في كل مائدة عراقية، لا بد أن يكون أرز العنبر حاضراً، لكن هذا المكون الذي يزين الأطباق التقليدية للمطبخ للعراقي، مهدد بالاندثار، نتيجة الجفاف الذي يضرب البلاد وتراجع مخزونات المياه الحيوية لبقائه.
بحسرة، يقول الفلاح أبو رسول (76 سنة)، وهو يراقب ساقية مياه كانت تروي محصوله وقد جفت، "منذ صغري أزرع الشلب (العنبر)، في أرض تبلغ مساحتها 20 دونماً". وتابع الرجل ذو الوجه المجعد وقد ارتدى زياً عربياً، "نحن نعيش من هذه الأرض".
بعد ثلاث سنوات من قلة الأمطار والجفاف، سيكون موسم أرز العنبر هذا العام محدوداً جداً. والسبب الرئيس لذلك، أن العراق لم يعد يملك ما يغطي حاجة زراعة هذا النوع المميز من الأرز الذي يتطلب غمر مساحات واسعة بالمياه على مدى أشهر طويلة خلال الصيف، اعتباراً من منتصف شهر مايو (أيار).
يقول مدير الموارد المائية في محافظة النجف، المهندس شاكر فايز كاظم لوكالة "فرانس برس" إن "مخزونات الموارد المائية أصبحت قليلة جداً، أقل بكثير من مؤشرات الخطر، وهي 18 مليار متر مكعب".
وتحتاج زراعة العنبر إلى ما بين 10 إلى 12 مليار متر مكعب من المياه خلال الموسم الواحد، كما يشرح فايز. بالتالي "من الصعوبة زراعة محصول الأرز في محافظة النجف والمحافظات الأخرى بسبب استهلاكه العالي للمياه".
ويتوقع المسؤول العراقي أن تسمح السلطات بزراعة "مساحات محدودة للحفاظ على نوع أرز العنبر" وبالفعل، بدأ تقليص المساحات منذ مطلع مايو. وأكد المتحدث باسم وزارة الزراعة، حميد النايف لـ"فرانس برس" أن "زراعة أرز العنبر ستكون على أراض مساحتها 10 آلاف دونم فقط، تمتد في محافظتي النجف والديوانية"، بعدما كان البلد يستغل حوالى 350 ألف دونم لهذه الزراعة خلال السنوات الماضية.
ويعد الأرز عموماً والعنبر على وجه الخصوص، مادة رئيسة ضمن مائدة الطعام في أي بيت عراقي، يزين الوجبات العراقية المميزة مثل الدولمة، وهي خضار محشوة بالأرز واللحم، والمنسف، وغيرها. ويوضح مدير قسم الإنتاج النباتي في دائرة التخطيط في وزارة الزراعة، محمد جاسب لـ"فرانس برس"، أنه في السنوات الماضية، كان "معدل الإنتاج السنوي" من أرز العنبر "يصل إلى 300 ألف طن". بينما في 2021، حصد العراق أكثر من 250 ألف طن من أرز العنبر، وفق قوله.
انحسار دجلة والفرات
خلال السنوات الماضية، شهد البلد الذي يعبره من أقصى شماله إلى جنوبه نهرا دجلة والفرات، والملقب بـ"بلاد الرافدين"، تناقصاً ملحوظاً في موارده المائية. وتدين السلطات العراقية مراراً جارتيها تركيا وإيران اللتين تبنيان السدود على منابع النهرين ما يؤدي لانخفاض مستوى المياه في العراق.
ويلفت كاظم إلى أن مستوى مياه نهر الفرات حالياً يمثل 30 في المئة مما كان عليه في الظروف الاعتيادية، داعياً إلى "حراك سياسي" لحث دول الجوار على إطلاق مياه أكثر.
ويقول رئيس الجمعيات الفلاحية في النجف أحمد سوادي حسون، إن بلاده "مهددة بعدم زراعة العنبر ومن المحتمل أن ينقرض بسبب شح المياه".
ويعرب حسون، وهو مهندس زراعي عمره 51 سنة، عن أسفه لغياب التخطيط عن سلطات بلاده، متوقفاً عند التغيرات المناخية، قائلاً "نعلم أن العراق خارج خط المطر خلال السنوات المقبلة، مع ذلك لا يعتمد على التقنيات الحديثة في تطوير منظومات الري". ويرى أن "الحكومة بعيدة كل البعد عن الزراعة وجعلت من العراق سوقاً للدول المجاورة".
وسجل البنك الدولي في عام 2021 انخفاضاً بنسبة 17,5 في المئة في النشاط الزراعي في العراق، خصوصاً بعد الجفاف الذي يتعرض له البلد.
والتحدي كبير أمام القطاع الزراعي، ففي حين تعتمد البلاد بشكل رئيس على مواردها النفطية، ينبغي عليها تنويع مصادر وارداتها المالية. ويشكل القطاع الزراعي ثاني أكبر مساهم في الناتج الإجمالي المحلي بنسبة 5 في المئة بعد النفط، ويوظف القطاع نسبة 20 في المئة من اليد العاملة.
وينتقد إجراءات السلطات التي تشتري محصولهم وتتأخر في دفع مستحقاتهم المالية ولا تؤمن لهم الأسمدة، قائلاً بحسرة "ما نريده هو اهتمام الحكومة بالفلاحين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويهدد توقف زراعة العنبر مهناً أخرى، مثل العشرات من المصانع المحلية الصغيرة التي تعرف بـ"المجارش"، وتكون مهمتها تنقية المحصول وتنظيفه قبل طرحه في الأسواق كأرز جاهز للطبخ.
ويدير عادل الحاج غافل مجرشة في النجف ينشط فيها عدد من العمال. يتولى اثنان منهم، جمع أكوام محصول الأرز، مستعينين بمجارف. ويضع آخرون المحصول في أوعية كبيرة، ثم ينزلونه في "المجرشة" لتنقيته من الشوائب.
ويقول غافل، وهو أربعيني ورث مجرشته عن والده، "اعتمادنا الكامل على الفلاح". وتوجد قرابة 400 مجرشة من هذا النوع في محافظة النجف وحدها، تؤمن فرص عمل لبضعة آلاف من الأشخاص، وفقا لغافل. ويتابع "إذا توقفت زراعة (العنبر)، سنغلق المجارش وننتظر على أمل أن يزرع في السنة المقبلة".