يتردّد صدى مطرقةٍ تضرب الحجارة في أرجاء مخيّم اللاجئين المترامي الأطراف. خارج كلّ خيمةٍ تقريباً، تتراكم أكوام من حجارة الباطون المحطّمة لتظهر العمل الدؤوب الذي حصل خلال الأيام القليلة الماضية. التقينا صلاح مصطفى المنهك القوى. وهذا اللاجئ السوري البالغ من العمر 35 عاماً هرب إلى لبنان قبل خمس سنوات، وهو أحد آخر الاشخاص الذين انتهوا للتوّ من هدم جدران منزلهم.
وأثناء استراحته، يقول صلاح "بنيت هذه الجدران لأبقي والدتي دافئة. كانت تعاني من مشاكل في كليتيها ولهذا كانت تشعر بالبرد أكثر من أيّ شخص آخر. ولكن حتّى مع الجدران، برد الشتاء لا يُحتمل".
من المتوقّع أن يكون الشتاء القادم أسوأ بكثير على عائلة مصطفى وغيره من آلاف اللاجئين السوريين هنا في بلدة عرسال اللبنانية الحدودية حيث أمضوا أياماً في هدم الجدران الصلبة لموائلهم بهدف حمايتها من الهدم الكامل.
فالجيش اللبناني لوَّح بتدمير أكثر من خمسة آلاف موئل من موائل اللاجئين شُيِّد مخالفاً لأنظمة الحكومة اللبنانية. ويواجه أكثر من 25 ألف شخص خطر التشرّد في حال نُفّذت خطّة الهدم. وأثار التحذير موجة من التحرّك من قبل الرجال والنساء والأطفال الذين حملوا المعاول والمطرقات لهدم جدران الاسمنت إلى ارتفاعٍ أقلّ من متر واحد.
وقالت نهلا عمّار، ربّة منزل من حلب تبلغ 48 عاماً "استغرقني الأمر ثلاثة أيام. زوجي متقدّم في السنّ ومريض ولهذا اضطررت إلى القيام بذلك بنفسي"، كما أضافت وهي تلوح بيديها المكسوّتين بالغبار.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الظاهر، لم تكن هذه الحادثة سوى تطبيق متأخر لقوانين البناء التي كانت سارية منذ سنوات. ولكن بالنسبة إلى عدد كبير من السوريين في لبنان، ما هي الحملة في عرسال سوى تذكير آخر بهشاشة وضعهم ومشقة التعامل اليومي مع مسائل شائكة في بلدٍ اختلطت فيه شؤون السياسة بالإغاثة الإنسانية.
بعد مرور ثمانية أعوامٍ على اندلاع الحرب الأهلية المدمّرة في سوريا، لا يزال أكثر من مليون لاجىء عالقين هنا طيّ النسيان، وهم يخشون العودة إلى وطنٍ تنهشه النزاعات حيث التجنيد القسري والاعتقالات التعسّفية أمران شائعان.
أتت الحادثة بعد بضعة أيامٍ على إجبار 600 لاجئ على مغادرة ملاجئهم في بلدة دير الأحمر في سهل البقاع عقب مشادةٍ مع الأهالي.
وعلى الرغم من المخاطر الواضحة، يتعاظم الضغط على السوريين لحملهم على العودة. وتتزايد عمليات الإخلاء وغارات الجيش على مخيمات اللاجئين مع فرض البلدات حظر التجوّل خصوصاً على السوريين فيما تكررت دعوات الوزراء والسياسيين لهم بالعودة إلى ديارهم.
وشكّل الاقتصاد المتدهور عاملاً إضافياً في إلحاح هذه الدعوات، غير أنّ أصل المسألة يعود إلى خوف عميق وتاريخي من تسبب بقاء اللاجئين السوريين باختلال التوازن السكاني الهش.
ويرى محللون أنّ هذا الخوف أصبح ركن سياسة فعليّة انتهجتها الحكومة للحؤول دون شعور بالاستقرار وإقناعهم بالعدول عن البقاء هنا بشكلٍ دائم.
ويقول د. ياسر ياسين مدير البحوث في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية "إنّ ما يحصل في عرسال هو جزء من استراتيجية شهدناها في لبنان على مرّ الأسابيع القليلة الماضية وهدفها الضغط أكثر على اللاجئين السوريين لحملهم على المغادرة. إنّها سياسة تقضي بخلق بيئة معادية للاجئين السوريين".
ولكن مصطفى يقول أن هذا القلق في غير محله. "لم أفكّر يوماً بالبقاء هنا. فسأذهب حيثما يتواجد الأمن والسلام. وهذا الأمر ينطبق على جميع الآخرين".
يعيش مصطفى وأسرته في ملجأ صغير مع والدته ووالده. وقام بإضافة الجدران على منزله المؤقّت عام 2015 عقب شتاءٍ قاسٍ في السهل حيث تقع منطقة عرسال.
خلال تلك الأشهر، كان الثلج يغطّي البلدة باستمرار ويدفن الخيم ويتسبّب بانهيار الأسقف. وساهم وجود مصنع حجارة قرب المخيّم في مبادرة عدد من اللاجئين إلى التحرّك وبناء جدرانهم الخاصة.
وتصف ليزا أبو خالد، متحدّثة باسم مفوضية شؤون الاجئين في الأمم المتحدة الشتاء في عرسال قائلة "تتدنى درجات الحرارة إلى ما دون الصفر وتهب رياح عاتية وتنهمر أمطار غزيرة والثلوج تتسبب بفيضانات وتسرّب للمياه وإلحاق الضرر بالملاجىء." وأضافت قائلةً: "تحتّم على بعض اللاجئين في عرسال أن يشيدوا بنى متينة في ملاجئهم لحماية عائلاتهم من عناصر الشتاء القاسية. وشُيدت هذه الأساسات نتيجة تفاهم مع أصحاب الأراضي ولم يعلم اللاجئون بأنها تشكّل خرقاً للقوانين اللبنانية".
وتمكّن معظم سكّان المخيّمات غير الرسمية في عرسال من إصلاح ملاجئهم تماشياً مع الأنظمة. فيما تحتّم على بعضهم مغادرة منازلهم.
تقف فاطمة حمّود، 25 عاماً، وهي أمّ لأربعة أولاد، أمام جدارٍ بارتفاع الخصر كان يشكّل مأواها في وقتٍ سابق. كانت أساسات هذا الموئل قائمة قبل أن تنتقل إليه وكانت من الاسمنت بالكامل، ولهذا لم تتمكّن من إجراء التعديلات عليه.
أجهشت بالبكاء عندما تذكّرت كيف سارعوا الى خطوات لتجنّب التدمير الكامل لمنزلها. وأردفت قائلةً فيما يلعب أولادها في المكان الذي كان، الى وقت قريب، ملجأهم "سمعنا بشأن الهدم التي أعدت له الشرطة. شعرت بالخوف من أن يقوم [الجيش] بذلك، لهذا قررنا المبادرة إلى الهدم في اليوم التالي. جمعت أغراضي وقام زوجي وصديقه بهدمه. فضّلنا إزالة نصفه عوضاً من أن نخسره كلّه".
انتقلت حمّود إلى ملجأ قريب مجاور. وستعود إلى منزلها الأول مجدداً عندما تجد ما تحتاج إليه من خشب وبلاستيك لبناء سقف جديد. ولكنها قلقة بشأن فصول الشتاء القادمة. "لا يسعني التفكير في ذلك حتّى. فنحن لم نتمكّن من تدفئة المنزل مع جدران، فكيف سيكون الأمر مع ألواح أو سواتر؟".
وتثير هذه المسألة قلق المجموعات الإنسانية أيضاً، إذ يقول هانس بدرسكي، مدير مؤسسة الرؤية العالمية World Vision في لبنان والتي تعمل في أصقاعه: "مع تأجيل الهدم الآن، ما يثير قلقنا هو قدوم فصل الشتاء. فقد عانى اللاجئون خلال الشتاء الماضي حتّى مع الجدران الصلبة، ومع ذلك تمكّنت مياه الأمطار من التسرّب إلى منازلهم ولم تتمكن أسقفهم من الصمود في وجه الثلوج".
ليس بعيداً من موئل فاطمة حمّود، يتسلّق علي شحادة، 28 عاماً، سلّماً ثبّته على جدران بيته. بالأمس، كان ارتفاع جدران منزله يبلغ المترين واليوم أصبح ارتفاعها في موازاة خصره. وتقوم عارضاتٍ خشبيّة هشّة بمساندة السقف. ويقول شحادة، وهو أب لولدين هرب من سوريا خلال سنته الثانية في كليّة الحقوق: "بوسعنا التأقلم ولكن الأمر سيكون صعباً." يعمل علي اليوم في مجال البناء حين تسنح له الفرصة ولكن العمل يتضائل. "يصبح الأمر أكثر صعوبة على جميع اللاجئين. نحن نعتبر كل هذه الأمور بمثابة إشاراتٍ مفادها أن علينا العودة إلى الوطن، على الرغم من أنه لا يزال غير آمن".
مع ذلك، يعود بعض السوريين إلى بلادهم. ففي شهر مارس (آذار)، أعلنت السلطات اللبنانية أن أكثر من 170 ألف لاجئ قد عادوا "طوعياً" إلى بلادهم منذ ديسمبر (كانون الأول) 2017. لكن جماعات حقوق الإنسان تساءلت عن مدى طوعية هذه العودة.
وفي تقرير صدر يوم الأربعاء، قالت منظمة العفو الدولية إن اللاجئين في لبنان "يُدفعون للعودة إلى سوريا بواسطة مزيجٍ من السياسات الحكومية المتشددة والظروف الإنسانية القاسية والتمييز المتفشي".
وذكر التقرير هجوماً على مخيّم غير رسمي في بلدة دير الأحمر قام به أبناء البلدة ووصفه بأنّه "مثال واضح على تصاعد العداء الذي يدفع بالعديد من اللاجين إلى مغادرة لبنان".
واشتعلت التوترات في البلدة مع اندلاع حريق في المخيّم في 5 يونيو (حزيران). وأُفيد بأن اللاجئين تشاجروا مع رجال الإطفاء بعد أن اشتكوا من وصولهم بعد فوات الأوان.
وقالت منظمة العفو الدولية " في وقت لاحق من تلك الليلة، وصل ما لا يقل عن 50 رجلاً وبدأوا في مهاجمة المخيم، وأضرموا النار في ثلاث خيمٍ واستخدموا جرافة لاقتلاع اثنتين".
وقالت ديانا سمعان، الباحثة في منظمة العفو الدولية في سوريا "أدت الغارات المتكررة على مخيمات اللاجئين في عرسال والاعتقالات الجماعية في السنوات القليلة الماضية إلى خلق بيئة من الخوف والترهيب، مما جعل حياة اللاجئين أكثر صعوبة".
على الرغم من كافة الصعوبات التي يواجهها لبنان، لا يزال السوريون على غرار مصطفى يفضّلون ذلك على التواجد في زنزانة في سوريا. غير أنّ ذلك لم يمنعه من الحلم بمنزله "كان كالجنّة. كنّا نزرع الياسمين وكافة انواع الأزهار والأشجار المثمرة والزيتون. كانت حياة سعيدة".
© The Independent