تدب الحياة تدريجياً في أوصال القطاعات الثقافية والفنية في المغرب، بعد تحسن الوضعية الوبائية في البلاد، وترخيص الحكومة لتنظيم المهرجانات وفق شروط مخففة، بخلاف ما كان عليه الأمر خلال أكثر من سنتين متواليتين، حين كان الإغلاق والحظر الكامل هما السائدين.
وتعود مهرجانات فنية وثقافية إلى الانعقاد في عدد من جهات ومدن المغرب، مراهنة على الحضور بدلاً من الغياب، وعلى التواصل المباشر والواقعي عوضاً عن التواصل الافتراضي، الذي كان سائداً خلال فترة جائحة كورونا.
ويراهن المغرب أيضاً على إرساء صناعة ثقافية وفنية، وفق ما أعلنه رئيس الحكومة المغربية عزيز أخنوش، عند عرضه البرنامج الحكومي في البرلمان، وذلك عبر "التعريف بالمبدعين والتراث الحضاري المغربي، والرفع من وتيرة التنظيم والمشاركة في المعارض والمهرجانات الثقافية والفنية، لما لها من تأثير كبير في بناء جسور من التواصل مع مختلف الثقافات الأخرى".
وأفردت الحكومة خلال عام 2022 ميزانية 60 مليون درهم (6 ملايين دولار) لدعم القطاع الثقافي والفني، منها 20 مليون درهم (2 مليون دولار) لدعم المسرح، و11 مليون درهم (1.1 مليون دولار) للكتابة والنشر، و12 مليون دولار (1.2 مليون دولار) للموسيقى والفنون، و9 ملايين درهم (900 ألف دولار) للجمعيات الثقافية والمهرجانات.
انتعاشة بعد انتكاسة
وتنشط المهرجانات الفنية بشكل أكبر وأوضح من نظيرتها الثقافية في المغرب، حيث من المقرر تنظيم في الأسابيع القليلة المقبلة عديد من اللقاءات والمهرجانات ذات الطابع الفني، من موسيقى ومسرح وسينما وتشكيل، وغيرها من ألوان الفنون المختلفة.
وبعد تأجيل دام سنتين متتابعتين، ينظم المغرب المهرجان الدولي للسينما والهجرة في مدينة أغادير (جنوب المغرب) بين 13 و18 يونيو (حزيران) المقبل، يتم خلاله عرض أفلام سينمائية جديدة، طويلة وقصيرة، تتناول موضوع الهجرة وتداعياتها الاجتماعية والنفسية والأسرية.
ومن جهتها، تشهد مدن الصويرة ومراكش والرباط والدار البيضاء جولة لمهرجان موسيقى "كناوة" في الفترة بين 3 و24 يونيو، على أن تضم العروض موسيقى الجاز والبلوز والموسيقى الأفريقية وموسيقى الفولك والفانك والموسيقى الكوبية، في مزج مع كبار "فناني كناوة".
وفي مدينة مراكش ينعقد في بداية الشهر المقبل المهرجان الثقافي الدولي الأول للفن التشكيلي، الذي يهدف إلى التعريف بخصائص ومميزات الفنون والثقافة الصحراوية، من خلال عيون عدد من فناني العالم الذين سيحضرون إلى المغرب بمختلف مدارسهم التشكيلية المتنوعة.
وإضافة إلى السينما والموسيقى والفن التشكيلي، يحاول المسرح بدوره أن يجد انتعاشة تليق بسمعته كـ"أب الفنون"، وعليه تنظم جولات مسرحية في مدن عدة، بعد فترة طويلة من إغلاق المسارح بسبب الجائحة، ويجمع المهرجان الدولي "مسرح وثقافات"، الذي يختتم في 28 مايو (آذار) الجاري، تجارب عدة وعروضاً مسرحية.
السينما أكثر
ويعرف المغرب بتنظيم مهرجانات سينمائية عدة خصوصاً في فصل الصيف، وهي ملاحظة تطرق إليها من قبل المهدي بنسعيد، وزير الثقافة والتواصل المغربي، الذي انتقد العدد الهائل للمهرجانات، التي تتجاوز الـ90 مهرجاناً كل سنة، داعياً إلى تقليص هذا العدد بطريقة عقلانية وناجعة.
واقترح المسؤول الحكومي المغربي دمج المهرجانات الصغيرة، وتنظيم 12 مهرجاناً في السنة، توزع على 12 جهة تتشكل منها البلاد (الجهة تضم عديداً من المدن والمحافظات)، مع الحفاظ على المهرجان الدولي للفيلم الذي يقام في مدينة مراكش، بالنظر إلى إشعاعه العالمي.
والغاية من هذا الاقتراح، وفق وزير الثقافة المغربي، هو الرفع من جودة المهرجانات السينمائية، عوض التنظيم من أجل التنظيم فقط، وتحويل جهود التنظيم وصرف الأموال إلى عقد مهرجان سينمائي كبير يليق بالمغرب.
ويرى نور الدين عيوش، رئيس مؤسسة الفنون الحية، أن المهرجانات السينمائية هي الرئة الفنية التي يتنفس منها المغرب، وأنها تكون مناسبة ليس فقط لعرض الأفلام والإبداعات السينمائية الوطنية، بل هي فضاءات لتلاقح الأفكار والتجارب الفنية والسينمائية.
ووفق عيوش، فإن تنظيم مهرجان فني وسينمائي كبير بإشعاع محلي ودولي، هو أفضل من مهرجانات محلية عدة من دون تقديم إضافات معتبرة، مبرزاً أنه بعد فترة الجائحة من المهم جداً أحياء الصلة بين الفاعلين السينمائيين والمثقفين لتعويض ما مضى وبذل مزيد من العطاء والإبداع.
"مدينة النحاس"
وإذا كان تنظيم المهرجانات السينمائية يتسم بالوفرة والكثرة في المغرب، فإن عدد اللقاءات والمهرجانات الثقافية الكبرى المرتبطة بالكتاب والأدب والنشر يبقى قليلاً، وعلى رأسها المعرض الدولي للكتاب والنشر الذي تأجل عامين بسبب الفيروس، وسينظم الشهر المقبل في مدينة الرباط باعتبارها عاصمة للثقافة الأفريقية، بشكل استثنائي عوضاً عن الدار البيضاء التي دأبت على احتضانه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول عبده حقي، كاتب وإعلامي مغربي في هذا الصدد، إن المغرب عاش ما يشبه "مدينة النحاس" بسبب تعليق وتجميد البرامج الثقافية وتأجيلها إلى موعد غير معلوم تحت رحمة الجائحة، أو إقفال الفضاءات والقاعات مثل صالونات المعارض التشكيلية والمسارح وقاعات السينما وساحات الفرجة، مثل ساحة جامع الفنا الشهيرة عالمياً في مراكش.
ويرى حقي أن هذه الإغلاقات كانت لها تكلفة باهظة جداً على المستوى السياحي والثقافي والترفيهي والرياضي، الذي طاول كل الفئات المجتمعية، وأغرقت هذه القطاعات في واقع سلبي لم تسبق أن عاشته منذ أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية وأزمة المجاعة، أو ما يسمى عام "البون" في المغرب.
ويستدرك الفاعل الثقافي ذاته بأنه "على الرغم من القتامة التاريخية التي فرضتها الجائحة، حاول الفاعلون في المجال الثقافي إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من خلال استثمار الإمكانات التي تتيحها الوسائط التكنولوجية والتطبيقات الرقمية، من قبيل عقد الندوات الفكرية عن بعد".
استرجاع العافية
ويستطرد عبده حقي أن الجسم الثقافي أصبح يسترجع عافيته تدريجياً، خصوصاً في المجال السينمائي، حيث تعرف جميع جهات المغرب كثيراً من المهرجانات الموسمية، وفي طليعتها المهرجان السينمائي العالمي بمراكش الذي سينظم في الفترة الممتدة من 11 إلى 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 بعد تأجيله لموسمين متتاليين بسبب جائحة كورونا.
وتابع المتحدث، "على الرغم من الندوب والأضرار التي خلفتها الجائحة، تحققت مكاسب ذاتية وجماعية في ظل الحجر الصحي الشامل، حيث حتمت على عديد من الجمعيات والفاعلين الذاتيين أن يفكروا بجد في جعل الوسائط التكنولوجية والإمكانات الرقمية رافعة هامة للنهوض بالفعل الثقافي عن بعد وعن قرب على حد سواء".
واسترسل حقي بأن "هذا الواقع سيكون له تداعياته الإيجابية على صعيد الاقتصاد في توفير اللوجيستي والدعم المالي والمعدات المخصصة لتنفيذ بعض البرامج الثقافية، وخصوصاً ما تعلق بعقد المؤتمرات والندوات الفكرية واللقاءات الثقافية".