لم يتخطَّ التعليقات، لكن هناك نزراً يسيراً حلّل هذا العمل، فلاحظ أن العمل قائم على حد أدنى من الإمكانات، وأنه يتّسم بتيمات مُكرّرة، وأن المكان أرض شبه صحراوية يُدعى "مقلب الشراب"، تعيش فيه جماعة من البدو لا حول لهم ولا قوة، وهم يفتقرون لأبسط وسائل العيش الحديثة، وهناك منهم من يعيش في خيم تقليدية ليبية، ومنهم من يعيش في غرف من الزنك. وعلى الرغم من هذا الفقر المُدقع هناك مدرسة للأطفال. كما أن المجتمع المتناول من المؤلف، ذكوري محض، حيث لا وجود للمرأة البتّة. وهكذا يزعم "شط الحرية" أن "الحرية الإنسانية يمكن أن تتفتح في أسر حياة من الكدح والفقر والبؤس"، ومن جهة فنية فالحقيقة، أن فقر العمل قد تم تجاوزه بغنى الأداء.
لكن على الرغم من هذا الفقر والبساطة، والحياة المفارقة للمجتمع الليبي الحالي، فإن الصدى الذي قوبل به "شط الحرية"، يشبه الاحتفال، ما يُثير التفكر في دلالاته. فالدالُّ يُؤمي بالتفكُّر في العمل الفني وفي حال ما يعيشه الليبيون حالياً، وكأن ثمّة علائق مسكوتاً عنها، تستدعي مثل هذه المقاربة، أي إنه على الرغم من التباعد الظاهر، على مستوى الشكل بين المجتمع الليبي حالياً، وبين الحالة المجتمعية التي يتناولها العمل الفني "شط الحرية"، فإن هناك مشتركاً قوياً يفضح ما يحسه المشاهدون، فلا غرو أن الحياة التي يعيشها أولئك المشاهدون، فقيرة، بل ومدقعة سيكولوجياً، ما يدفع إلى الحنين لماضٍ يبدو جميلاً، باعتباره مجتمع الكفاف، ومحدودية المعارف وإمكانية المقارنة، لغياب الوسائل للمعرفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أثناء مشاهدتنا "شط الحرية"، فإن ما يحدث على الأرض الليبية يبدو كأنه مسلسل كوميدي، لدرجة أنه من الصعوبة تصديق ما يتناقل من أخباره. فإن كان هناك حكومتان في البلاد، فكل منهما تدّعي الشرعية، ورئيس الحكومة المعترف بها دولياً، يشتري شباب البلاد بالادّعاء أنه سيوزع المال كمُهور زواج للشباب العزاب، مع إيقاف الطيران في داخل البلاد، وإغلاق الموانئ النفطية، أما رئيس الحكومة الممنوحة الثقة من مجلس النواب، فيقوم بالاجتماع بالفاعليات السياسية والمجتمعية خارج البلاد، وأثناء هذا الانقسام القوة المسلحة تهدد الأمن شبه المستتب، لكن من يشاهد محطات التلفزيون الليبية، أو من يقوم بسياحة في الأسواق ومن يتابع دعاية سلعها، سوف يرى أوضاعاً عادية، ومفارقة للوضع السياسي ما يبدو أنه لا يتغير منذ سنوات، على الرغم مما يظهر من اجتماعات واجتماعات مضادة، وعلى الرغم من الاهتمام الإقليمي والدولي، والأمم المتحدة من تعتقد أن الأميركية ستيفاني وليامز، بدرجة ساحرة مختصة في الشأن الليبي.
شط الحرية الليبية، مشهد كوميدي بامتياز، كل شيء فيه يبدو على الرغم من واقعيته غير حقيقي. فالواقع السياسي يجعل من ليبيا مسرحاً لكوميديا سوداء. وقد تناول "شط الحرية" التمثيلي في حلقة منه هذه الحال، عند جعله مجنون النجع يهيمن على النجع بقنبلة يدوية من البلاستيك، هي مجرد "لعبة". ومن هذا ففي تقديري، أن الليبيين قد انتابهم شعور من يشاهد نفسه على الشاشة الفضية، في عمل "شط الحرية" الشط المغبون، ما الحرية فيه أن تعيش على الكفاف.
لكن هذا "الشط" كغيره من أعمال، يبين أن التلفزيون أداة ترفيهية فحسب، ليس عندنا، ولكن حيث ثمّة تلفزيون. ويثبت هذا تناول الكثير من فلاسفة ومفكري الغرب، في مباحث معمقة، منها ما اختص بالبحث في عصر الصورة إجمالاً، ثم أُكِّد ذلك من آخرين، من اختصوا بالبحث في التلفزيون، ما وصم بأنه صندوق العجب، ما حسبه أن يوفر التسلية، وقبل المعلومة كالأخبار التي تنقل كمادة خام، أما إن تم تحليلها، فذلك يكون على عجل لضيق الوقت!