كان مخرجاً مسرحياً ثم مخرج برامج تلفزيونية، قبل أن يصبح بين ليلة وضحاها المستشار السياسي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويساهم بشكل حاسم في تشييد سلطته خلال السنوات الخمس عشرة التي أمضاها في خدمته. إنه فلاديسلاف سوركوف الذي يحمل لقب "ساحر الكرملين " وتحاك الأساطير حوله منذ استقالته من منصبه، من دون أن يتمكن أحد من فصل الكاذب فيها من الحقيقي، إلى أن قرر ذات ليلة سرد قصته إلى الكاتب والباحث السياسي الإيطالي جوليان دا إمبولي. قصة استقى هذا الأخير منها رواية صدرت حديثاً عن دار "غاليمار" الباريسية، وتكشف سديم الوضع السائد في روسيا، منذ سقوط الشيوعية، مع التركيز على خفايا عهد بوتين. من هنا أهميتها القصوى.
وفعلاً، تُسقطنا هذه السردية، التي نتلقاها على شكل مونولوغ طويل، داخل كواليس السلطة في بلد القياصرة خلال العقدين الأخيرين، مصوِّرةً بتفاصيل لا تُصدَّق، الحرب الضارية والمستمرة بين المتزلّفين والأوليغارشيين المحيطين ببوتين، والطريقة التي سيحوّل فيها العقل المدبّر لنظامه، فاديم بارانوف (اسم سوركوف في الرواية)، بلداً بكامله إلى مسرح سياسي لا واقع آخر فيه، ولا همّ سوى تحقيق رغباته.
حاشية بوتين
من هذه السردية نعرف في البداية أن بارانوف يتميّز عن سائر حاشية بوتين بأصوله، إذ ينحدر من عائلة كبيرة ميسورة. ويتميّز أيضاً بثقافته الواسعة وعدم اهتمامه بالكسب المادي السريع. ففي سن العشرين، التحق بأكاديمية موسكو للفنون المسرحية وانطلق في عيش حياة محيطه البوهيمي، قبل أن يستثمر تجربته المسرحية ليصبح مخرج برامج يومية، لامعاً في تلفزيون يملكه الملياردير الغني عن التعريف بوريس بيريزوفسكي الذي يقترح عليه يوماً "التوقف عن خلق خرافات والبدء في خلق الواقع". لماذا؟ لأن الرئيس يلتسين كان يتخبّط آنذاك داخل إدمان مرضي على الكحول، وبيريزوفسكي الذي كان يحكم مكانه اختار أحد مسؤولي جهاز الاستخبارات الروسية، فلاديمير بوتين، ليحلّ مكانه، لظنّه بأنه سيتمكّن من التلاعب به كما يحلو له. وفي هذا السياق، يطلب من بارانوف وضع سيناريو هذه الخلافة وإخراجه، ثم الاضطلاع بمهمة إدارة "المسرحية" والترويج لها.
لا مبالغة في هذا الوصف، لأن كل ما سيلي جدير بمسرح طليعي عبثي، والمقارنة بين العرض المسرحي والعمل السياسي تشكّل خيطاً أحمر لهذه السردية التي تكشف بجرأة الطريقة التي سيستخدم فيها بعض المتلاعبين الكبار الصور والمشاهد والأحداث المبتكَرة لبلوغ غاياتهم.
ولكن أبعد من عملية تشريح نظام بوتين، بحاشيته الذليلة وأوليغاركييه الجشعين ومنفييه الذين فقدوا امتيازاتهم، ومهمّشيه الذين ينتظرون اعترافه بهم، وفتياته المرافقات لمجونه، يعرّي "ساحر الكرملين" هواجس الرئيس الروسي منذ ثورة الشيشان التي عاشها كإذلال وقمعها بشكلٍ دموي، وفي مقدّمها الدفاع عن شرف وطنه وكرامته، ووضع حد لتفككه. هواجس تقوم على قناعة وهمية لديه بأن أميركا لم تربح الحرب الباردة، والاتحاد السوفييتي لم يخسرها. كل ما في الأمر، بحسبه، هو أن هذه الحرب انتهت لأن الشعب الروسي وضع حداً لنظام كان يقمعه.
استعادة أوكرانيا
أما الإهمال والفوضى اللذان تبعاها داخل روسيا، فسببهما الفساد والتخريب على يد مسؤولين سياسيين أقرّوا بما ارتكبوه ولاقوا جزاءهم، مثل ميخائيل خودوكورسكي، رمز الرأسمالية الروسية الجديدة، الذي عُثِر عليه مشنوقاً في لندن، وآخرين كثر في الأيام الأخيرة. ولأن المحافظة على "كرامة" روسيا و"أمجادها" و"مصالحها" تقضي بـ "استعادة" أوكرانيا، الثائرة في نظر بوتين بتمويل غربي، لا بد من "تلقينها درساً" باحتلالها، بغية إعادة أبنائها ومسؤوليها إلى "رشدهم"...
باختصار، رواية تتتبّع خطى "قيصر" روسيا الجديد ومستشاره السياسي من حرارة البدايات التي "كنا نخرج أحياناً فيها لشراء سجائر ونستيقظ بعد يومين، في شاليه، محاطين بشابات جميلات نائمات"، إلى العزلة الجليدية لنظام أوتوقراطي ينتشي بممارسته سلطة مطلقة ويحلم بسرمديته؛ مبيّنةً بالتحليل والمعطيات الموثقة الغزيرة لماذا يتعذر لجم أو حتى تليين سلوك شخص مثل بوتين، لا يعترف أبداً بأخطائه ويؤمن بشكلٍ ذهاني بدوره الإنقاذي.
رواية لا تساعدنا إذاً فقط على فهم كيف وصلنا إلى الحرب الحالية الرهيبة في أوكرانيا، بل توفّر أيضاً لنا ــ وهنا الأهم ــ تأملاً عميقاً في السلطة عموماً، وفي طريقة إدراكنا لها وفقاً لما تضعه هذه السلطة بالذات تحت أنظارنا. الأمر الذي يبيّن الدور المتنامي المخيف للتكنولوجيات في خدمة المتربّعين على عرشها. وأكثر من ذلك، يقول سوركوف لنا داخل الرواية: "يعتقد الناس أن مركز السلطة قلبٌ يتحكّم به منطق مكيافيلي، في حين أنه في الحقيقة مركز اللاعقلانية والأهواء حيث ينعم الشرّ بحرّية مطلقة ويتقدّم حتماً على العدالة، وحتى على المنطق الصافي البسيط".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما الكاتب إمبولي، فيخلص من جهته، إلى استنتاج مفاده أن آليات السلطة هي نفسها في كل مكان وزمان. وفي معرض تقدسم رؤيته الخاصة لها، يكشف ببصيرة نافذة، تأثيراتها السيكولوجية السلبية على من يمارسها: " تُظهر هذه التأثيرات أن السلطة تحدّ من وظائف الدماغ. فما أن نبلغها حتى نفقد قدرتنا على التقاط الإشارات المنبعثة من بيئتنا، بما في ذلك تلك القوية منها، وتتلاشى خلايانا العصبية التي تمنحنا القدرة على التعاطف وفهم مشاعر الآخرين، بسبب العزلة الملازمة لها".
يبقى أن نشير إلى أن هذا النص الصاعق في مضمونه يملك أيضاً، على المستوى الشكلي، مميزات عمل أدبي كلاسيكي. فسعة اطلاع كاتبه ولغته الجميلة ومهاراته السردية الفريدة "ترتقي بتفاصيله الخام والوحشية في معظمها إلى مستوى نادر من النقاء الميتافيزيقي"، على حد قول أحد النقاد الفرنسيين الذي لم يخطئ في رؤيته في هذه الرواية، مزيجاً حاذقاً من كتاب "الأمير" لمكيافيلي وروايات جون لوكاريه الجاسوسية ونصوص الأدب الروسي الكبرى المشحونة بالقلق.