بحرقة الدموع ونقمة الرصاص، ودعت عائلة الحموي الرضيعة تالين ووالدتها الشابة سارة طالب في طرابلس اللبنانية، الاثنين 25 أبريل (نيسان). وشهدت الجنازة ظهوراً مسلحاً وإطلاق نار كثيف، ترددت أصداؤه في أنحاء عاصمة الشمال. تزامن ذلك مع تشييع الشابة خديجة النمر التي توفيت بغرق القارب، فيما يستمر البحث عن ابنها أمير الذي ما زال في عداد المفقودين. وتتحدث أوساط الأسرة عن أوضاع نفسية سيئة يعيشها الأب الذي أرسل عائلته للانضمام إلى عائلة شقيق خديجة المقيم في ألمانيا.
بعد ساعات، تكرّر المشهد في تشييع الطفل بهاء الدندشي والشاب رياض الدندشي، إذ شهدت طرابلس توتراً استخدمت خلاله الأسلحة الآلية. وقد انضم هؤلاء الضحايا إلى بهاء مراد الشاب العشريني الذي شيّع الأحد في منطقة القبة.
أظهر هذه المشهدية الحنق المكبوت في الأنفس، وإمكانية الانهيار السريع للأوضاع الأمنية في لبنان، وكذلك ضرورة الإسراع في التحقيقات لجلاء الحقيقة. ذلك أن رواية الحادث التي تقاطعت على ألسنة عدد كبير من الناجين، حمّلت القوات البحرية اللبنانية مسؤولية غرق الزورق قبل دقائق من مغادرته المياه الإقليمية اللبنانية. وترجم هذا الحنق في منطقة القبة والبقار برد فعل عنيف ضد ثكنة الجيش، حيث هاجم محتجون حاجزاً وتم تحطيمه، وعرقل محتجون حركة التعزيزات الأمنية التي أرسلها الجيش إلى المنطقة.
إلى هذا، ينتظر أهالي الضحايا نتيجة التحقيق الذي وعدت الجهات الرسمية بإعلان نتائجه في أسرع وقت ممكن. في وقت يبرز التخوّف من المماطلة في التحقيقات ريثما يتم امتصاص الغضب وتتراجع النقمة الشعبية، على غرار ما حصل مع التحقيقات في تفجير مرفأ بيروت، في 4 أغسطس (آب) 2020، وانفجار صهريج المازوت في عكار، في صيف 2021. ويُنتظر إبداء مدى تأثير هذا الحدث في الانتخابات النيابية المقررة في 15 مايو (أيار) المقبل، ذلك أن بعض ردود الفعل انصبت على اللوحات الإعلانية للمرشحين التي تم تمزيقها في الساحات الرئيسية بالمدينة.
البحث مستمر عن ناجين
33 شخصاً هو عدد المفقودين الذين ينتظر أهاليهم جلاء مصيرهم. في وقت تستمر أعمال البحث عن ناجين قبالة شاطئ الميناء في طرابلس شمال لبنان. ويوضح مدير مرفأ طرابلس أحمد تامر أن "مكان غرق القارب والحطام معروف للأجهزة التي تستمر بالبحث، ولكن طبيعته الجغرافية تعرقل الوصول إلى القارب الغارق، فهي على بعد 9 أميال من الشاطئ وبعمق لا يقل عن 400 متر". وهذا العمق، وفق تامر، "ليس من السهل الغوص إليه".
أما على ضفة العمليات الطبية، فيؤكد ناصر عدرة مدير المستشفى الحكومي أنه لم يتم استقبال أي جثة يوم الاثنين.
ويشارك سلاح الجو في الجيش اللبناني، وطرادات القوة البحرية، في عمليات البحث عن المفقودين. وأصدرت جهات بيانات نعي للمفقودين، بلدة البيرة في عكار، نعت الضحية خديجة النمر وابنها أمير الذي يؤكد يوسف وهبي (من بلدية البيرة) أنه ما زال في عداد المفقودين، والبلاغ الذي صدر سابقاً بشأن التعرف إلى جثته لم يكن دقيقاً، إضافة إلى حنان مرعب وطفليها، ومها مرعب وطفلها، والصيدلية سمر قالوش. أما مدرسة رسول المحبة في منطقة جبيل، فنعت 3 أخوة سوريين جاد ومحمد وماسة، الذين ركبوا زورق الهجرة مع والدتهم رهام دواليبي، وما زال هؤلاء جميعاً في عداد المفقودين.
في الانتظار
على ضفة المنتظرين، تتكرر القصص ويتفاوت منسوب الأمل بين الفينة والأخرى. من بين هؤلاء مروة السلوم، الشابة العشرينية التي تنتظر معرفة مصير خطيبها محمد طالب الذي غادر برفقة عائلته، وما زال مصيره مجهولاً، إضافة إلى والديه منذر واكتمال وشقيقه الأصغر عدنان، فيما نجا اثنان من أشقائه. وتشير مروة إلى أنها "تتابع عمليات البحث ولكن لا نتيجة". وتعتبر قصة مروة ومحمد من أقسى القصص، فقد أعلنا خطوبتهما قبل 3 أيام من غرق القارب، وغادر هو لبنان من أجل تحسين أوضاعه في الخارج وتأسيس أسرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهتها، تنتظر عائلة متلج عودة ابنها هاشم، بعدما غادر مع مجموعة مؤلفة من شقيقته آلاء وزوجها لؤي واثنتين من أسرة لؤي. عاد العروسان لؤي وآلاء أحياء من القارب، فيما تُنتظر عودة الآخرين. يمثل هاشم نموذجاً للشبان الذين ركبوا القارب، فهو شاب في 23 من عمره، تخرج من الجامعة باختصاص "الغرافيك"، إلا أنه لم يجد فرصة عمل في لبنان، فقرر الانضمام إلى قافلة القارب من أجل الوصول إلى أوروبا، عسى أن يتمكن من تحسين أوضاعه. ويقول جلال متلج (عم آلاء وهشام)، "لماذا يجب أن يبقوا في لبنان؟ هنا تغيب الخدمات الأساسية، لا ماء، لا كهرباء، لا دواء، وكذلك لا شغل. لم يعد لدى الناس ما تأكله"، مضيفاً أنه "لا يلوم هؤلاء الذين خرجوا، فهو لو كان بإمكانه الخروج لخرج، كما أنه كان يحضّر لإرسال ابنه ولكن لم يفلح في ذلك.
ويلفت متلج إلى أن العائلة عقدت قران آلاء ولؤي قبل يومين من السفر، "هما عريسان"، وقررا الذهاب من أجل بداية حياة جديدة، لأن "لبنان ليس مكاناً قابلاً للحياة"، مضيفاً "دولتنا إن لم تقتلنا ها هنا، تقتلنا في عرض البحر". ويكرر متلج الرواية القائلة بتعرض قارب المهاجرين للصدم قبل دقائق من مغادرة المياه الإقليمية اللبنانية.
الرواية
تتكرر رواية حادث الغرق على لسان الناجين الذين يتمسكون باتهام طراد القوات البحرية بصدم الزورق لمرتين وصولاً إلى إغراقه. المرة الأولى في المقدمة، والثانية في المنتصف. الأمر الذي أدى إلى انشطاره إلى نصفين وغرقه بلمح البصر، بحسب رواية الناجي م.ح.
وهذا ما تنفيه قيادة القوات البحرية في الجيش اللبناني، التي اتهمت ربان القارب غير الشرعي بمحاولة الهرب، وقيامه بصدم قارب تابع للجيش اللبناني. وبحسب قيادة القوات البحرية، فإن هذا الأمر يخالف عقيدة الجيش اللبناني، ولولا وجود القوة البحرية في المكان لما تمكن من إنقاذ 45 شخصاً من الناجين، لأن حمولة القارب الزائدة كانت ستتسبب بغرقه.
ويؤكد ناجون أن الزورق كان مهيأ للسفر مسافات بعيدة، وكان يُفترض الوصول إلى إيطاليا خلال 6 أيام. وهو مجهّز بجهاز gps، وهاتف ثريا، إضافة إلى كمية كبيرة من الفيول "حوالى 30 ألف ليتر في غالونات بلاستيكية على سطح القارب".
ويروي ن.ح أن مسار القارب كان سلساً، وكانت على مشارف مغادرة المياه الإقليمية اللبنانية، عندما اعترضهم بداية زورقان صغيران تابعان للجيش اللبناني، ومن ثم طراد كبير، لاحقهم وطلب منهم العودة. ومع إصرار الركاب على متابعة طريقهم، بدأ الضابط بتهديدهم وكيل السباب لهم. وما هي إلا لحظات حتى تعرض للصدم على مرحلتين، وكانت النتيجة غرق القارب ووقوع المأساة.
عاد الشاب إلى طرابلس من طريق المرفأ، إلا أن الحادثة ما زالت في ذاكرته. يتحدث عن ضيق كبير أثناء رواية الأحداث، فهو لم يتمكن من النوم بسبب الصور التي يتذكرها، ويخشى عدم عودة "إخوته"، في دلالة منه على شدة الروابط بين أبناء الحي الذين خرجوا معاً نحو إيطاليا.