"حتى في الموت يوجد أغنياء وفقراء"، كانت هذه كلمات الحاج عبد الرزاق، 65 سنة، وهو يقترب من مقبرة "الصديق" بضواحي مدينة الرباط المغربية، باحثاً عن "القبر المتواضع" لابنه المتوفى وسط القبور المزدحمة، قبل أن يقف ملياً أمام "قبور باذخة" مبنية بالرخام الرفيع، وبقع أرضية مخصصة لمقابر عائلية بأسعار مرتفعة.
ويبدو أن الأمر يتجاوز مسألة التصنيف الاجتماعي وفق منطق "فقراء وأغنياء" في القبور والمدافن، ليصل إلى خضوع "طقوس الموت" لهيمنة المال والتجارة و"البزنس"، وتصبح "التجارة في الموت" طاغية أو في الأقل مخترقة، في كثير من الأحيان، للمشاعر الإنسانية الحزينة الدفينة التي يخلّفها فقدان عزيز أو قريب، وتتخذ "التجارة في الموت" مستويات مختلفة بالمغرب، فهناك التجارة في نقل الموتى إلى مراقدهم تحت التراب، وهناك "بزنس" في الدفن وما يرافقه، كما أن هناك تجارة على مستوى تموين وتأثيث حفلات العزاء، ما يجعل من هذه التجارة "اقتصاداً قائماً بذاته".
نقل الأموات
يستحضر العم عبد الرزاق كيف مرت طقوس دفن ابنه الذي توفي في حادثة سير قبل سبع سنوات، في أجواء بسيطة من دون مغالاة ولا بذخ وصرف أموال طائلة سواء في نقله إلى المقبرة أو دفنه أو تجهيز قبره، ويقارن الرجل جنازة وطقوس موت فلذة كبده بما شاهده بأم عينه قبل سنتين، عندما وقف على جنازة جار له قبل أشهر قليلة، كلفت أكثر من ثمانية آلاف درهم (800 دولار) كمصاريف نقله من مدينة قريبة إلى المدينة التي دفن فيها.
"نقل الموتى" يعد تجارة مربحة، ويوضح محمد بن زروال، مدير شركة لنقل الأموات بمدينة مراكش (جنوب)، كيف أن شركات نقل الأموات استفادت خصوصاً من وباء كورونا في تحصيل عائدات مالية وصفها بالمحترمة، ويشرح المتحدث ذاته أن تكلفة نقل الميت من مدينة إلى أخرى، لا سيما عند ارتفاع أعداد ضحايا الجائحة، ارتفعت بشكل كبير، وأنها تبدأ من ألف درهم (عشرة دولارات) وقد تصل إلى أكثر من 15 ألف درهم (1500 دولار)، وفق معيار القرب أو البعد، وأيضاً، حسب الكيلومترات التي تقطعها سيارة نقل الأموات.
وفي الوقت الذي لا يخفي فيه مدير الشركة حقيقة الأرباح الكبيرة التي يجنيها المستثمرون في هذا المجال، خصوصاً في النقل بين المدن، تعالت الانتقادات من طرف أحزاب سياسية ومنظمات حقوقية، منها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي انتقدت ما سمته "الابتزاز وفرض مبالغ خيالية لنقل الأموات بالبلاد"، وتبعاً لأكبر جمعية حقوقية في البلاد، فإنه يتعين على الدولة والمؤسسات الاجتماعية المتدخلة ضبط ما وصفته بالفوضى في هذا القطاع، وتنظيمه وفق معايير قانونية محددة، وفرض تعريفة (أسعار) معقولة في متناول مختلف الفئات الاجتماعية، بما فيها الفقيرة.
دفن بالملايين
وبعد نقل الميت، تصل مرحلة دفنه في قبره، وهنا تتدخل التجارة، إذ ليست تكاليف كل القبور متساوية، فهناك القبر "العادي" الذي يكلف زهاء 500 درهم (50 دولاراً) في بنائه، وهناك القبر الذي تصل تكلفة بنائه إلى أكثر من 20 ألف درهم (2000 دولار)، وفق إفادة المعطي صبار، مسؤول الدفن في إحدى مقابر العاصمة الذي أوضح أيضاً أن "القبر الباذخ" يتضمن الرخام الرفيع الإسباني أو الإيطالي أو حتى التركي، حسب رغبات وطلبات أسرة المتوفى، مضيفاً أيضاً أن هناك قبوراً تكلف أكثر من غيرها، بخاصة تلك التي توجد قرب مخرج المقبرة، أو التي توجد في "الشوكة" (أي القبر الذي يوجد في المنعطف وليس مجاوراً للقبور)، متابعاً أن مثل هذه القبور تكلف مالياً أكثر من غيرها لمكانها الاستراتيجي، ووفق المتكلم نفسه، فإن المقابر العائلية لديها أسعار خيالية، مثل المقبرة التي تضم ستة قبور للأسرة الواحدة في مساحة لا تتجاوز 30 متراً مربعاً، يناهز سعرها 90 ألف درهم (تسعة آلاف دولار)، والتي تأوي تسعة قبور تتجاوز 160 ألف درهم (16 ألف دولار)، لافتاً إلى أن "القبور العائلية" عادة لا تكون إلا في المقابر المعروفة في المدن الكبرى، "لأنها هي التي يقصدها الأغنياء".
تجارة تزدهر بوفاة الأغنياء
"شركات الرخام والزليج هي المستفيد الأكبر من بناء القبور لفئات من المغاربة الميسورين"، يؤكد محمد مجدولين، الباحث في الاقتصاد الاجتماعي، مبرزاً أن هناك أنشطة تجارية خاصة في بناء القبور وشواهد القبور التي تتضمن نعي واسم الميت وسنة ولادته ووفاته وآية قرآنية أو دعاء بالرحمة، تكون منقوشة بالرخام الباهظ، ويرى الباحث الاقتصادي أنه يمكن تسمية مثل هذه التجارة التي تتركز داخل أسوار المقبرة "اقتصاد الموت"، فهو اقتصاد مزدهر يشتغل وفق وتيرة الموت، هل هي مرتفعة أم منخفضة، ونوعية الذين وافتهم المنية، ولاحظ مجدولين أن "جائحة كورونا أسهمت في اغتناء أصحاب مثل هذه التجارة، بالنظر إلى تسببها في وفيات إضافية إلى الوفيات الاعتيادية الأخرى، وبالتالي فهي تجارة تنتعش بانقضاء أعمار الأغنياء"، ويرى المتحدث أن ظاهرة بناء القبور، وتشييد مقابر عائلية، ترتبط بالعائلات الغنية أو العائلات "التاريخية"، باعتبار أن الأسرة تفضل جمع رفات أهم أفرادها المتوفين، بخاصة الآباء والأجداد والأبناء إذا توفوا، في بقعة أرضية واحدة، من أجل تفادي التجول داخل المقبرة والبحث عن قبور الأقرباء.
"حفلات عزاء"
وبعد دفن الميت، تأتي مرحلة تنظيم مناسبات العزاء، وهنا يصل المستوى الثالث من "تجارة الموت"، وتتخصص شركات تجارية وخدماتية في تنظيم وتموين ما يشبه "حفلات العزاء"، تكاد تضاهي "حفلات الزفاف"، تقول السيدة راضية (54 سنة) إنها حضرت ذات ليلة "مناسبة عزاء" لأسرة ميسورة لأحد معارفها، لتندهش من مظاهر البذخ وأنواع الأكل والشرب والتنظيم، بل من حضور فرقة معروفة للتراتيل والمدائح النبوية، ووفق السيدة، فإن حفلة العزاء المذكورة حضرتها سيدات بأبهى الألبسة التقليدية المغربية، "كما تذوق فيها المعزون ألذ الحلويات وأطيب الأكلات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الكلام أكده فؤاد سميرس، مدير شركة تموين وتنظيم حفلات، وقال إن الشركة تستجيب لطلب أسرة المتوفى الذي عادة إما أنه من يكون قد أوصى بإكرام المعزين قبل وفاته، أو أسرة الفقيد التي ترغب في إظهار معزتها له من خلال الاحتفاء بالمعزين، مضيفاً أنه في العادة يكون اليوم الثالث بعد وفاة الفقيد هو اليوم الذي يتم فيه تقديم الأكل والشرب وفق طلبات الزبون (أسرة المتوفى)، مشيراً إلى أنه أحياناً تصل تكلفة الليلة الواحدة أكثر من 30 ألف درهم (ثلاثة آلاف دولار).
التباهي الاجتماعي
وفي قراءة سوسيولوجية للتجارة في الموت، قال الباحث والأستاذ الجامعي إدريس الغزواني إن العالم الذي نعيشه عرف تغيرات كثيرة، أهمها الانتقال إلى فضاء تحكمه عناصر مادية استهلاكية بالأساس، "حتى طقوس الموت المحملة بما هو رمزي بشكل كبير، أصبحت تهيمن عليها هذه العناصر المادية"، مردفاً أن "هذا التغير جعل الاستثمار في ما بعد الموت مسألة حيوية لبعض الأشخاص والشركات التي جعلت من الموت فرصة لمراكمة رساميل اقتصادية"، وتابع المتحدث نفسه أن "الجنائز أصبحت تسهم في الدورة الاقتصادية، وتستنجد بعض الأسر بخدمات بعض شركات التموين لتنظيم (حفلات) التعزية على غرار حفلات الزفاف"، مشيراً إلى أن "هذه الظاهرة تبقى حبيسة فئات تعيش وضعاً اقتصادياً واجتماعياً مريحاً". وقال أيضاً، "من جهة، تدعي هذه الأسر أنها لا تملك وقتاً للسهر على (حفل) التعزية، إذ إن وقتها مخصص لتلقي التعازي، ومن جهة أخرى، وسّع ممونو الحفلات من هامش عملهم الربحي الذي كان محصوراً في ما قبل في الأعراس وبعض الولائم الخاصة".
من الناحية السوسيولوجية أيضاً، تابع الغزواني، يمكن القول إن إدراك أو الوعي بطقوس ما بعد الموت من الناحية الدينية أصبح يخفت بخاصة لدى بعض الفئات الميسورة، وهنا يتم النزوع إلى أبعاد ثقافية جديدة لا صلة لها بالأبعاد الدينية في ما يتعلق بمرحلة ما بعد الموت، سواء على مستوى التموين، وعلى مستوى بناء القبور من طرف حرفيين في البناء والزخرفة، وذهب الغزواني إلى أنه "أكثر من ذلك، هناك عنصر التباهي حول (أفضل جنازة) بين بعض الفئات، وهذا منطق مستمدّ من حفلات الزفاف التي غالباً ما تباهى مقيموها في ما بينهم من ناحية طبيعة الأكل واسم الممون ومكان إقامة الحفل".