مهما بدا الأمر وعلى أي وجهة كان، لن ننجو، أبداً، ونحن نتحدث عن الاجتماع السياسي للسودانيين، بعد ثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 وبعد 30 عاماً من تداعيات تخريب نظام الإخوان المسلمين عبر الأيديولوجيا التحريفية للإسلام السياسي في السودان للواقع السياسي والاجتماعي، إذا لم ننبه، باستمرار، إلى أن ذلك الواقع هو أقرب للتسميم المميت لأحوال السودانيين منه إلى أي شيء آخر.
وهذا سيجعل من المتعين علينا أن نعتبر ذلك التوصيف الذي خرب به الإسلاميون حياة السودانيين بمثابة المبدأ التفسيري الذي لا بد منه كتوصيف للأحوال، قبل الخوض في تبيان جوانب الخراب التي نتطرق إليها بالتحليل من معطيات ذلك الواقع، وبحيث يمكننا القول إن اعتقادنا ذلك أيضاً هو بمثابة إعادة تعريف ضرورية لذلك الواقع بوصفه قرينة خراب الإسلاميين، حتى لا تنطلي علينا سرديات وكليشيهات يتم الحديث خلالها عن سودان متخيل وبطريقة قديمة وحالمة أكثر من كونها واقعية، طريقة هي بالضبط رهينة ذلك الخراب الخطير الذي سمم به الإسلاميون الاجتماع السياسي للسودانيين طوال ثلاثين عاماً.
لقد بدت خطورة الأمر حيال فظائع ذلك الواقع إلى درجة يمكن القول معها إن التزييف والتخريب نالا من كل شيء تقريباً، بحيث سيصبح من العسير جداً لأي مواطن سوداني صالح أن يتبنّى مواقف وطنية بسيطة ومنزهة عن القبائلية والانتماءات الضيقة من دون أن يدفع ثمناً غالياً لذلك، من الطعن في شرفه الوطني الذي سيأتيه من أقرب الأقربين إليه، تارة بوصفه خائناً للقبيلة، أو خائناً للمنطقة، أو خائناً للطائفة. هذه هي الحقيقة التي تتجلى لنا اليوم بوضوح في فعاليات واقع سوداني يمور بالاضطراب في مجاله العام بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين أول) الماضي.
يقول الأستاذ عبد الخالق السر: "مشكلة تديين الفضاء العام أنه يلقي بثقله ونفوذه على الكافة: فهو أداة ابتزاز وترهيب للآخر المناوئ، من خلال تحويل الفضاء العام إلى سجن ثيولوجي أيديولوجي واسع ينخفض فيه سقف حرياته بشكل كبير، لأنه عرضة للرقابة الأخلاقية نتاج تحول سلوكيات التدين المتغطرس إلى معيار".
ويضيف "تديين أو أسلمة الفضاء هو الأخطر في مشروع الحركة الإسلامية السودانية والإسلام السياسي في عمومه، لأنه يعمل على مستويات عدة: فهو من جهة، يعمل على هيمنة وسيطرة الخطاب الديني بتحويله إلى لغة يومية غير مفكرة، تعزز من تنميط المتواضعات الدينية وتحويلها إلى ثوابت وإكراهات ومعايير تصعب بمرور الوقت مساءلتها أو الالتفاف عليها، وذلك لتسهيل الإيهام بأن هناك دولة دينية على أرض الواقع. كذلك يعلي هذا الخطاب من النعرة الدينية للغالبية العظمى من المتدينين، ويجعلهم ينصّبون أنفسهم أمناء ورقباء ومسؤولين عن استمرار هذه الدولة "الدينية"، وهذا مدخل واسع للتدين المتغطرس، المستخف، بوعي أو من دونه، بكل مواريث وقيم الدولة ونظمها وقوانينها، كما هو حادث الآن. إضافة إلى ذلك، فإن تديين الفضاء العام هو الأقل تكلفة والأكثر أثراً وفاعلية في مشروع الإسلام السياسي، لأنه ينطوي في كلياته على القوى "الناعمة"، الناجمة من الحميّة الدينية للأفراد، وقدرتها على تأجيج العاطفة والشعور الديني لديهم، وتحويله إلى سلوك ابتزازي يجعل من المعيار الشخصي للتدين قانوناً يجب أن يحتذى، حتى لو كان مخالفاً للنظم والقوانين التي تسيّر المؤسسات، ومن ثم، فهو مدخل للتطرف والعصبية الدينية العمياء التي لا تعترف أو تقرّ بحقائق الواقع، خصوصاً في بلد متعدد ومتنوع العقائد والثقافات، كالسودان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويمكننا أن نضيف بالقول: إن هذا الفضاء العام الذي فخخه الإسلاميون جلب - إلى جانب التدين المزيف - آفة أخرى لا تقل خطراً عنه، لا سيما في الهوامش والأقاليم، هي آفة العصبية العنصرية عبر تسييس الإدارة الأهلية، خصوصاً في شرق السودان حيث كانت سطوة القبيلة هي الحاكمة، ولكن نظام تسييس الإدارة الأهلية أضاف أضعافاً مضاعفة للسطوة القديمة، فقد أصبحت آفة العصبية القبائلية اليوم في شرق السودان هي الخطر الماحق والمهدد بحرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
إن خطورة اشتغال النظام القديم للقبيلة (نظام ما قبل الدولة الحديثة) الذي بعثه الإخوان المسلمون إلى الساحة السياسية للالتفاف على ولاء أبناء القبائل - عبر كسب ولاء نظارهم بالترغيب والترهيب - كان هو (وباعتراف القيادي الإخواني البارز في نظام البشير أمين حسن عمر) الشر المستطير الذي خرَّب المجال العام كما لم يُخَّرب من قبل. إن خطورة نظام القبيلة تكمن في أنه متى ما تم الزج به ثم تحكّم في إدارة واقع سياسوي للمجال العام، فإن علة الخراب ومنبع الفساد المدمر سيكمنان في تأطير رؤيته للواقع السياسي بمنظور القبائلية التي سيتم إسقاطها كنموذج تعريفي بالضرورة. ومن هنا، سيكون التبديل المضلل للمفاهيم بحيث سيتم تعريف المواطنة بالانتماء القبلي والوطن بحواكير أراضي القبائل، والولاء لناظر القبيلة، وهي كلها تعريفات خطيرة ومدمرة للاجتماع السياسي ومخربة لمفهوم الوطن بمعناه الحديث.
وأبرز تجلٍّ لهذا الوعي الشقي لمنظور القبائل في العمل السياسوي يتجلى في شرق السودان عبر نشاط ما يُسمّى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا"، الذي يقدم أمينه السياسي أغاليط قبائلية مضللة، عبر إعادة تعريف عنصرية لمفاهيم مثل: الوطن، الانتماء للمواطنة بفذلكة بائسة يتم بها خداع البسطاء من أهلنا البجا لتوريطهم في معارك خاسرة وجعلهم وقوداً لنيران حرب أهلية من أجل مكاسب سياسوية رخيصة. وذلك كله بناء على تجييش العصبية لمفهوم الأرض المقدسة في عقائد البجا القديمة - ما قبل الإسلام - وهكذا نتيجة لهذا الفهم الخطير (الذي نتج من نظام تسييس الإدارة الأهلية) في المجال العام، يهدد الأمين السياسي لما يُسمّى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا" بإقالة والي ولاية البحر الأحمر ويمنحه مدة شهرين للاستقالة وإلا سيقيله بيديه (كما كتب الأمين السياسي لمجلس ترك على صفحته في "فيسبوك") مدفوعاً بذلك التصور الخطير لملكية الأرض الذي تشربه لثلاثين عاماً عبر ما كان يضخه نظام الإخوان المسلمين من توظيف للقبائل في السياسة، حتى بدا اليوم ذلك الخراب العميم كما لو أنه جزء من بديهيات العمل السياسي! ناسياً (وربما غير عارف من الأساس) أن ملكية الأرض الفضاء منذ عام 1925 أصبحت ملكاً للدولة السودانية الذي يحمل جنسيتها.
ولمقارنة مدى ما أصبح عليه خراب الواقع السياسوي اليوم بفعل تسييس الإدارة الأهلية، علينا أن نرجع قليلاً إلى السبعينيات والثمانينيات، أيام نظام الجنرال نميري، إذ كانت للدولة السودانية هيبة.
يقول الأستاذ المؤرخ الراحل محمد أدروب أوهاج في كتابه "مؤتمر البجا الماضي والحاضر 1958 – 2005 طبعة دار عزة 2006- الخرطوم" الذي يُعتبر مرجعاً في التاريخ السياسي لمؤتمر البجا، واصفاً منصب ناظر الهدندوة أحمد الأمين ترك (والد الناظر الحالي: محمد أحمد محمد الأمين ترك، رئيس ما يسمى بالمجلس الأعلى لنظارات البجا) في حكومة الإقليم الشرقي آنذاك، في الصفحة 31 من الكتاب "اختار السيد حامد علي شاش عندما كان حاكماً للإقليم الشرقي أحمد محمد الأمين ترك وزيراً للمالية" - أي خلال عهد الجنرال نميري - (وكان السيد ناظر الهدندوة أحمد محمد الأمين ترك – والد الناظر الحالي - خريجاً جامعياً متخصصاً). هذه الواقعة تبيّن لنا مدى التجريف والتخريب اللذين ضربا البنية السياسية والمجال العام على يد النظام الانقلابي للإخوان المسلمين خلال ثلاثين عاماً من تسييس الإدارة الأهلية. فالأمين السياسي لما يُسمّى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا" اليوم يتطلع إلى إقالة والي البحر الأحمر (الذي هو أيضاً من قبيلة الهدندوة لكنه والٍ أخذ مسافة واحدة من المكونات كافة عكس الوالي السابق عبدالله شنقراي الذي كان متواطئاً مع المجلس الأعلى لنظارات البجا) وخلعه بيديه مدفوعاً بعقيدة قروسطية تصور له أن الناظر ترك هو ملك شرق السودان، من دون أي اعتبار لدستور السودان وحقوق المواطنة وشراكة المواطنين الأصلية من أطراف السودان كافة في شرق السودان، بل حتى لقد عميت بصيرة أصحاب هذه العقيدة الخطيرة عن بديهة بسيطة (أثناء إغلاق أنصار مجلس ترك للموانئ والطرق في سبتمبر/ أيلول الماضي) وهي، أن الميناء والطريق القومي وغيره من المرافق القومية تعتبر مرافق ومشاريع قومية بالتعريف لأنها ببساطة ملك لجميع السودانيين وهذه الملكية نابعة من أن كل مواطن سوداني في كل القطاعات العامة للدولة يتم الاقتطاع من راتبه نصيباً لتمويل هذه المشاريع القومية للدولة. وهنا تكمن خطورة نظام تسييس القبائل حين يتصور وفقاً لمنظوره القبلي أن الميناء حق خاص للقبائل ما دام في أرضهم!؟
وهكذا تم توريط نظار القبائل في السياسة، نظراً إلى قدرتهم على تجييش أتباعهم (وهم بمئات الآلاف) في معارك محتملة، لا تجلب إلا الدمار والخراب وتضرب الاستقرار السياسي لشرق السودان في مقتل.
وتصديقاً لما نقول، رأينا قبل أيام مقطع فيديو متداولاً لأحد قادة ما يُسمّى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا" (كان قد طالب من قبل بطرد بني عامر والحباب من شرق السودان لأن نظارهم لا يملكون أرضاً في السودان – بحسب زعمه –)، يطالب اليوم بطرد أهل دارفور أيضاً من شرق السودان، وربما غداً سيطالب بطرد أهل الشمال من الإقليم الشرقي لأن التوظيف الخبيث لعقيدة ملكية الأرض في نفوس البسطاء من البجا يتم تهييجها من قبل قادة المجلس الأعلى للإضرار بالمواطنين الآخرين من غير البداويت وهي عقيدة تعتبر جزءاً من منظور القبائلية في الممارسة السياسوية للمجلس الأعلى لنظارات البجا. (طبعاً من المهم هنا التفريق بين رفع الشعارات المطلبية في الحقوق المستحقة ضد بعض المدراء والوزراء والمتنفذين في سوء استخدامهم للسلطة، وبين المطالبة بطرد أهل إقليم كامل أو قبائل بعينها على الرغم من استحقاقها للعيش والعمل في أي بقعة من بقاع السودان بحقوق المواطنة لأفرادها).
وللأسف، فإن الأسباب التي تبيّن الدوافع العنصرية للأمين السياسي لما يُسمّى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا"، ومن ورائه أنصار المجلس، في مطالبتهم بإقالة والي البحر الأحمر كانت فقط، لأن والي البحر الأحمر عقد اجتماعاً مع البني عامر والحباب الذين تبرعوا بمبالغ مالية لدعم مشروع محلي للمياه في مدينة بورتسودان!
علينا أن نتأمل في مثل هذه الممارسات الفوضوية والمهددة بالعنف من طرف أنصار ما يُسمّى بـ"المجلس الأعلى" فقط لمجرّد اجتماع الوالي بمكون محلي لبني عامر والحباب، يكون ذلك مبرراً للمطالبة بإقالته. فهل هذا السلوك غير السياسي يبشر بخير؟ ثم ألا تنذر مثل هذه الممارسات الفوضوية تحت بصر وعين الدولة بمآلات خطيرة على السلم الأهلي في شرق السودان؟
وحين يصف الأمين السياسي لمجلس ترك، اجتماع بني عامر والحباب في مشروع خيري مع والي البحر الأحمر بأنه اجتماع من قبل الوالي بمجنسين؟!
ألا يعتبر هذا إنذاراً خطيراً للدولة؟ إن هذه النعرات العنصرية التي يهدد بها أنصار مجلس ترك السلم الأهلي في شرق السودان نعرات قديمة، لطالما كتبنا عنها أكثر من مقال، وهي نعرات تعتبر جزءاً أساسياً من تصورهم القبائلي في ممارسة السياسة، وبمثل هذه النعرات كانوا يتحدون ويهددون قادة مسار الشرق لاتفاقية جوبا، حتى من مجرد القدوم وإقامة ندوة عامة في أي مدينة من مدن شرق السودان، في إشارة واضحة إلى ممارسة العنف ضدهم، مدفوعين بتلك العقيدة القبائلية الإقصائية عبر تهييجها في نفوس العامة والبسطاء، وعندما لم يأتِ قادة مسار الشرق إلى شرق السودان (حفاظاً على أن لا يتسببوا في مقتل بريء واحد من البجا بسبب ندوة سياسية)، ظن أنصار ما يُسمّى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا"، أن ذلك كسب لهم، وهو في الحقيقة عجز للدولة وجهازها الأمني الذي لطالما تواطأ مع المجلس الأعلى بالتسبب في خلق الأزمات والإيحاء لأنصار المجلس بقفل الطرق القومية والموانئ في شرق السودان عبر الإيعاز من البرهان وحميدتي حتى تمكن الأخيران من تنفيذ انقلاب 25 أكتوبر العام الماضي.
لحسن الحظ، لقد استفاق بعض المستنيرين من أبناء البجا الذين ظنوا من قبل خيراً في ما يُسمّى بـ"المجلس الأعلى لنظارات البجا" وهناك من كتب بعض المقالات الصحافية في انتقاد المجلس ورئيسه ومنهجه القبائلي الخطير. لكن هناك حاجة إلى المزيد من أبناء البجا في قيادة تيار عريض بشرق السودان يفضح توجهات مجلس ترك ويكشف حقيقته العنصرية التي ستكون وبالاً على شرق السودان.
للأسف، أصبح المركز الانقلابي في الخرطوم بقيادة البرهان وحميدتي جزءاً من صناعة الأزمات في شرق السودان، وإلى أن تنتصر القوى السياسية الثورية في نضالها المجيد بدعم من المجتمع الدولي (وهو انتصار قادم لا محالة)، ستظل الأمور مرشحة للانفجار مرة أخرى في شرق السودان، عبر تلك الممارسات العنصرية الخطيرة لبعض قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا. وما انتقاد الأمين السياسي للمجلس لوالي البحر الأحمر والتهديد بخلعه، خارج أي شرعية قانونية أو سياسية إلا نموذج لما يمكن أن يتطور باتجاه خطير ما لم تضطلع الدولة بمسؤوليتها في حفظ الأمن.