فاجأت نتائج الانتخابات النيابية التي جرت قبل أيام في لبنان، يوم الـ 15 من مايو (أيار)، اللبنانيين أنفسهم قبل أن تفاجئ العالم كله، وعلى رأسه وسائل الإعلام الأجنبية التي تابعت الانتخابات البرلمانية اللبنانية منذ أشهر، والتي لطالما توقع مراسلوها ألا شيء سيتغير أو حصول خروق ذات قيمة في النتائج النهائية، وبالفعل كانت الأمور تدل على مثل هذا الأمر، إذ لم يتغير في السياسة المحلية أو الإقليمية التي يستند إليها الإعلاميون الغربيون ما يدل على أن شيئاً ما سيتغير في لبنان بسبب هذه الانتخابات، على ما كان قد أجمع الإعلاميون الأجانب والمؤسسات والمنظمات الدولية المعنية مباشرة بلبنان من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي اللذين شاركا في مراقبة الانتخابات، وقبلها في الإصرار على إجرائها في وقتها، وكذلك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذان غالباً ما يتريثان في مواقفهما السياسية بانتظار تأثير الانتخابات في المسار السياسي العام، لكن وسائل الإعلام الغربية ومراكز الدراسات والأبحاث كانت في طليعة من علّق على نتائج الانتخابات.
الصحف الأجنبية
تساءل بن هوبارد وهويدا سعد وأسماء العمر في مقالتهم المشتركة حول نتائج الانتخابات لمصلحة "نيويورك تايمز" بعنوان، "هل تكون الانتخابات طريقاً نحو الإصلاح؟"، ومما جاء في هذا البحث أو التقرير أنه من الصعب المبالغة في تقدير مدى سوء حياة المواطن اللبناني منذ الانتخابات البرلمانية الأخيرة في لبنان العام 2018، ومقدار ما فعلته المنظومة السياسية في البلاد لتلافي رد اللبنانيين في صناديق الاقتراع، فالتصويت كان بمثابة الفرصة الديموقراطية الأخيرة للبنانيين للرد رسمياً على أداء قادتهم، لذا فإن الأمر كان على المحك، ليس فقط من سيفوز بأي مقعد، ولكن السؤال الأكبر حول ما إذا كان النظام السياسي في لبنان قادراً على إصلاح اختلالاته العديدة، فالنظام السياسي اللبناني تم إرساؤه على علاقة زبائنية ومحاصصة بين المواطن وزعيمه، ليدخل في المنظومة البيروقراطية والحصول على وظائف حكومية ومساعدات مالية تحت غطاء شرعي، لكن في إطار نظام إداري فاسد.
وهذا يتماشى مع كون العديد من أولئك الذين أداروا الانتخابات وشاركوا فيها لديهم صلات بالنظام المالي وبالمنظومة الفاسدة التي اتهمها خبير الأمم المتحدة المعني بالفقر، أوليفييه دي شاتر، بأنها مسؤولة عن "الأزمة الاقتصادية المصطنعة" في لبنان والتي تسببت في انتهاكات حقوق الإنسان عبر إفقار الناس بشكل مقصود وبعمل مادي قام به أشخاص محددون، وليس إفقاراً طبيعياً صادراً عن جائحة طبيعية أو اقتصادية عالمية ما.
وكتب في تقرير نشر الأسبوع الماضي، "لقد تم القضاء على مدخرات العمر من قبل قطاع مصرفي متهور استدرجته سياسة نقدية مؤاتية لمصالحهم، وبات هناك جيل كامل محكوم بالعوز".
زينة كرم وباسم مروة وبلال حسن من "أسوشيتد برس" كتبوا في رسائلهم الصحافية المنتشرة عبر وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية التي تحصل على أخبارها من هذه الوكالة الإعلامية الدولية، وقد استنتجوا أنه على الرغم من الانتكاسة الظاهرة فقد احتفظ "حزب الله" وحليفه الشيعي رئيس مجلس النواب نبيه بري بالمقاعد الـ 27 المخصصة للطائفة، ولكنهما خسرا مع حلفائهما الأكثرية النيابية السابقة، ولو أن الأمور لم تتضح بعد حول تحالفات الكتل النيابية داخل البرلمان ومواقفها من القضايا الرئيسة التي تسبب الشقاق في لبنان، وعلى رأسها سلاح "حزب الله" الذي يسميه "سلاح المقاومة"، بينما يعتبره آخرون سلاحاً تستقوي به إيران في سياساتها الإقليمية من دون أي اعتبار لمصالح لبنان واللبنانيين أنفسهم.
دور "حزب الله"
بلال حسن في قراءته لنتائج الانتخابات رأى أنه سيتم تقليص دور "حزب الله" باعتباره "صانع الملوك" في النظام السياسي اللبناني، ويمكن للنتائج عند التصديق عليها أن تحث الدول العربية الخليجية على زيادة تدفقات المساعدة التي يمكن أن تساعد في استقرار قيمة العملة اللبنانية وتخفيف نقص الطاقة، ومع ذلك لا يعطي قادة "حزب الله" أي مؤشر إلى استعدادهم للانصياع لإصرار رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع على تفكيك الجناح المسلح للحزب، مما قد يمهد الطريق للصراع في مرحلة ما.
وبالنسبة إلى الولايات المتحدة فقد تفتح الانتكاسة السياسية لـ "حزب الله" فرصاً لزيادة المساعدة المالية وتسريع المشاريع لتخفيف أزمة الطاقة في لبنان، وتوفير الأسلحة للقوات الأمنية الحكومية اللبنانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيفة "تايم أوف إسرائيل" اعتبرت أن الانتخابات بمثابة رسالة شديدة اللهجة أرسلها اللبنانيون إلى الطبقة الحاكمة التي أدت إلى الأزمة الاقتصادية والسياسية الخانقة في لبنان، والتي لم تقم بأي شيء تقريباً لمعالجة الانهيار، تاركة اللبنانيين يدافعون عن أنفسهم وهم يغرقون في الفقر من دون كهرباء أو دواء أو جمع قمامة أو أي مظهر آخر.
ديفيد شينكر وغيره في حال ضياع
الانتخابات اللبنانية التي شكّلت مفاجأة تلقفها مساعد وزيرة الخارجية الأميركية السابق لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر الأسبوع الماضي بطريقة غير متفائلة، على الرغم من أنه كان من دعاة اللجوء الى الانتخابات كوسيلة تغيير حين كان في إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب، قبل أن يتحول إلى باحث سياسي ويقدم مواقفه على هذا الأساس، فبرأيه الذي انتظره ساسة لبنانيون كثر، بل علقوا عليه بشدة حين أعلنه، واعتبروه دليلاً على الدعم الأميركي لمجموعات المجتمع المدني، قال شينكر "أنا شخصياً لست متفائلاً في شأن هذه الانتخابات، ولا أعتقد أن الإدارة الأميركية يجب أن تراهن على هذه الانتخابات". وأضاف في ندوة عبر الإنترنت لمعهد "واشنطن" أن "هناك نظاماً معطلاً في لبنان والانتخابات بمثل هذه القوانين الانتخابية لن تصلحه بشكل نهائي، بل ستعود العقد السياسية إلى البروز في كل مناسبة"، واصفاً المرشحين الذين فازوا في مواجهة "حزب الله" وحلفائه بأنهم "منقسمون بشكل لا يصدق ويديرهم قادة نرجسيون وفردانيون مهتمون بالمكاسب الشخصية أكثر من الاجتماع وإسقاط النخبة الفاسدة".
الاتحاد الأوروبي الذي نشر بعثته لمراقبة الانتخابات البرلمانية تحت إدارة الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية جوزيب بوريل، وبإدارة عضو البرلمان الأوروبي جيورجي هولفييني كمراقب رئيس للبعثة، أعلن عبر بوريل أن الاتحاد الأوروبي التزم بمساعدة العملية الانتخابية في لبنان من خلال تقديم دعم مالي وتقني وسياسي كبير لإعدادها، "وأتطلع إلى العمل مع جميع أصحاب المصلحة اللبنانيين الفائزين والخاسرين والحاصلين على الأكثرية أو الأقلية".
الاستحقاقات الدستورية
مراسل "الغارديان" مارتن شولوف كتب، "بدت فرص تحقيق انفراجة حقيقية ضئيلة مع إغلاق صناديق الاقتراع مساء الأحد، وكانت النتيجة الأكثر احتمالاً هي العودة لشكل من أشكال الوضع الراهن، إذ يتم توزيع السلطة على أسس طائفية راسخة، لكن وقعت المفاجأة، والآن سننتظر لنشهد عملية المقايضة من أجل تشكيل حكومة وقبلها انتخاب رئيس لمجلس النواب ومن ثم رئيس للجمهورية، وفي هذه الحال يمكننا أن نستوعب ما الذي أدت إليه نتائج الانتخابات النيابية بالفعل، فالنتائج ينظر إليها من منظور الاستحقاقات الدستورية المقبلة".
الكاتبة والناشطة في المجتمع المدني اللبناني حنين غدار كتبت لمعهد "واشنطن" للدراسات مقالة بعنوان "ماذا تعني خسارة حزب الله الانتخابات النيابية في لبنان؟"، وقد بدأت بوصف وضع الحزب الذي عانى هزيمة كبيرة في الانتخابات البرلمانية اللبنانية، وفقد جميع حلفائه من غير الشيعة المسلمين على الرغم من قلة الإقبال والتهديد بالعنف والصعوبات المالية واليأس الوطني المتزايد، وبرأيها أنه يمكن للمرء أن يستنتج أن الأحزاب السياسية الكبرى تمكنت من الحفاظ على كتل برلمانية كبيرة، لكن نظرة فاحصة على التفاصيل تكشف أن عدداً من التغييرات المهمة ستؤثر في المشهد السياسي الجديد في لبنان:
أولاً، فقد "حزب الله" الغطاء المسيحي الذي مكنه من التلاعب بمختلف أدوات السلطة والاستهزاء بالدستور، وستؤثر خسارة رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل في طموحاته إلى الفوز بالانتخابات الرئاسية الخريف المقبل.
ثانياً، شهدت مناطق الدروز في منطقتي الشوف وعالية خروقاً حقيقية للمعارضة، وفي النتيجة فقد رئيس النظام السوري بشار الأسد حلفاء تقليديين في مختلف أنحاء لبنان، مثل طلال أرسلان ووئام وهاب وأسعد حردان وإيلي الفرزلي وفيصل كرامي.
ثالثاً، في الدائرة الثانية في بيروت تحدى الناخبون السنّة دعوات رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري لمقاطعة الانتخابات، وذهب العديد من أصواتهم إلى مرشحين مستقلين جدد، وكان "حزب الله" يهدف إلى تكوين كتلة سنيّة كبيرة من خلال الانتصارات في بيروت وطرابلس والبقاع الغربي وصيدا جزين، لكن خطته فشلت وخسر فوق ذلك حلفاءه السنّة السابقين.
رابعاً، جلب الجنوب أكبر مفاجأة للمرة الأولى على الإطلاق، إذ خسرت قائمة "حزب الله" المشتركة مع حركة "أمل" المتحالفة معه مقاعد أمام اثنين من المرشحين الخارجيين، وتسأل غدر، وهي زميلة فريدمان في معهد "واشنطن" في مواضيع الإسلام الشيعي في منطقة الشرق الأوسط، "إذاً ماذا يعني كل هذا؟".
خسر الحزب في كل مكان تقريباً في لبنان، فضلاً عما يشبه المقاطعة الشيعية بسبب الإقبال الخفيف على الاقتراع على غير العادة، خصوصاً مع الجهد الهائل الذي بذلته ماكينات "حزب الله" وحليفه الشيعي "حركة أمل" لحض الناخبين على الاقتراع، بكون الانتخابات مصيرية وبمثابة استفتاء على سلاح "المقاومة"، بل وصل الأمر بنائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم إلى وصف الاقتراع وكأنه فرض ديني.
وترى غدار أن الأغلبية الجديدة على الرغم من تشتتها تشترك في العديد من المواقف في ما يتعلق بالإصلاحات وسلاح "حزب الله" غير الشرعي، والتنسيق بينهم سيمكنهم من إطلاق نقاش جديد حول استراتيجية الدفاع الوطني، على الرغم من إمكان "حزب الله" تأخير العمليات الدستورية من خلال عرقلة القرارات وتكريس الفراغ في المؤسسات الحكومية.