ظلت القصيدة السورية، منذ حركة الشعر الحر، شديدة الحضور في المشهد الشعري العربي؛ ناهيك عن كُتَّاب القصة والرواية والنقد. غير أن الحرب في سوريا حجبت راهن هذا المشهد الأدبي، وهو ما دفع مجلة "ميريت الثقافية" القاهرية في عددها الأخير إلى تقديمه عبر ملف يضم قصائد لاثنين وعشرين شاعراً وشاعرة وتسعة كتاب للقصة القصيرة. هذا التفاوت العددي ما بين الشعر والقصة يعكس استجابة الأول السريعة للحظة الراهنة المتوترة والتي ظهرت آثارها واضحة على ما تناولته القصائد من تيمات موضوعية. واللافت أن موضوعة الحرب قد ألقت بظلالها على كل شيء. فها هي الشاعرة أحلام عثمان تصف حبيبها بأن عينيه "مصفحتان" بالحزن، وأن الريح، من حولهما كانت تصفر والمطر ينهمر على كتفيهما؛ "هارباً من دخان البلاد"، بينما كانت يداها باردتين وصاحبها يرتجف، وتظل يدها المترددة "فريسة ممزقة بين فكى الليل".
أثر الحرب وكورونا
يقدم أحمد إسكندر سليمان، نفسه بلغة تعريفية مباشرة حين يقول: "أنا من مواليد عام 1955/ حين كانت سوريا مكاناً يستحق أن يولد فيه المختارون/ ولدت في جابالا/ التي يعني اسمها صوت الرب باللغة الفينيقية القديمة". وهكذا حتى يصل إلى نذر الحرب التي تنبأت بها القصائد: "عشتُ في دمشق/ كنتُ أشعر بالحرب تتسلل وتقترب/ لكن أحداً لم ينصت لضجيج القصائد"، حتى اختفى "كل ما يمكن الإمساك به/ تحوَّل الحلم إلى كابوس". ووسط هذا كله يشعر الإنسان بضآلته وعدميته. وهذا ما نلاحظه فى قصيدة لبسمة شيخو حين تقول: "امرأة لا لزوم لها/ إضافة على هامش الكون/ إن غادرتْ لن يتغير شىء"، وتشعر أنها "ستجاور أقرباءها تحت التراب/ كما في حياتها". ويزداد الأمر بلاء حين يضاف إلى هموم الحرب هم انتشار وباء كورونا كما يقول بهيج وردة "رغم المساحة الرحبة التي يمنحها الشعر، إلا أنك بعد الساعة الثامنة – وقت حظر التجول الوقائي من فيروس كورونا – تشعر بالحسد، من حرية التجول التي مُنحت – في كندا – لأصحاب الكلاب بالخروج رفقة كلابهم خلال فترة حظر التجول على ألا تزيد المسافة عن كيلومتر واحد من عنوان المنزل". هذه الأوضاع الشاذة أصبحت أمراً اعتيادياً بسبب تكرارها اليومي.
يقول حسن شاحوت: "لا غرابة إن لم أستطع قطع صمتك المتدلي من السقف مثل حبل مشنقة الندم/ لا غرابة إن لم أستطع التخلص من مخاوفي العشائرية/ لا غرابة إن مشيت مع الوحل والمطر/ وعلى وجهي تتراكم دموع السنابل وزفرات الدروب". ويضيف حسين الضاهر قيداً آخر هو الأوراق الثبوتية والأختام لإثبات الهوية: "أعذريني لا أستطيع الاقتراب أكثر/ قدماي مكبلتان بملايين الأوراق الثبوتية والأختام/ الحرب موت لمرة واحدة/ والسلم موت لثلاثين مرة قبل الموت". وذلك لأن هذا السلم أو الهدنة المؤقتة هي انتظار للحرب والهلاك. ولا يجد الشعراء سبيلاً للخلاص من ذلك سوى بمفارقة الأرض ولو على سبيل الخيال. يقول حكمت الجاسم: "تعالي لأعانقك/ ثمة سماء كبيرة في الخارج/ تنتظرنا لنطير معاً/ ونفنى معاً".
خواء العالم
الحب إذن بديل لخواء العالم. فبحسب رنا سفكوني "الرجل الذي أحبَّني/ اشترى لي تفاحة/ قال إنها قمر/ صدقته/ ثم التهمنا الضوء معاً". لكن هذا الحب كثيراً ما يحبط كما تقول ريتا الحكيم "المرأة التي تعض ماضيها/ إلى أن ينزف وتندلق أحزانها على قميصه/ عاقر تدفن رحمها في الرمال/ وتمارس الحب مع أحلامها/ لتنجب منها شهوات مجهولات الهوية". لكنها في موضع آخر تربط تحرر المرأة بتحرر الوطن "الحرة طفرة في زمن العبودية". إن الحرية - أو السعي إليها دائماً - هي ما تجعل الموت شهياً وهذا ما يصوره صدام العبدالله "أيها الموت تعالى بهياً/ كبائع غزل البنات/ وبِعنى ضحكةً ملونةً بليرتين". إنه يتمنى أن يتخلى الموت عن صورته المفزعة حين أتى على هيئة براميل تسقط آلاف الضحايا. ويتوقف عارف حمزة أمام البحر بوصفه رمزاً للمتاهة، فهو لم يعد ذلك العاشق الذي يحضن الغرباء: "البحر لا يحضنك/ البحر لا يجد الفرصة أن يراك/ كي يغسلك بهذا العنف/ أنت تأكلين البحر/ حتى لو غرقتِ الآن". وتقارن عائشة بريكات بين حالتها وحالة صاحبها حين تقول: "حينما يعربد وجهي/ وظلك كسير على مرايا تشهق ثمالة نداءاتي/ على حواف لوحة مضمخة بالماء". ويستشرف عبادة عثمان مستقبل وطنه حين يقول "يوماً ما ستنام الحديقة على صقيعها/ حالمة بأسراب الفراشات/ وقد لا تستيقظ إلا بعد أن يأكل الشتاء وجهها/ يوماً ما ستمشي المدينة على جثثنا/ تحرثها خيول القتلة".
الرغبة في الهجرة
وتظهر صورة المدينة أيضاً فى قصيدة عبدالله الحريري: "مجدداً تصحو المدينة/ كأنها لم تتقدم في السن/ الباصات مصابة بالألزهايمر/ تنسى الوجوه وتتذكر الواجهات". ومن اللافت وجود قصيدة عمودية جيدة السبك لفريد ياغي يقول فيها: "عانقت طيفك كالمحروم من ولد/ حتى انصهرت وضاعت في العناق يدي". وهو ما يتجاور مع قصيدة النثر حين نقرأ قول عبير سليمان "لا ضير بأنني الكتاب الذي مزقت دفتيه في زحمة انشغالاتك/ وتركته يتيماً على الطاولة دون ملامح". ويقدم محمد الحبوري ما يشبه المونولوغ الداخلي حين يقدم العبارة ثم يعلق عليها: "كم أنت قريبة مني رغم هذه المسافة/ كذبة – أشعر أنني سأراك اليوم/ كذبة – سأكون في انتظارك عندما تصلين/ كذبة". ويتحدث هاني نديم عن الجميلة السمراء التي "عاد إليها الجندي بهوية زوجها الميت على الجبهة"، ثم ينتقل إلى الرغبة في الهجرة: "قال لصديقه: لا نحتاج شيئاً للخروج من هذا الجحيم/ جواز سفر وطريق مختبئة تصلنا بمالو". وتنتقل نادين باخص إلى الإشارة لمهمشي المدينة حين تقول: "في عيدي سأسمح لتأنيب ضميري/ أن يموت لبرهة/ وسأتجاهل المرأة الشابة التي تقف أمام محل البيتزا/ وتحمل لوحة صغيرة/ تسأل النقود لتطعم أولادها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعود وفائي ليلا إلى تصوير افتقاده لما كان عليه أبوه من مكانة وقيمة: "ها أنا أشبهك تماماً يا أبي/ ولكن بلا دور ولا مكانة ولا قيمة/ ولم أكن يوماً أنا/ كما كنت أنت طوال الوقت". وفى النهاية نجد قصيدتين تقومان على توصيف الشخصية التراثية الأولى بعنوان "من أوراق النبي يوسف" ليوسف العباس ويقول فيها: "سبع ستأكل ما احتوت كفاك/ من سبع خلون وأنت منتظر فوات السجن". والثانية بعنوان "سيزيف" لمحمد حجاج بكري يربط بينه وبين السوري حين يقول: "يولد السوري سيزيفا ويكبر/ يجمع الأوطان في خُرج المآسي/ ثم يمضي في سراب/ نحن يا سيزيف أبناء الخراب/ نحن موسومون بالموت المؤجل/ في رصاصات النحاس".
قصص تصور البؤس
وفي الملف قصة لإسلام أبو شكير بعنوان "خداع بصري" تعتمد على البنية الزمنية المتنامية في تصويرها لاستعداد خروج امرأة في الصباح، وفجأة تخترق رصاصة نافذتها وسط حياتها الاعتيادية. ويقدم حسن الجودي في "باي المقدس" مطاردة صياد لغزالة شاردة حيث "يتبع الصياد خيط دم متقطع. لقد أطلق سهماً باتجاه الغزالة وظن أنه قد أصابها". ويقدم رأفت حكمت في "خياط الدم" صورة لخياط الأكفان تدل على كثرة الموتى، ويتضافر وصف المكان مع هذه الدلالة العامة: "كان الباب موارباً حديدياً صدئاً يتناهى إلى مسمعك وأنت تقترب أكثر من صوت من الداخل – أقصد مجموعة أصوات – يمكنك إن ركزتَ في جملتها أن تميز صوت آلة للخياطة". وتصور سوزان الصعبي حالة أسرة بائسة جاورتها في إحدى الحافلات. ويصور عدنان كزارة افتقاد الأب والاحتياج الدائم إليه في "الباحث عن أبيه". أما غفران طحان فيعالج أزمة فقدان الذاكرة حين يقول: "أدركت منذ فترة طويلة أن ذاكرتي العلوية لم تعد تتسع لتفاصيلي وأنها تخونني مما جعلنى مهووساً بالوشوم". وتصور لميس زين حالة غريبة وهي وجود شخص بقناع نصفي أنجب قبيلة من الأبناء والأحفاد تضع جميعها قناعاً على نصف الوجه الأيسر. وتصور نور الموصلي ما وصل إليه حال الناس حين تتساءل: "هل يملك أحد هذه الأيام ثمن قوت يومه كي يشتري لوحة تزين جدران بيته؟". ويصور وائل القادري شخصاً من المهمشين يجمع أعقاب السجائر من على الأرض بمكنسته ويفتح الصندوق الخشبي ويضع ما جمعه بداخله.
إن النظرة العامة على ماسبق تؤكد تنوع الأساليب الشعرية بين التداولي والمجازي واستخدام الأشكال العمودية والتفعيلية والنثرية وتواتر تيمات الحرب والإحساس بالعدمية والفزع والتهميش، وهو ما نجده أيضاً في القصة القصيرة بدرجة كبيرة.