بعد استقلال دولة جنوب السودان عام 2011، بعامين، استؤنفت الحرب، وتواصلت متزامنة مع استمرار أخرى بالمنطقة، منها حرب دارفور المستمرة منذ 2003. ويزعم مراقبون أن الحركة الشعبية لتحرير السودان هي التي غذّتها بغرض توسيع رقعة الحرب، وتشتيت قدرات وآليات الجيش السوداني لتخفيف الضغط عن ميدان الحرب الأساس في جنوب السودان. وبدأت ترجمة علاقات ودعم الحركة الشعبية للحركات المسلحة في دارفور على هذا الأساس.
ومنذ عام 2013 لم تتوفر مقومات تحقيق اتفاق السلام بين أطراف الصراع في دولة جنوب السودان، للدخول في مرحلة تتناسب مع ميلاد دولة جديدة نتيجة لاستفتاء شعبي اختار وفقاً له مواطنو الجنوب استقلال دولتهم. خلال هذه الفترة اختلفت أطراف النزاع، فبعد أن كانت الحرب (شمالية - جنوبية) مستمرة منذ خمسينيات القرن الماضي، تحولت بالكامل إلى (جنوبية – جنوبية)، بعد أن غيرت خريطة السودان إلى دولتين يلاحقهما تاريخ الصراع، وتبعات تقسيم الدولة من مشكلات سياسية وإدارية خاصة بالحدود وبالنفط المورد الرئيس في الخط الفاصل بينهما في منطقة أبيي.
وانهار اتفاق السلام الذي وقع عام 2018، ولم تفلح الدعوات للحوار في إقناع الأفرقاء بالجلوس لاتفاق آخر، ونتج عن ذلك صراع راح ضحيته نحو 400 ألف شخص، بينما أجبر نحو 40 ألف شخص على الفرار من منازلهم، وتسجيل 64 حالة عنف جنسي بين 17 فبراير (شباط) و7 أبريل (نيسان) الماضي، حسب تقدير للأمم المتحدة.
ونقلت أحداث دولة جنوب السودان مرة أخرى إلى واجهة الأحداث في العالم، وحصلت على تركيز لذلك البلد الاستوائي الذي يواجه الفيضانات الموسمية التي تستمر لأشهر والمجاعة والعنف الإثني، وضعف مؤسسات الدولة وفساد الطبقة السياسية المتهمة بنهب عشرات الملايين من الدولارات من الخزينة العامة، إضافة إلى الأزمات السياسية. كل ذلك أدى إلى فشل الدولة، ولإنقاذها من حالة التآكل الداخلي تم تمديد اتفاق السلام للعمل على تنفيذ بقية المخرجات.
مسارات الحرب
تضاءل الاختلاف بين مساري الحرب بالجنوب في فترتيها قبل وبعد استقلاله، ولكن كانت هناك بوادر حلول محتملة أمام الجنوبيين الذين وجدوا أنفسهم في حرب أهلية جديدة، ولكنها أجهضت من دون أن تُبقي على حل آخر في الأفق. من هنا كانت مقاومة الإثنيات ضد بعضها، والفصائل ضد الحركة الشعبية فاستحدثت حكومة الجنوب، وهي في أصلها حركة مسلحة متمردة، نظام الجيش الحاكم والمتمرد، إذ إن من خرجوا على الرئيس سلفا كير ميارديت هم رفقاء السلاح في الحركة الشعبية لتحرير السودان، التي بدأت متمردة ورديفة للجيش الشعبي لتحرير السودان. وعزز من مقاومتهم التصنيف القبلي والمنافسة الإثنية على السلطة، وتحولهم من جسد واحد يحارب نظام الخرطوم إلى قوى متصارعة.
لعل ذلك يعود إلى الإرث السياسي الشعبي الذي تركه جون قرنق زعيم الحركة الشعبية، متجسداً في الشخصية المصورة له بالرجل القوي صاحب الجاذبية العسكرية، إذ إن تاريخ تأسيس الحركة يروي كيف أنه قضى على منافسيه وآباء الحركة المؤسسين، وانتهج ديكتاتورية ثورية في الحفاظ على مبادئ الحركة.
كانت جميع هذه الأشكال من تشويه السلوك السياسي والثوري تشترك فيما بينها للإبقاء على الحركة الشعبية متمردة على السلطة في الشمال، ومتشاكسة مع المكونات السياسية والمتمردين الآخرين، بعد بلوغها كرسي الحكم، ومع ذلك لم تستطع الهرب من مصير الحرب والصراع المستمر. أهمل المتمسكون بالسلطة الوضع الجماعي لمواطني الجنوب، وبين أعضاء الحكومة أنفسهم تجاذبات بين التشبث بالحكم والرجوع إلى التمرد في قصة مكررة حدثت مرات عدة بين رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت الذي ينتمي لقبيلة الدينكا ونائبه في الحكومة وزعيم فصيل المعارضة الرئيس "ريك مشار" الذي ينتمي لقبيلة النوير.
وهنا يكون التمرد هو البديل الأقرب إلى كرسي السلطة، بعد وقوع الخلافات مباشرة. ويصدق ذلك، سواء في حالة اتحاد الإثنيات الجنوبية في حربها ضد حكومة الشمال سابقاً، أو في تمردها الحالي ضد الحركة الأم، لدرجة أن اعتقاداً ساد بأن التمرد حتمي نتيجة لحالات التململ الإثني.
استقطاب سياسي
هناك حالة من الاستقطاب السياسي التي كان ينتهجها السياسيون الجنوبيون قبل الانفصال، أثبتت عجزها في الجنوب الآن، وتجلى ذلك في فشل الحملات من أن تجمع الناس حول زعيم سياسي واحد، فالكل يحارب الكل. وصحيح أن هذه الحملات مُنيت بالفشل عندما حاولت أن تصنع من سلفا كير جون قرنق آخر، وبالغت في طموحاتها، إلا أن عقد الصراع منذ 2013، وحتى الآن اتسمت بميل واضح لاستدعاء المجتمعات الإثنية للتصدي لأي حالة مضادة تحاول إذابة حالة التعصب وتكوين دولة مدنية. وفي هذه الفترة لم تفلح اتفاقيات السلام في جعل السلام أقرب منالاً للمواطنين، وعلى الرغم من ذلك فإن شن الحرب السياسية في جبهات ضيقة كان فعالاً.
أظهرت قيادة الحركة الشعبية نشاطاً واندفاعاً نضالياً، ولكن نجد تناقضاً صارخاً بين قوة رفض مواطني جنوب السودان الاستمرار في هذا الصراع، ودخول الصراع بتكتل الإثنيات. الفرق بين الحركة الشعبية في ثوب النضال والآن، هي أنها الآن تحتكر العنف بآلتها العسكرية وقواتها، بينما لا تقل المعارضة المسلحة المنشقة عنها عنفاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتخابات مرتقبة
في مارس (آذار) الماضي حثت الولايات المتحدة والأمم المتحدة قادة جنوب السودان على "بذل مزيد من الجهود للتحضير لانتخابات مرتقبة في غضون أقل من عام لتجنب كارثة". وتزامن ذلك مع صدور قرار مجلس الأمن الدولي في الشهر ذاته الذي مدد مهمة بعثة حفظ السلام في جنوب السودان (يونميس) وقوامها 17 ألف جندي و2100 شرطي لمدة عام حتى 2023، وهي الأكثر تكلفة بالنسبة إلى الأمم المتحدة، إذ إن ميزانيتها السنوية تتجاوز مليار دولار.
وأرجع مبعوث الأمم المتحدة الخاص لجنوب السودان نيكولاس هيسوم أمام مجلس الأمن "أن أمر الانتخابات يعود إلى الرغبة السياسية لدى قادة دولة جنوب السودان"، ووصفها "بأنها يمكن أن تكون لحظة بناء أمة، أو كارثة". وعندما طالبت حكومة جنوب السودان، الأمم المتحدة، بمساعدتها في إقامة انتخابات بنهاية الفترة الانتقالية الحالية، حددتها في الدعم الفني المتمثل في بناء القدرات بجانب توفير الإمكانات الضرورية في هذا الإطار، واستنكرت في الوقت ذاته دعوة الأمم المتحدة تسريع الانتخابات قبل وصول الدعم، التي كان يفترض أن تجرى بنهاية 2022، وبسبب فشل الأطراف في تنفيذ بنود اتفاق السلام، تم تأجيلها لعام 2023.
ويواجه اتفاق السلام، إضافة لرفض المانحين الأجانب توفير المال اللازم للمساعدات الطارئة، صعوبات أخرى تتمثل في تمديد الفترة الانتقالية، وفشل تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية مثل تشكيل جيش موحد يجمع الأفرقاء، وتعثر تشكيل هياكل الحكم، ووضع الدستور.
ومع تبقّي أقل من عام على موعد الانتخابات، حذرت الأمم المتحدة من أن الخلافات السياسية تهدد بإلغاء المكاسب الهشة التي تحققت خلال عملية السلام. وأدى العزوف الشديد عن الحوار دوراً أكبر بكثير مما يفترض عادةً في مثل هذه الاتفاقيات، التي تكون فيها الاستجابة للمجتمع الدولي، خصوصاً الجهات المانحة. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الأكثر عزوفاً في هذا المجال كانوا الأقرب لسلفا كير، بالتالي الأقل أملاً في أوساط الإثنية المسيطرة "الدينكا"، في التغيير بإقامة انتخابات.
تدخلات دولية
يمكن أن تمثل الصراعات خطراً مباشراً أو غير مباشر على المصالح القومية في دولة جنوب السودان، وتمتد إلى السودان الشمالي، كما يضاف إلى ما سببته سابقاً من تدمير للحياة والبنية الأساسية الاجتماعية والمادية التأثير في الموارد المستقبلية للأجيال القادمة، خصوصاً أن الدولة منذ استقلالها لم تستطع العمل على مشاريع التنمية، وتنويع إيرادات الدولة وإدخال الموارد غير النفطية في عجلة الإنتاج.
ربما يؤدي تفاقم الصراع إلى تدخلات دولية، ولكن الراجح أنها ستكون بطريقة غير مباشرة، قد تكون أقرب لما قام به الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عندما تعرض لموجة شعبية رافضة لدخول الجيش الأميركي في مواجهات عسكرية أخرى بعد العراق وأفغانستان، فأرسل قوة مكونة من 100 جندي لصد "جيش الرب للمقاومة" بقيادة جوزيف كوني الذي كان ينفذ هجمات، على أوغندا وجنوب السودان.
إقليمياً، تهدد الصراعات في دولة جنوب السودان جهود مكافحة الإرهاب في قوس الأزمات الممتد من تخومها وحتى منطقة غرب أفريقيا، ثم شرقاً حتى الصومال. كما يمكن أن يسهم ضعف الأمن وزعزعة الاستقرار في المنطقة ونزوح مئات آلاف المدنيين في أن تصبح بيئة لتحرك الجماعات الإرهابية، بسلك طريق غير معروف وبعيد عن رقابة القوات الدولية، ما يستلزم جلب قوات لملاحقة هذه الجماعات.
وهناك مبرر آخر للتدخلات الدولية، وهو بما تحدثه هذه الصراعات من تهديد مباشر على الإنتاج في حقول النفط "جنوب السودان"، فيمكن للمجتمع الدولي الضغط على حكومة الجنوب بإدخال قوات لحمايتها كي تساعد في عملية التنمية، وتقلص مطالباتها المجتمع الدولي بمزيد من المساعدات.