تتفوق الصراحة على الدبلوماسية في مذكرات فاسيلي كولوتوشا، أحد أنشط الدبلوماسيين السوفيات وأبرزهم وأكثرهم جدلاً. ففي كتابه "مرفوع عنها السرية أو حكايا ونوادر المترجم العجوز"، يحب هذا الوافد إلى العلاقات بين الدول من عالم اللغات وثقافات الشعوب، أن يروي الحكايا. وما تخفيه الدبلوماسية تتكفل صراحته وشفافيته به. ولا يتردد في إعلان اختلافه مع هذا الملف وذاك الرأي في موسكو، منطلقاً من تجربته ومعرفته المباشرتين بالأحداث والأشخاص. فهو، وإذ يحول الملفات بين يديه إلى مفتاح لذاكرته، لا يتوانى عن تحكيم ضميره وتنصيب نفسه مرجعاً وحكماً، فيعرض للملفات بموضوعية وبأسلوب يجمع ما بين الحرفة الدبلوماسية في التقرير والعرض وتقنيات السرد القصصي، وإن كان لا يدعي الأدبية.
وإضافة إلى الصراحة، تمتاز تجربة كولوتوشا بأنه خبر طبقات الدبلوماسية من "أسفلها"، أو من "السفلة" بلغة القيصر الروسي بطرس الأكبر وتصنيفه التراتبي العسكري. و"السفلة" هم "الأطباء والطباخون والمترجمون" الذين عليهم "الالتزام بالسير خلف العجلة كي لا يتركوا أثراً محبطاً للقوات". وقد تدرج كولوتوشا هذا السلم وصولاً إلى القمة حيث عمل تحت إدارة يفغيني بريماكوف وإدوارد شيفرنادزه. ما يضفي على الحكايا، التي رحل مؤلفها في يوليو (تموز) 2020، نكهة خاصة ويغنيها ويسخن أحداثها. وقد صدرت الطبعة العربية لدى "دار أبعاد" في بيروت (2021).
ما لم يذكره خروشوف
هكذا، ومن الموقع الطبقي "السفلي" في الدبلوماسية، يروي المترجم كولوتوشا، مثلاً، ما لم يذكره الزعيم السوفياتي نيكيتا خروشوف عن زيارته إلى القاهرة أيام الرئيس جمال عبد الناصر (1964)، وربما لم يلتفت إليه قائد الكرملين أو "ترفع" عنه عمداً لحسابات دبلوماسية وسياسية.
يروي كولوتوشا "كانت الزيارة الأطول (استمرت أكثر من أسبوعين)، وتخللتها مباحثات رسمية ولقاءات واحتفالات مهيبة... والأهم من هذا وذاك، تخللتها مناقشات حامية وخلافات شخصية ومواقف محرجة. وبصراحة، لست واثقاً إذا ما كان أرشيف وزارة الخارجية يحتفظ بتفاصيل ما حدث من وقائع وراء كواليس هذه الزيارة أم لا. والأرجح أنه لا يحتفظ بها".
ويتولى كولوتوشا حفظ تلك الأحداث والوقائع، فيكتب "تعرض خروشوف لموقف محرج خلال لقائه مع العمال والنشطاء المصريين في مقر نقابة العمال بالقاهرة. فأثناء إلقائه خطابه خرج عن النص المعد سلفاً، وأخذ يرتجل قائلاً ’ها أنتم هنا تجرون تحولات اجتماعية واقتصادية تقدمية لصالح العمال والكادحين، بينما تستولي الدول الرجعية والملكية، والملوك والشيوخ، على فوائد بيع الثروات النفطية، مثلما يحدث في البلد المسمى الكويت‘".
يضيف "ووقع على عاتق سيرغي أراكيليان ترجمة هذا الخطاب. وقد فعل ذلك بالحرف. وبعد الحفل شعر المحيطون بخروشوف بالقلق والاضطراب، خصوصاً أن الاتحاد السوفياتي كان قد بدأ عقد علاقات مع الدول العربية الخليجية، وكانت الدولة الأولى منها التي توافق على العلاقات الدبلوماسية معنا هي الكويت (ويبدو أن هذا هو السبب الذي أبقى اسمها في ذاكرة خروشوف)... أي لم يكن هجوم خروشوف مناسباً، وعواقبه كانت بالغة الخطورة على جهودنا الدبلوماسية مع الأنظمة الملكية النفطية الخليجية. ولما عدنا إلى مقر إقامة خروشوف عُقد اجتماع عاجل بحضور وزير الخارجية أندريه غروميكو وأدجوني وسلتيكوف، وشارك فيه سفير مصر في موسكو مراد غالب. وراحوا يتناقشون في كيفية الخروج من المأزق. واقترح أدجوني إلقاء الذنب على المترجم من خلال الادعاء بأنه لم يفهم على النحو السليم فكرة خروشوف... ولذلك علينا محو هذا الكلام ونسيانه. واعترض غالب على هذا الاقتراح... لأن الخطاب نقل عبر الإذاعة مباشرة. واستمر الجدل، وعقبه أعلن غروميكو ’المهم ألا تنقل الصحف هذا المقطع، وأن يشطب من النص الرسمي لخطاب خروشوف‘... وفي هذه اللحظات، كان أراكيليان يقف بجواري، واعترف لي في ما بعد، بأنه كان بلا حول ولا قوة وهو ينصت إلى هؤلاء القادة وهم يقررون مصيره... وفي اليوم التالي شهدت الكويت تظاهرات احتجاج ضد خطاب خروشوف، غير الودي. لكن، ولله الحمد، كان قادة الكويت على درجة من الحكمة وبعد النظر في رد فعلهم الذي لم يتجاوز التظاهرات".
"القشة التي قصمت ظهر البعير"
ويسرد كولوتوشا حكاية أخرى عن الزيارة "شعر خروشوف بالغضب في أسوان تجاه الزعيم العراقي عبد السلام عارف، ونعته بعبارة ظلت تتردد لفترة طويلة في أوساط المستعربين الخبيرين بشؤون الشرق الأوسط... لقد تولى عارف الحكم في العراق في 8 فبراير (شباط) 1963 نتيجة انقلاب دموي، نفذه حزب البعث. ومن بين ضحايا الانقلاب، إضافة إلى ديكتاتور العراق عبد الكريم قاسم، عشرات الآلاف من الخصوم السياسيين للبعثيين، وفي مقدمهم أعضاء الحزب الشيوعي العراقي. وقد خلدت موسكو ذكرى الشيوعيين العراقيين بإطلاق اسم سلام عادل على أحد شوارعها، وهو الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي الذي لقي حتفه على أيدي البعثيين في تلك الفترة".
يتابع "كنَّ خروشوف كراهية شديدة للزعيم العراقي، وغضب بشدة عندما لاحظ أن عارف يدور حوله بشكل دائم ويلاصقه في الفعاليات الجماهيرية، ويحاول بجهد ملحوظ الظهور معه أمام عدسات المصورين. وقد استشاط خروشوف غيظاً، واستدعى مرافقه وقال له ’بلغ ناصر، لماذا يلاصقني هذا العراقي طوال الوقت كاللزقة؟‘... وقد أخبر عامر باستياء خروشوف، وكان مكلفاً بمرافقة خروشوف والسهر على راحته، لكن عامر رد فوراً بصراحة ’عبد الناصر يريد مصالحة الزعيمين السوفياتي والعراقي‘. ورد خروشوف عليه، وكان رداً مفحماً ’لو ضاقت بي الدنيا، لا يمكن أن أجلس معه، مستحيل أن أتظاهر بأي صداقة تجاهه‘... هذا الموقف من زعيمنا تجاه الزعيم العراقي تجسد مرة أخرى في خطاب خروشوف الذي ألقاه في الاحتفال الرسمي بعد تحويل مجرى النيل. وتقليدياً بدأ خروشوف كلمته بالترحيب بزعماء مصر والعرب الحاضرين، لكنه تعمد عدم ذكر اسم عارف. وكان المترجم آنذاك أراكيليان، ومعه النص المعتمد لخطاب خروشوف، فاعتقد أن خروشوف تخطى هذا السطر سهواً ولم يذكر اسم الزعيم العراقي من دون قصد، لذا ذكره هو. ولسوء حظ أراكيليان أن الماريشال غريتشكو الذي كان ضمن الوفد، يرافقه مترجم خاص به من وزارة الدفاع، وقام الأخير بلفت انتباه الماريشال إلى ’هذا التصرف المستقل‘ من جانب أراكيليان. فغضب غريتشكو وعلق على ذلك بالقول ’هذا ليس مجرد إهمال في الترجمة، إنما ينم عن عدم مسؤولية سياسية واستهتار‘. وطلب معاقبة أراكيليان واستبعاده من الترجمة".
ويشير كولوتوشا إلى "عدم اهتمام خروشوف بمصاعب حرفة الترجمة، بل يبدو أن نظرته إلى المترجمين كانت مطابقة لوجهة نظر بطرس الأكبر، أي أنه اعتبرهم من السفلة العالة".
ولا يتردد الراوي في الحديث عن "عشوائية" خروشوف و"القشة التي قصمت ظهر البعير". يقول "وقد خلف تهور زعيمنا مرارة بسبب منحه عبد الناصر وعامر وسامَي لينين والميداليتين الذهبيتين، فقد أثار هذا التصرف بلبلة وغرابة ليس في بلدنا فحسب، وأذكر جيداً مشاعر الدهشة والذهول لدى أولئك اللبنانيين الذين كنت على اتصال بهم، وغالبيتهم من الشيوعيين، ممن لم ينسوا كيف قامت أجهزة الاستخبارات أثناء الوحدة السورية المصرية بالقبض على (الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني) فرج الله الحلو وتعذيبه حتى الموت. والأكثر غرابة كان تذويب جسده بالأسيد، للتخلص من الأدلة على قتله".
ما اسم القاعدة العسكرية في طرطوس؟
قبل توجيه كولوتوشا نقداً لبلاده التي مالت عاطفياً إلى الفلسطينيين والقوى اليسارية اللبنانية في بداية الحرب الأهلية في لبنان، ما أضعف سوريا، يروي قصة "محزنة" تتعلق بـ"أمر حصولنا على قاعدة عسكرية في سوريا... ففي 14 مايو (أيار) 1981 وصل إلى موسكو في زيارة سرية الرئيس السوري حافظ الأسد، حليفنا الرئيس في الشرق الأوسط. وفي اليوم التالي التقى في الكرملين مع ليونيد بريجينيف وتناقشا الوضع العام في الشرق الأوسط. وتطرقا إلى قضايا التعاون العسكري السوفياتي السوري، وخصوصاً موضوع إقامة قاعدة عسكرية سوفياتية في سوريا، أو بحسب مصطلح ذاك الوقت، مراكز التموين والإسناد المادي والتقني... في ذاك اليوم، لم يكن مزاج بريجينيف طبيعياً، وكان يقرأ المذكرة المعدة له، متلعثماً، وببطء حرفاً حرفاً، مما زاده حنقاً كما بدا واضحاً. ولما وصل إلى الصفحة التي تتحدث عن استعدادنا للموافقة على نشر مراكز التموين والإسناد المادي والتقني في طرطوس، ازداد تلعثمه، ورمى المذكرة متذمراً وهو ينطق الاسم المختصر (بالأحرف)، مضيفاً ’ثرثرة... أنت نفسك هل تفهم الكلام الذي ترجمته؟‘، قال ذلك موجهاً كلامه إلى المترجم الذي أسقط في يده وراح ينظر تارة إلى الأمين العام الغاضب وهو في حيرة من أمره، وطوراً إلى غروميكو الهادئ إلى أقصى درجة، من دون أن يدري كيف يرد عليه. وأخيراً، أجابه بصوت خافت ’مركز الإسناد المادي والتقني يعني القاعدة العسكرية‘. لكن بريجينيف أمره بصوت مبحوح، وكان سمعه ثقيلاً أيضاً ’ارفع صوتك!‘. وصاح المترجم وهو مرعوب، مكرراً الجملة نفسها. غير أن الأمين العام لم يهدأ واستمر قائلاً ’المقصود، المقصود... لماذا لا تتحدث بلغة واضحة، وتقول إننا موافقون على إقامة قاعدة عسكرية لديكم، في بلدكم، بدلاً من الاسم المختصر؟‘. وهنا، أخيراً، تدخل غروميكو قائلاً ’ليونيد إيليتش، لقد اتفقنا ألا نعلن أننا سنقيم قواعدنا العسكرية في سوريا، كي لا نستفز الأميركيين وندفعهم إلى إقامة قواعد في الشرق الأوسط، لذلك اتفقنا على تسميتها بهذا الاسم المختصر‘. فقال الأمين العام ’لا أدري أين اتفقتم على ذلك، ومع من اتفقتم، ولماذا لم تتركوا هذه الخدعة للأميركيين، وتركتموها لي أنا؟‘. وبطبيعة الحال، لم يترجم المترجم هذا الحوار، إلا أن الأسد الذي كان يفهم اللغة الروسية جيداً، استمع إلى ذلك باهتمام واضح".
سر عرفات وسياسته
وللزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عند كولوتوشا ملف خاص يرفع عنه السرية. فعلى الرغم من أنه يحرص على إنصافه والأمانة لصداقته، يدلي بـ"انطباعاته" عنه "كإنسان وسياسي".
يقول "عن قرب، لم يترك لديَّ أي انطباع كشخصية فذة. بل سألت نفسي مراراً لماذا عرفات هو من تزعم حركة فتح، وبعدها منظمة التحرير الفلسطينية، وليس شخصاً آخر من زملائه، مثل أبو إياد (صلاح خلف) أو أبو جهاد (خليل الوزير). فهو بجوارهما يبدو ضئيلاً، وغير لبق، ودائم الحركة والسؤال. وعلى الرغم من ذلك، هو من ترأس الحركة الفلسطينية، ورأيي بهذا الصدد هو أن هذه النواقص هي مزايا تفوقه".
وقبل هذه التساؤلات والأحكام، يمرر كولوتوشا الصريح خبراً لعله يفسر بعض جوانب موقفه منه، يتذكر "كنت مكلفاً ومؤتمناً من السفير سارفار عظيموف أن أزور عرفات، ليس في مقره الكائن في شارع الفاكهاني في صبرا (بيروت) فحسب، بل في ملاجئه السرية التي كانت في واقع الأمر عبارة عن شقق مريحة، يعيش فيها مع سكرتيرته وزوجته عرفياً حتى عام 1985، نجلاء ياسين، (وكان القريبون منه يلقبونها بـ"أم ناصر")".
تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من النظرة النقدية تجاه عرفات، يحرص كولوتوشا على تأكيد صداقتهما، التي يروي محطات كثيرة منها، إضافة إلى تكراره الإيمان بعدالة القضية الفلسطينية. فعرفات بالنسبة إلى السفير السوفياتي "سياسي براغماتي محنك"، وتراه يحتفي بافتتاحه، منذ وقف على منبر الأمم المتحدة في 1974، نهج السلام مع إسرائيل على أساس حل الدولتين.
ويكتب "بصفتي شاهداً، بل مشاركاً في أحداث تلك الأيام بدرجة محددة، أستطيع أن أؤكد بقوة بأن الاتحاد السوفياتي لعب دوراً ليس بقليل في التطور الإيجابي لموقف منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك لأن المسؤولين السوفيات، بمختلف مناصبهم ومستوياتهم، سعوا في اتصالاتهم ولقاءاتهم مع الزعماء الفلسطينيين إلى إقناعهم بضرورة وضع برنامج سياسي يضمن إقامة الدولة الفلسطينية، وينطلق من أرض الواقع، أي يقر بوجود دولة إسرائيل في حدود عام 1967".
اتهام أبو إياد بـ"تصفية" الصدر
على الرغم من ذلك، لا يتردد الدبلوماسي السوفياتي الذي يحاول وضع القارئ في صورة واسعة عن البلدان التي يتحدث عنها وثقافاتها وتواريخها والحوادث فيها، في تحميل القادة الفلسطينيين مسؤوليات في الحرب في لبنان. ومما يرويه من موقع العارف بلبنان ومجتمعه وسياسييه وقواه، إذ أقام وعمل فيه لنحو عقد من الزمن، قصة اختفاء "إمام الشيعة اللبنانيين موسى الصدر".
يكتب "في أغسطس (آب) 1978، سافر إمام الشيعة اللبنانيين موسى الصدر إلى ليبيا واختفى أثره. وكان شخصية مهولة، يتمتع بكاريزما ضخمة، لدرجة أنني حتى الآن أسأل كيف كانت الأحداث ستسير في لبنان، وفي أي مجرى، لو أن الإمام لم ينجرف وراء الإغراء بالسفر لطلب المال من الزعيم الليبي معمر القذافي لسد حاجات حركته السياسية؟ وجوهر المسألة يكمن في أن الصدر، الذي يبدو هادئاً، كان متمرداً بطبيعته، وكان يقدر في منتصف السبعينيات على حشد وتعبئة الطائفة الأكثر عدداً وتطرفاً وراديكالية في البلاد. وبالاعتماد على منطقتي إقامة الشيعة، أي الجنوب وسهل البقاع، شكل الصدر ’حركة المحرومين‘، التي تحولت بعد ذلك إلى ’حركة أمل‘ المسلحة المعروفة، وبعدها إلى تنظيم ’حزب الله‘ الشهير. وقد قامت ’حركة المحرومين‘ وتشكلت في ظروف صعبة، لأن النشاط المتنامي للشيعة دخل في تناقض موضوعي مع سيطرة الفلسطينيين على جنوب لبنان والبقاع. بالتالي، كان نشاط الصدر الموجه نحو النهوض بالحركة السياسية للطائفة الشيعية متناقضاً إلى حد ما مع منطق وسلوك المنظمات الفلسطينية التي حولت المدن الصغيرة والقرى على طول الحدود اللبنانية الإسرائيلية إلى قواعد محصنة لها، للانطلاق منها لتنفيذ عمليات مسلحة داخل الأراضي الإسرائيلية. وكلنا يذكر كيف كانت كل عملية منها تجر وراءها رداً انتقامياً من الإسرائيليين بتوجيه ضربات بالمدافع والطائرات إلى الجنوب الشيعي. وأدت عمليات التنكيل الإسرائيلية إلى الهجرة الجماعية لسكان الجنوب اللبناني إلى الضاحية الجنوبية لبيروت والعيش هناك في بيوت متواضعة. الأمر الذي أدى إلى تصعيد التوتر بين الصدر والزعماء الفلسطينيين، على الرغم من أن الأمور لم تصل إلى حد المواجهة المسلحة المباشرة في ما بينهما. إذ كان الفلسطينيون في ذلك الوقت قد تورطوا في النزاع المسلح مع المسيحيين اليمينيين، وبالتالي كان فتحهم جبهة مع الشيعة هو الانتحار بعينه بالنسبة إليهم. ومن ثم، قررت القيادة الفلسطينية حل هذه العقدة بـ’أرخص ثمن‘، من طريق تصفية الصدر جسدياً، وبأيدي الغير. وقد سمعت بنفسي من مصدر كبير ومهم أن طلب ’حل مشكلة‘ الصدر قد أبلغ إلى الزعيم الليبي معمر القذافي الفوضوي والمندفع بتهور من خلال القيادي في حركة فتح صلاح خلف (أبو إياد). وأنا شخصياً أعتقد بأن هذه القصة حقيقية، على الرغم من تسليمي بصعوبة تأكيد أمر وسط هذه الحكايات الموحلة. علماً بأنه لم يكن لدى القذافي والصدر ما يختلفان عليه، ولم يكن بينهما أي مشكلة عالقة. وذلك على عكس الوضع بين الإمام والفلسطينيين، إذ كان بينهما سبب للخلاف بالغ الأهمية، هو السيطرة على جنوب لبنان ووادي البقاع".
"حزب الله" ونجمه عماد مغنية
وليس بعيداً من هنا، إنما بفارق نحو سبع سنوات، خطف أربعة عاملين في السفارة السوفياتية في بيروت (موظفان في "كي جي بي" ودبلوماسيان). ولكولوتوشا الذي اختارت موسكو إرساله إلى لبنان عقب هذه الحادثة رواية عنها، هي نفسها قصة "ظهور لاعب جديد، مثابر وعدواني وصادم"، هو "حزب الله" ونجمه عماد مغنية.
يروي "مساء 30 سبتمبر (أيلول) 1985، تلقت هيئة تحرير صحيفة ’النهار‘ صور المخطوفين وقد صوبت المسدسات إلى رؤوسهم. وأرفقت الصور بمنشور يتضمن إنذاراً من الخاطفين ’إما أن يستخدم الاتحاد السوفياتي نفوذه للتأثير في دمشق وإجبارها على وقف العملية العسكرية للسوريين في طرابلس، وإما سيكون مصير المواطنين السوفيات المخطوفين هو القتل‘. والمهلة الممنوحة لتنفيذ الإنذار هي 24 ساعة".
يضيف "أما رد الفعل في سفارتنا ووزارة الخارجية في موسكو، وحتى في الكرملين، فيمكن اختصارها بكلمة واحدة: الصدمة! وإلى جانب القلق والخوف على حياة المخطوفين، كان السؤال المطروح: كيف وقعت هذه الحادثة، وهي الأولى من نوعها في تاريخ الدبلوماسية السوفياتية، في العالم العربي، حيث نعتقد أن الشعوب تحبنا وتحترمنا؟".
لكن، من الفاعل، من هم الخاطفون؟
هنا، تبدأ رحلة كولوتوشا بحثاً عن الحقيقة، يقول "الرواية الأولى سمعتها من وزير خارجية العراق طارق عزيز. فقد أخبرني بثقة أن من خطف رجالنا هم مقاتلو ’حزب الله‘، ونفذوا العملية بأمر صادر من طهران، لأن القيادة الإيرانية وعلى رأسها الإمام الخميني مستاءة جداً من استئناف الشحنات العسكرية من الاتحاد السوفياتي إلى العراق".
أما القصة الثانية، يضيف، "فسمعتها في بيروت بعد تعييني هناك، وكررها لي مرات عدة مستشار السفارة وهو ضابط في (كي جي بي)، وبموجبها خطف الموظفون الأربعة بتدبير من ياسر عرفات، رداً على قصف السوريين والفصائل التابعة لهم مخيمي اللاجئين الفلسطينيين في نهر البارد والبداوي في منطقة طرابلس، حيث يوجد موالون لعرفات. وأهداف عرفات، بحسب هذه الرواية، تتلخص في إرغام السوريين على وقف قصف المخيمين، وإذلال الرئيس السوري حافظ الأسد علناً، وإثبات ضعف موقعه في لبنان. وكلف عرفات، وفق الرواية، عماد مغنية الذي كان حارساً شخصياً له، بتنفيذ هذا المخطط. وعقب ذلك، وقع الرهائن بطريقة ما في أيدي ’حزب الله‘، وقام مقاتلوه بنقل المخطوفين من مكان إلى آخر... وعندما حدد مكان إخفاء الرهائن في البقاع توجه ي ن بيرفيليف، برفقة المترجم ف أ بافليك، إلى المرشد الروحي لـ’حزب الله‘ السيد محمد حسين فضل الله، وخلال الحديث معه أعرب له بيرفيليف عن تهديد مبطن بأنه إذا لم يطلق سراح الرهائن من المحتمل أن يوجه صاروخ من الاتحاد السوفياتي إلى مدينة قم المقدسة لدى الشيعة الإيرانيين، ويقال إنه ضل طريقه وسقط فيها من طريق الخطأ. وقد فهم فضل الله هذا التلميح الأكثر من واضح. وكان رجال وليد جنبلاط في ذلك الوقت قد خطفوا بعض الشخصيات الشيعية البارزة، ثم أطلقوا سراحهم. لكن، جرى إخصاء أحدهم قبل إطلاق سراحه (في صفوف مقاتلي جنبلاط كان هناك شخص متخصص بهذه الأمور). وفي المحصلة، أدرك الخاطفون أن استمرار احتجازهم مواطنينا سيكلفهم ثمناً غالياً، واتخذوا قراراً بإطلاق سراحهم".
وهناك قصة أخرى لرجال الاستخبارات في بيروت تفيد بأن عرفات، كان يوحي بأنه يساعد ويبحث عن طرق للوصول إلى الخاطفين، "لكن على الصعيد العملي كان يكذب ويغدر ويحاول التعتيم على آثارهم. وفي المرحلة الختامية، زعم أنه سدد للخاطفين مبلغاً كبيراً من الدولارات".
وقبل إصدار كولوتوشا الحكم وإعلان الفاعل، يبرئ عرفات من كل التهم. فالزعيم الفلسطيني، بناء على التحقيقات، "كان معنا أميناً ومخلصاً... وأصدق أنه سدد مبلغاً من خلال الوسطاء من أجل التعجيل في إطلاق سراح رجالنا". ولا يكتفي كولوتوشا بهذا الوفاء لحليف بلاده، بل يوجه سهام النقد إلى ما أوردته موسوعة "تاريخ الاستخبارات الخارجية الروسية" عن الحادثة، معتبراً أن "المكتوب فيها مخيب للآمال، فهو مادة فضفاضة وغير متجانسة وغير مطابقة للواقع". ويرى أن المؤلف "أبدع هذه الجوهرة، ليورط الزعيم الفلسطيني في خطف رجالنا". ويسأل "ألا توجد وراء ذلك دوافع لإثارة الفتنة، بشكل متعمد وواضح؟ فهل ينفذ هذا بطلب خاص؟"، في إشارة إلى إرضاء إسرائيل.
ويأتي موعد توجيه كولوتوشا الاتهام: "حزب الله كان المسؤول عن عملية الخطف، وقد وقع تحت ضغط متزايد من جهات عدة. وعندما وصل الضغط إلى ذروته قرر المسؤولون فيه إطلاق سراح رجالنا. وفي 30 أكتوبر (تشرين الأول)، بعد شهر من خطفهم، جرى نقل الرهائن الثلاثة الأحياء إلى مكان قريب من السفارة".
انزعاج السوريين
وقبل أن نغادر لبنان في رحلتنا مع كولوتوشا، يستوقفنا الدور النشط والواسع للدبلوماسي السوفياتي غير التقليدي، إذ وسع دائرة اتصالاته لتشمل "الزعماء المسيحيين واليمينيين ورجال الدين من المسلمين، بما في ذلك فضل الله"، انطلاقاً من تعليمات موسكو "بالعمل من أجل تحقيق الصلح والوئام بين اللبنانيين بأسرع ما يمكن، وأن يكون دور الاتحاد السوفياتي في تحقيق هذا الهدف كبيراً وظاهراً للجميع". وقد أزعجت تلك الحركة "البعض" فأرسلوا امتعاضهم خلسة إلى موسكو. وإذ ينشغل كولوتوشا في البحث عن "البعض"، يستعين بما كتب في الصحف اللبنانية "يلفت إلى أن نشاط السفير السوفياتي نال إعجاب الجميع، ما عدا البعض. وأول من اعترض كان حزب الله، الذي تجاهلته عن عمد بسبب خطف أربعة من رجالنا... وعقب ذلك أعرب السوريون أيضاً عن عدم رضاهم، تطلعاً منهم إلى احتكار دور الصدارة في الشؤون اللبنانية، فليس من حق أحد غيرهم أن يظهر في المطبخ السياسي، من وجهة نظرهم".
صراع في وزارة الخارجية
وفيما كانت بيروت تودع الحرب التي سعى السفير السوفياتي لإنهائها، وقد أبت أن ترحل قبل قتل صديقه الرئيس المنتخب رينيه معوض من دون أن يحصل على إجابة عن هوية القاتل، استدعي إلى موسكو، حيث "فشلت بيريسترويكا ميخائيل غورباتشوف، وانهار الاقتصاد، واندلعت في أنحاء البلاد صدامات إثنية وعرقية، وأعلنت دول البلطيق انفصالها عن الاتحاد السوفياتي".
ومع تردد صدى اجتياح جيش صدام حسين الكويت، كان كولوتوشا الذي عين على رأس مديرية بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية، يدخل صراعاً صغيراً هو دليل على تخبط السلطة في بلاده.
يتذكر بصراحة "لم يدم رضا الوزير شيفرنادزه عني طويلاً، والسبب لم يكن يعزى إلى نوعية عملي، بقدر ما كان الانقسام الحاد في الدائرة المحيطة بغورباتشوف، وخصوصاً الخلاف الشخصي بين شيفرنادزه وبريماكوف اللذين كانا عضوين في المجلس الرئاسي لغورباتشوف. لقد تمسك كل من شيفرنادزه وبريماكوف بوجهة نظر مختلفة تجاه حل المشكلة الكويتية، وهذه الملابسات أصبحت بالنسبة إليَّ كارثة وظيفية".
ويضيف "لبعض الوقت، تعاطفت مع بريماكوف، فاقتراحه بالانسحاب الطوعي الناعم للعراقيين من الكويت بدا لي أكثر جاذبية... وكان غورباتشوف متردداً بين نداءات شيفرنادزه نحو عدم التخلي عن التنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، من جهة، والنصائح الملحة من بريماكوف بإجراء حوار ثنائي مع القيادة العراقية، من الجهة الأخرى". ويختم "لكن شريط الأمل كان قصيراً".